كتب

بحث في تاريخ الاحتكاك الحضاري بين المسلمين والغرب.. فن العمارة

كتاب يدعو إلى أهمية التعاون والتلاقي بين الثقافات بدلاً من التلاعب بنا في حروبٍ طائفيةٍ مفرِّقةٍ
كتاب يدعو إلى أهمية التعاون والتلاقي بين الثقافات بدلاً من التلاعب بنا في حروبٍ طائفيةٍ مفرِّقةٍ

الكتاب: السرقة من المسلمين

الكاتب: ديانا دارك، المترجم: د.عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2022.

(574 صفحة من القطع الكبير)

 

يُعَدُّ عنوان هذا الكتاب مثيرًا للغاية، "السرقة من السارقين"، " "Stealing from Saracen أو"السّرقة من السّاراسِن"، إذ إنَّ كلمة "السّاراسِن" تمثل وصفًا كان يستخدِمُهُ الأوروبيون في العصور الوسطى في حديثهم عن المسلمين خلال الحروب الصليبية، وما بعدها، وهي كلمة مستعارة من الكلمة العربية "السّرقة" أو ْ"السّارقين" أو "السرّاقين"، وتعكسُ نظرةَ الأوروبيين المُسْتَعْلِيَةِ إلى المسلمين العرب في شرق المتوسط، وفي إسبانيا وصقلية، مثلما استُخدِمتْ كلمة"Assassin" في اللغة الفرنسية بمعنى "قاتل أو سفّاح" باستِعارةٍ من الكلمة العربية "الحَشَّاشين" التي تدلُّ على فئةٍ من الحركات الباطنية العنيفة التي نَشطَتْ في بلاد فارس والشام بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر. وكذلك اسم "المورز" الذي استُخدِم في إسبانيا لوصف سكان شمال أفريقيا والمسلمين في الأندلس.

 

بُعِثَ هذا الكتاب من رماد حريق نوتردام باريس في 15 أبريل 2020، حسب ما ذكرته الكاتبة في المقدمة، حيث وقفَ العالمُ مذهولاً في تلك الليلة المصيرية أمام صُور الكاتدرائية التي تلتهمها النيران، إذ لم يتخيل أحدٌ أنّ بناءً يحترق يمكن أن يثير كلّ هذا الاهتمام، ويشدَّ اهتمامَ جماهير العالم أياماً عديدة. دخلت الأمةُ الفرنسية في حدادٍ عام فاجَأ الجميع.

 

لماذا؟ ما الذي يُمثِّله هذا البناء للفرنسيين وللعالم؟ يبدو في تصريحات زُعماء العالم والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الكاتدرائية قد لخَّصت القومية الفرنسية بطريقة ما. كانت الأمة الفرنسية تحترق تعاطُفاً، وأظهرت الإحصائيات في تلك الدولة أنه قبل الحريق، كان أقل من 5% من السكان يذهبون إلى الكنيسة، ووصف 47% أنفسهم بأنهم كاثوليكيون غير مُلتزمين، فكيف يمكن تفسير كل ذلك التدفّق في المشاعر؟

 

لا شك بأنّ جُزءاً منها كان ردَّ فعل، لأن فرنسا لديها تاريخٌ طويل من العلمانية التي بدأتْ مع ثورتها في 1789، ويضمن دستورها الآن أنّ "جميع المواطنين متساوون أمام القانون مهما كان أصلُهم أو عِرقُهم، أو دينُهم". إلا أن القرن الحادي والعشرين قدّم تحديات جديدة لم تكن متوقعة، خلال أزمة اللاجئين في أوروبا سنة 2015، وجدت فرنسا نفسها غارقةً في فيضانٍ من لاجئين عرب وأفارِقة، معظمهم من المسلمين، بعد تلك السنة، انتابت الشارع الفرنسي تشنجاتٌ بسبب سلسلةٍ من الهجمات الإرهابية التي استلهمت شعارات الدولة الإسلامية المتطرفة "داعش"، حاول كثيرون إعادة إحياء هوية قومية مسيحية رداً على تلك الاضطرابات وعلى ما تمّ تصوره من وجود خطر إسلامي.

 

خشِيَ الفرنسيون الآن من خسارة هذا الكنز الغالي من تراثِهم في قلب عاصمتهم، ورمز إيمانهم الكاثوليكي، وقالت عُمدة باريس، التي لا ترتاد الكنيسة، إنها واثقة من أن الكاتدرائية قد نجت من الانهيار بفضل قوة الدعاء والصلوات. ارتفع ارتياد الكنائس بشكل كبير بعد الحريق، وازداد عدد الحجيج السائرين بين نوتردام وشارتر، خاصة من الشباب. تشهدُ فرنسا عصر نهضةٍ دينيةٍ ويقظةٍ روحانيّةٍ، وهي فرنسا، أكثَر الدول علمانيةً حيث لا يُسمح حتى بلبس صليبٍ في مكان العمل!

 

في هذا الكