كتب

قبة الصخرة كانت أعظم الأبنية تأثيرا في العمارة الأوروبية

كانت قبة الصخرة أعظم الأبنية تأثيرا في أوروبا بما لا يُقاس، وتم تقليدُهُ بشكل واسع في كنائس العصور الوسطى  (الأناضول)
كانت قبة الصخرة أعظم الأبنية تأثيرا في أوروبا بما لا يُقاس، وتم تقليدُهُ بشكل واسع في كنائس العصور الوسطى (الأناضول)

الكتاب: "السرقة من المسلمين"

الكاتبة: ديانا دارك
المترجم: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم) ناشرون، بيروت) لبنان، الطبعة الأولى 2022

(574 صفحة من القطع الكبير)

 

هذا الفصل هو الأطول، بسبب العدد الكبير من الابتكارات في الأسلوب التي ظهرت خلال القرن الأول في الإسلام، والتي كان لها تأثير مباشر على التطورات المعمارية بعد ذلك في أوروبا، بما أن كثيراً من هذه المواد ربما كانت جديدة على القرّاء الذي لا يعرفون كثيراً عن الخلافة الأموية، فقد قُسّم هذا الفصل إلى عناوين فرعية استندت بشكل أساسي إلى الأبنية الرئيسية ذاتها لتوضيح الشرح ما أمكن.

 

وجود العرب في الشرق الأوسط قبل الإسلام

 

من المهم ذكر أن كثيراً من العرب كانوا يعيشون في الأجزاء الحضرية من الهلال الخصيب قبل بدء الفتوحات الإسلامية سنة 634، وذلك على العكس من الانطباع العام بأن العرب قد خرجوا من شبه الجزيرة العربية لأول مرة من القرن السابع، كان الأمويون عشيرة مكية ستغزو سورية، وسيمتد فرعٌ منها ليحكم إسبانيا بعد ذلك من القرن الثامن حتى أوائل القرن الحادي عشر، امتلك الأمويون أراضٍ في بلاد الشام بفضل علاقاتهم التجارية الواسعة، وقد تمكّنوا من تطوير تحالفات اقتصادية وعسكرية مع القبائل البدوية في تلك المناطق التاريخية بفضل تنظيمهم لقوافل شمالاً إلى سورية وجنوباً إلى اليمن، وكانوا ينقلون بضائعهم عبر تلك الأرجاء، كان الأمويون عشيرة قوية داخل قبيلة قريش التي عاشت وسيطرت على مكة (كان النبي محمد نفسه ينتمي إلى فرع أقل قوة في قريش)، انحدر الأمويون من أمية بن عبد شمس، وأصبحوا أول سلالة حاكمة وراثية في الإسلام، والسلالة الوحيدة التي حكمت جميع أرجاء العالم الإسلامي الموحّد في زمنها، قبل أن يتشظى إلى سلالات منافسة.

 

عارض الأمويون في البداية دين الإسلام الجديد الموحّد بحكم كونهم عشيرة قوية في حد ذاتها، إلا أنهم اعتنقوا الإسلام قبل وفاة النبي، وتمت مكافأتهم بتعييناتٍ في مراكز قوية، مثل معاوية الذي أسس حُكم هذه السلالة، وكان أول خليفة فيها، كان قبل ذلك والياً على سورية، وتمتّع بدعم وولاء القبائل العربية السورية التي كانت خليفته في التجارة، حتى قبل الإسلام، استمدّ الأمويون قوتهم من دورهم كحرّاس للملاذ المقدّس في مكة، وحُماة للحجاج الذين كانوا يزورونها كل عام، رجال العشيرة الأصليين الذين انحدروا منهم جميعاً، بمن فيهم أمية نفسه، كانوا مسؤولين عن أمور مكة العسكرية في الحروب المتكررة ضد القبائل البدوية الجامحة، منح هذا مهارات عسكرية وتموينية وتنظيمية لأبناء ما سيُصبح اسمه البيت الأموي، وتمكّنوا من تطبيقها تماماً في الفتوحات العربية السريعة لشمال أفريقيا وإسبانيا وآسيا الوسطى (فيما هو الآن العراق وإيران وأوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزيستان وكازاخستان وأرمينيا وجورجيا وحتى محافظة السند في باكستان).

 

درس باحثون من أمثال ديفيد غراف (David Graf) النقوش والكتابات الأولى التي تُثبِتُ أن الوجود العربي في الهلال الخصيب يرجع إلى القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، لا تتحدّث المصادر الهلنستية إلا نادراً عن السكان الأصليين المحليين، غير أننا نعلم الآن أنه قبل وصول الإسكندر المقدوني سنة 333 قبل الميلاد، كان هنالك مزيجٌ ثقافي في سورية وشرق المتوسط ـ بكلمة أخرى "الأرض المقدسة" حيث نشأت المسيحية واليهودية ـ، وكان هذا المزيج يتألفُ بشكل رئيسي من الأدوميين والعرب، مع شذرات من الأسماء اليهودية والفينيقية والفارسية ـ البارثية والبابلية والمصرية، ضمّت مناطق سوريا الكبرى (بلاد الشام باللغة العربية) القدس وبحيرة طبريا والبحر الميت حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية والحرب العالمية الأولى، تُظهر الاكتشافات الأثرية أن كثيراً من العرب لم يكونوا بدواً، بل كانوا جزءاً من السكان الحضر المستقرين، وشكّلوا مجتمعاً زراعياً انشغل برعاية الحقول والبساتين، وما زالت أشهُرُ الحصاد ـ تموز وآب ـ تحمل الأسماء العربية (والعبرية والتركية) لشهري يوليو وأغسطس حتى هذه الأيام، وهي مُشتقة من اللغة السريانية المحلية، وترجع في أصولها إلى التقويم الآشوري، وبينما كانت الإغريقية هي لغة الكتابة التي استخدمتها الحكومات منذ الإسكندر، إلا أن الآرامية كانت هي اللغة السائدة في الشرق الأدنى بلهجات متنوعة مكتوبة ومحكية، مثل النّبطية والتدمرية والسريانية، ربما يمكن رسم مقارنة مشابهة في إنكلترا القرون الوسطى مثلاً حيث كانت مساجلات المحاكم باللغة الإنكليزية، غير أنها كانت تُسجل باللغة اللاتينية.

 

يتحدث العهد القديم من الكتاب المقدس عن الفلسطينيين، وهم الشعب الذي منح اسمه للفلسطينيين المُعاصرين (على الرغم من أن الفلسطينيين المعاصرين يدّعون أنهم أحفاد الكنعانيين)، ولكن اختبارات وراثية حديثة للحمض النووي لأصول الفلسطينيين القدماء تُظهر أنهم جاؤوا من جزرٍ في بحر إيجة، مما أعطى وزناً أكبر للفكرة القديمة أنهم "شعب البحر" الغامض الذي جاء إلى شواطئ المتوسط قبل 3000 سنة، تنقّلت الشعوب في العالم القديم مثلما يفعلون في العالم الحديث، وربما للأسباب نفسها، الحرب وتزايد السكان أو بحثاً عن فُرصٍ اقتصادية أفضل، خلال قرنَين من الزمن، أصبح الحمض النووي للفلسطينيين القدماء مماثلاً لما هاو عند السكان المحليين، وهذا يُرجحُ أنهم قد اندمجوا معهم بسرعة.

 

نُشاهد مِراراً وتكراراً أن منطقة تقاطع طرقٍ تجارية استراتيجيةٍ مثل الشرق الأوسط ستتطور دائماً لتحتوي مزيجاً متعدد الثقافات والإثنيات من جميع الحضارات السابقة التي سادت فيها ـ البابليون والسومريون والآراميون والآشوريون والفرس والمصريون والإغريق والرومان ـ حيث يبني كل منهم ويطور اختراعات وإبداعات من جاء قبلهم، سواء حدث ذلك من خلال الحرب أو بالتعاون الطوعي المشترك.

 

العلاقات مع المسيحيين

 

عندما تُوفِّي النبي محمد فجأة سنة 632 دون أن يُنَصِّب أحداً بعده أو يُسمّي خليفته، فقد تُرِكت لمن جاء بعده من الخلفاء مهمةُ إكمال رسالته في نشر دين الإسلام الجديد، لا شك بأن كسب الغنائم كان جزءاً من الدافع لنشر الدين الجديد، لأن سورية في الشمال كانت معروفة بأنها أرضُ خصوبةٍ وثروات، ولكن لم تُتَّبع أبداً سياسة القتل الجماعي للسكان الأصليين، بل على العكس من ذلك، فحسب رواية الواقِدي (747 - 823) المؤرّخ الإسلامي المبكر، فقد نصَّت التعليمات الصّريحة للمقاتلين المسلمين على:

 

"إذا لقيتم القوم فلا تولوهم الأدبار "وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحرِّفاً لِقِتالٍ أو مُتَحيِّزاً إلى فِئةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهَ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ" (الأنفال: 16). وإذا نُصِرتم على عدوكم، فلا تقتلوا ولداً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا تعقروا بهيمةً إلا بهيمة المأكول، ولا تغدروا إذا عاهدتم، ولا تنقضوا إذا صالحتم، وستمرون على قومٍ في الصّوامِع رُهباناً يزعمون أنهم تترهّبوا في الله، فدعوهم، ولا تهدموا صوامعهم، وستجدون قوماً آخرين من حِزب الشيطان وعبدة الصلبان قد حلقوا أوساط رؤوسهم فاعلوهم بسيوفكم حتى يرجِعوا إلى الإسلام أو يُعطُوا الجِزية عن يدٍ وهم صاغِرون، وقد استودعتكم الله"، (من وصية أبي بكر الصّديق إلى جيش الإسلام).

 

بقيتْ كنيسةُ القيامة كنيسةً مسيحية في القُدس تحت حُكم المسلمين، وكانت المراكز المسيحية في المدينة تحت حماية الحكّام المسلمين الأوائل مُنِع استخدام الكنائس كمنازل للسكن، كما مُنِع هدمها، وذلك على عكس ما فعله الفرس الساسانيون الذي أحرقوا كنيسة القيامة سنة 614، واستولوا على الصليب الحقيقي، يُروى أن الخليفة عمر قد أصدر قراراً يمنع المسلمين من الصلاة في كنيسة القيامة.

 

السُّلالة الحاكمة المسلمة الأولى:

 

لطالما اشتهرت دمشق بأنها فردوس سوريا، وكانت اختيار معاوية الواضح حينما كان والياً على سوريا لجعلها عاصمةً للإمبراطورية الإسلامية الجديدة المُتسارعة في التوسع، ولدت السلالة الحاكمة المسلمة الأولى عندما استلم الحُكم ابنه يزيد، وحصل على لقب الخليفة، وتبعه في ذلك 12 خليفة من الأٍسرة الأموية، واستمرّت حوالي قرنٍ من الزمان حتى سنة 750.

 

عندما وصلتْ أوجَ امتدادها، غطّت الخلافة التي كان مركزها دمشق أكثر من 15 مليون كيلومتراً مربعاً، من جنوب فرنسا إلى الهند وتُخوم الصين، وهذا يجعلها خامس أكبر إمبراطورية في التاريخ من حيث المساحة ونسبة عدد سكانها في العالم، سرعان ما أصبحت اللغة العربية لغة الإدارة الرسمية التي استُخدمت في كتابة جميع الوثائق، وبالإضافة إلى العربية، تم التحدث بلغات أخرى في أرجاء الإمبراطورية مثل القبطية واليونانية واللاتينية والفارسية والآرامية والأرمنية والجورجية والبربرية والأفريقية والإسبانية والرومية والسندية والهندية، كان عهداً من الحيوية والنشاط في ظل حكام جدد استوعبوا، بل وضموا السكان اليهود والمسيحيين طالما أنهم يدفعون ضريبتهم الخاصة (الجزية)، وكانت فترة إبداعات معمارية ضخمة، لأن المعماريين والحرفيين المحليين قد حصلوا على دفعة جديدة وطاقة حيوية لخلق أساليب جديدة، عُرِفت الخلافةُ الأموية بتوليفها الفريد في الفن والعمارة، ودمج الحِرف والحرفيين من أصول شرقية وغربية.

 

قبّة الصخرة

 

في معرض وصفها لقبة الصخرة ، تقول الكاتبة ديانا دارك:"يُعتَبر مسجد قبة الصخرة في القدس أول تصريحٍ معماري وسياسي وإسلامي يُعبّر عن سيطرتها في عالمٍ مسيحي سابق، ويعتبر مؤرخون غربيون هذا الصرح البديع بناء بيزنطياً في أسس عناصره المعمارية، ولكن، على الرغم من أن شكله المُثمّن ذي القبة مستوحى فعلاً من نُصُب الشهداء المسيحيين، وأن ممراته الداخلية ذات الأعمدة ربما تكون مستوحاة من كنيسة بصرى الشام التي بُنيت في القرن السادس، إلا أن التشابه ينتهي عند ذلك، لأن الفسيفساء الملونة على سطوحه الخارجية بهذه الطريقة الاستثنائية لا تُشاهد في أي بناءٍ بيزنطي، إنها الأولى، يُظهِر البناءُ أيضاً إبداعَين مهمَّين لم يُشاهَد مثلهما من قبل في العمارة المسيحية: القوس المدبب والقوس الثلاثي الفصوص، سرعان ما تم تبنّي هذين الإبداعَين بحماس في المسيحية حتى أصبحا من السمات المعمارية المميزة للكنائس والكاتدرائيات المسيحية القوطية، هناك معنى خاص للشكل المثمن في الإسلام أيضاً، لأن التعبير عن مفهوم الجنة يمكن أن يُقدم بشكل ثمان حدائق لها ثمانية أبواب، ولذا فإن جميع نوافير الساحات الداخلية في عمارة البيوت الإسلامية ذات شكلٍ مثمَّن الأضلاع.

 

لا يمكن المبالغة في أهمية قبّة الصخرة، لأنها أقدم هيكل ديني إسلامي بقي حتى الآن دون تغيير كبير، ولأنها ثالث أقدس الأماكن بعد مكة والمدينة، بُنيت في القدس سنة 691 ـ 692 في عهد الخليفة الأموي عبد الملك، الذي انتظر مع من سبقه من الخلفاء الأمويين أكثر من ثلاثين سنة قبل البدء بالبِناء بأسلوبهم الخاص، كانت قبة الصخرة أول تجسيد صريح بالقوة عبر عن إمبراطورية شاسعة غنية بفضل الضرائب والسيطرة على طرق التجارة تحت حُكم الأمويين، كانت صرحاً تم تصميمه لوضع ختم علامة الهوية الإسلامية في القدس، وإعلان السيادة الإسلامية على المدينة المسيحية السابقة، في السنوات الأولى، رضي المسلمون المنتصرون باستخدام الكنائس المحلية بشكل عام، أو بمشاركتها مع المسيحيين المحليين، دفع هذا الواقع بعض الباحثين للتفكير بأنه عندما وصل الفاتحون المسلمون الأوائل، ربما لم ينتبه السكان المحليون إلى أنهم قد جلبوا ديناً جديداً معهم، تم عرض الإسلام بأنه آخر وأنقى الأديان التوحيدية العالمية الثلاثة، وقد وُصِفَ النبي محمد في القرآن بأنه خاتَم الرُّسل، واعتُرِفَ بالمسيح كنبيٍّ رئيسيٍّ سابق، تمّ تبجيلُهُ وأمُّهُ السيدة العذراء مريم(ص 158)..

 

ما زالت قبة الصخرة حتى اليوم الرمز الوحيد الأكثر شهرة في تمييز مدينة القدس كعلامة بارزة لا لبس فيها بقبتها الذهبية البراقة، وجدرانها المُغطّاة بالسيراميك الفسيفسائي الملوّن، ترتفع عاليةً في القدس القديمة فوق هضبة يُسميها المسلمون: الحرم الشريف، بينما يسميها اليهود: جبل الهيكل، يوجد في ذلك الموقع المقدس أيضاً الجامع الأقصى مقابل قبة الصخرة في الجهة الجنوبية من الموقع المقدس مواجهاً مكة المكرمة. بنى عبد الملك هذا الجامع أيضاً، غير أنه تعرض لتغييرات كثيرة، وأُعيد بناؤه على مر القرون فلم يبقَ فيه كثيرٌ من السمات الأموية الأصلية، كانت مساحته الأصلية واسعة جداً ضمت 15 ساحة تتسع لحوالي 5000 من المُصلّين، عندما احتلَّ الصليبيون مدينة القدس بعد ذلك بأربعة قرون، ظنُّوا أن الأقصى هو قصر سليمان، واستخدموه مركزاً لقيادتهم، واسطبلاً لخيولهم، أما قبة الصخرة فقد حسب الصليبيون أنها هيكل سليمان، واستخدموها كنيسةً، ووضعوا صليباً فوقها، وأطلقوا عليها اسم: "هيكل الله"..

 

ما زال كثير ممن لا يعرفون القدس يظنون أن قبة الصخرة هي بناء مسيحي أو يهودي، لأنها استخدمت كثيراً في المواد الدعائية كتحفةٍ معمارية تمثل مدينة القدس، ويظنون أنها مبنية فوق هيكل سليمان اليهودي، وربما من المفيد هنا ذكرُ عدم وجود أبنية مشهورة ترتبط باليهودية منذ تهديم الهيكل الثاني سنة 70 ميلادية، الحائط الغربي، أو حائط المبكى هو بُؤرةُ الصلوات اليهودية، وهو جدارٌ استنادي لقصر هيرودس (Herod’s Palace) (يقع تحت الحرم الشريف وبشكل منفصل عنه)، مما يجعل هذا المكان أكثر المواقع قداسة في مدينة القدس، يُبجِّلُ اليهود المكان إذ يعتقدون أن وجود الله المقدس يتجلى فيه، أُجريت حفريات إسرائيلية تحت الحرم الشريف مثيرة للجدل والخلاف على مدى عقود، ويُسيطر الإسرائيليون على الدخول والأمن في جبل الهيكل منذ حرب 1967 لإثبات الشرعية الإسرائيلية، بثّت المواقع الدينية مشاعر عميقة يمكن أن تُثير خلافات شديدة في أي وقت.

 

تم إنشاء هندسة وتناسب قبة الصخرة بارتفاعٍ غير عادي لأسطوانتها المركزية، وبدقة جعلت القبة ذاتها ملفتة للنظر بشكل واضح من بعيد، لا تحتاج إلى الدخول فيها لكي تتمكن من إدراك رسالتها، وذلك في تباين واضح واختلافٍ بيِّن عن كنيسة القيامة، تبتعد قبة الصخرة عن كل التقاليد الطقوسية للكنائس والمعموديات المسيحية بفضل عدم وجود تصاعد هرمي فيها، وغياب وظيفتها الواضحة كمكانٍ مخصص للعبادة، إنها ليست مسجداً – إذ أن المسجد هنا، كان وما زال هو الجامع الأقصى –بل هي بمثابة مزارٍ مقدّس تم تصميمه لكي يحيط بالصخرة المقدسة التي يُقال إن إبراهيم قدّم ابنه للتضحية عليها (عيد الأضحى هو أهم عيد سنوي للمسلمين، وهو يُعادل في الأهمية عيد الميلاد عند المسيحيين)، يستمدُّ الموقع قُدسيَّته كثيراً بسبب ذكرِهِ في السورة 17 من القرآن: ﴿سُبحان الذي أسرى بعبدِهِ ليلاً منَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصا..﴾ (الإسراء 1).

ظُهور وازدهار كثير من الكنائس والكاتدرائيات القوطية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في كافة أرجاء شمال أوروبا يُعبِّرُ عن ثروةٍ ضخمة، كانت تلك الأبنية القوطية مشبعة بزخرفات إسلامية، وبُنيت حسب طرق بناء القِباب والسقوف والأقواس الإسلامية،

حسب الموروث الإسلامي، انطلق النبي محمد في رحلته الليلية نحو السماء على ظهر البراق في تلك الرحلة التي تُسمى الإسراء والمعراج، ويُحتفل بهذه المناسبة في التقويم الإسلامي.

 

وتضيف الكاتبة ديانا دارك :"أنشأ الإمبراطور الروماني هادريان معبداً وثنياً على ذلك الجبل، إلا أنه هُدِم مثلما هُدِمت جميع المعابد الوثنية الأخرى في المدينة بأوامر من الملكة هيلينا والدة الإمبراطور قسطنطين، عندما زارت القدس في القرن الرابع، ومن الغريب أن المسيحيين الجدد بعد ذلك اعتبروا تلك المنطقة ملعونة وهجروها، وهكذا على مرّ القرون الثلاثة التالية، تحولت تلك الهضبة إلى مكبّ نفايات المدينة، ساعد الخليفة عمر على تنظيفها، وساهم في ذلك بيديه سنة 638، وأمر ببناء جامعٍ خشبي بسيط هناك في موقع جبل الهيكل، وفي المكان ذاته الذي بنى فيه عبد الملك قبة الصخرة فيما بعد، تم توقيع اتفاقية مع البطريرك المسيحي لضمان حماية المواقع المسيحية المقدسة تحت حكم المسلمين، وهكذا تُركت كنيسة القيامة، التي تقع على بعد حوالي 500 متر إلى جهة الغرب، لكي تعمل كما كانت تماماً، وسُمِح لليهود بالعودة إلى المدينة بعد أن كان الرومان قد منعوهم من دخولها، أعاد الأمويون كذلك بناءَ وزخرفة البوابة الذهبية والبوابة المزدوجة اللتين كانتا المدخل الأصلي لجبل الهيكل، وتم تحصينهما بعد ذلك في العصور الوسطى، المدينة المسيحية المدمرة التي كانت تستعيد عافيتها من الحُكم الفارسي غير المباشر، ردَّ لها المسلمون حيويتها بوجودهم الاقتصادي والعسكري والثقافي الجديد، أنتج الإسلام دائماً بيئةً مناسبة للتجارة في مُدُنه ـ ومكّة كانت مدينةً تجارية ومالية، وكان تجّارها ماهرون جداً ومنظّمون، منحتهم إمبراطوريتهم الجديدة الآن سوقاً موحّداً ضخماً.

 

من أجل هدفنا هنا الآن، ولكي نُدرك أهمية قبة الصخرة بالنسبة للعمارة الأوروبية، يجب علينا أن ندخل إلى هذا الصرح لرؤية الأقواس المدببة في الممر الدائري داخل الممر المثمن تحت القبة، يستخدم الإسلام الأقواس المدببة هنا بطريقة توحي بأنها ستصبح، عن قيدٍ أو من غير قصد، السمة الوحيدة الأساسية التي تختلفُ فيها العمارة الإسلامية عن العمارة المسيحية، استندت العمارة المسيحية حتى ذلك الوقت إلى القوس الروماني أو البيزنطي، والقوس المدبب ليس اختراعاً إسلامياً، لأن نماذج منفردة متفرقة منه يمكن أن تُشاهد في سورية وفارس قبل الإسلام، ولكن المسلمين كانوا أول من استخدمه بشكل واسع، بالإضافة إلى أشكال أقواس أخرى كثيرة، القوسُ هو السمة المعمارية الإسلامية الواضحة المفضلة، وهناك مثلٌ إسلامي يقول: "القوس لا ينام أبداً" ـ مما يُظهر وعياً لقوّته الديناميكية ومرونته، يتغير دائماً، ويتأقلم دائماً وفق ما يُطلب منه، ربما بدأ استخدام القوس في قبة الصخرة في اكتشافٍ عرضيّ برز فجأة من الرغبة بإنشاء ممرٍ دائري حول الصخرة المقدسة لكي يستطيع الناس الطواف حولها مثل مزار، وكما يفعلون في مكة (ص 162ـ 163).

 

كانت قبة الصخرة أعظم تلك الأبنية تأثيراً في أوروبا بما لا يُقاس، وتم تقليدُهُ بشكل واسع في كنائس العصور الوسطى. ولم يظهر ذلك التأثير فقط في الكنائس الدائرية لفرسان الهيكل، بل ظهر كذلك في كنائس بُنيت بممرات مسقوفة لتسهيل حركة الحجاج في الكنيسة وحول المذبح حيث كانت تُحفَظُ آثارُ القديسين عادةً. لا شك بأن المسلمين كانوا يعرفون الطواف آنذاك بسبب طقوس حجهم إلى الكعبة في مكة، وهي أقدس المواقع في الإسلام، يشترك الإسلام والمسيحية في كثير من مبادئ طقوس الحج ـ الاختلاف الوحيد هو في جهة الطواف، إذ يطوف المسيحيون في اتّجاه حركة دوران الشمس، بينما يطوفُ المسلمون في الاتجاه المعاكس.

 

من المؤكد أنه قد تم تشغيل حرفيين مسيحيين مهرة في أعمال الفسيفساء في قبة الصخرة، إلا أنهم اشتغلوا حينها في خدمة سادة جدد، لا يوجد رسمٌ لأشخاص في فسيفساء البلاط، ولكن الرسالة الوحيدة الأعظم أهمية تُشاهَد في الكتابة التي يبلغ طولها 240 متراً، والتي تسرُدُ نصاً من القرآن (المائدة 171) يلوم المسيحيين على إيمانهم بألوهية المسيح:

 

﴿يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منهُ ُفآمِنوا باللهِ ورسولِهِ ولا تقولو ثلاثةٌ انتهُوا خيراً لكم إنما الله إلهٌ واحدٌ سُبحانه أن يكون له ولدٌ لهُ ما في السموات وما في الأرضِ وكفى بالله وكيلاً﴾[171] .

 

أجواء الحروب الثقافية بدلاً من حوار الثقافات والحضارات

 

الغرب "سرق" ممن اعتبرهم لصوصًا وسرَّاقا، نحن نعيشُ في زمنٍ ساءت فيه أحوال الحروب الثقافية، كثيرٌ مما يقوله الناس في هذه الحروب غير صادق، ويُقصدُ به إهمال جميع المساهمات الجليلة التي قام بها آخرون، على الرغم من وجود تأثيرات إسلامية واضحة على نمط العمارة في فينيسيا، إلا أننا نُفضِّلُ الإشارة إليها باسمِ "النمط القوطي الفينيسي" بدلاً من قولنا "النمط الإسلامي الفينيسي".

 

يميل المؤرخون الأكاديميون إلى التركيز على عصور محددة، فيصبحوا مختصين بتلك الفترة أو غيرها، وهو ميل يمكن أن يقودهم بالضرورة إلى إهمال فترات أخرى ذات صلة، ولكن الحقيقة، كما اكتشفت في كتابة هذا الكتاب، هي أن كل شيء مترابطٍ وله علاقة.

 

ظُهور وازدهار كثير من الكنائس والكاتدرائيات القوطية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في كافة أرجاء شمال أوروبا يُعبِّرُ عن ثروةٍ ضخمة، كانت تلك الأبنية القوطية مشبعة بزخرفات إسلامية، وبُنيت حسب طرق بناء القِباب والسقوف والأقواس الإسلامية، وكانت ممولة أيضاً بثروات تم الحصول عليها بطريقة أو بأخرى من خلال علاقات مع العالم الإسلامي، أو حتى لمزيد من المفارقة، من خلال نهب القسطنطينية المسيحية الإغريقية الأرثوذكسية أثناء الحملة الصليبية الرابعة سنة 1204.

 

انقضت أكثر من 700 سنة على آخر الحملات الصليبية، وعلى الرغم من الجدل اللانهائي حول ما إذا كانت تصرفات جميع الأطراف السياسية التي انخرطت في ذلك الصراع مخطئة أو صائبة، فلا يوجد كثيرٌ من الجدال حول التبادل الثقافي الذي حدث آنذاك ـ وفي قرونٍ سابقة لذلك عبر إسبانيا وصقلية المسلمتين ـ بين الفرنجة والإسبان والنورمانديين والبيزنطيين والأرمن والأتراك السلاجقة والعرب وغيرهم. وحسبما نعلم الآن من بعيد، فإن معظم الأوروبيين أنفسهم في العصور الوسطى لم يُدركوا مدى عظم ذلك التأثير، وكيف أدى إلى الازدهار الثقافي والمعماري الذي شوهِد في أوروبا في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر.

 

التشابه المعماري الذي شرحته الكاتبة ديانا دراك بين برج ساعة بيغ بين والمئذنة السلجوقية في حلب، سيثير دون شك صرخات اعتِراض عالية في بعض الأماكن، مثلما ستُثير مُقارنتي بين المعماري رِن والمِعمار سِنان، إلا أنني أفضل أن أتصور أن رِن نفسه، بكلّ ما يتمتع به من عقلية منفتحة وتقبل للاختلاف، سيجد مقارنتي مثيرة للاهتمام، وآمل أنه كان سيستمتع بقراءة دفاعي عن نظريته بأن "ما نُسمّيه الآن بشكل مبتذل: النمط "القوطي"، يجب أن يُسمى بشكل صحيح وحقيقي: النمط الساراسني (أي الإسلامي )في العمارة".

 

وتختتم الكاتبة ديانا دراك كتابها القيم جدًّابما يلي:"بعد هذا الاستكشاف في أصول الفن والعمارة الإسلامية كما يظهر أوضح ما يمكن في سوريا القديمة، أعتقد أنه كان على حق، وعلى العكس من رِن، فقد أُتيحت لي الفرصة مراتٍ كثيرة منذ سبعينيات القرن العشرين لزيادة أبنيةٍ موزّعة فيما هي الآن دولُ: سورية والأردن ولبنان وفلسطين وإسرائيل وتركيا، مثل الجامع الأموي الكبير بدمشق، وقبّة الصخرة الأموية، وقصور الصحراء الأموية، ومدينة عنجر الأموية، تمكّنت من لمس حجارتها والتشبع برحيقها، ولكن بفضل رِن، عندما أنظُر الآن إلى الأقواس الثلاثية الفصوص والنوافذ المُدبَّبة في كثيرٍ من كنائسنا وكاتدرائياتنا، وسقف المروحة، ومواضع الجوقة ذات الخشب المحفور بإتقانٍ والغنيَّة بأغصان الكرمةِ المُلتفَّةِ والأوراق الرشيقة والفاكهة الناضجة، أنظُرُ إليها بعيونٍ جديدة، وأُقدِّرها بشكل أكثر عُمقاً، لأن معرفة أُصولِها قد زادت إدراكي عُمقاً، أرى الآن ما يكمن وراءها، وما الذي تُمثّله".

إقرأ أيضا:  بحث في تاريخ الاحتكاك الحضاري بين المسلمين والغرب.. فن العمارة

إقرأ أيضا: الكاتدرائيات القوطية في أوروبا مدينة بالفضل لهندسة العمارة الإسلامية

التعليقات (0)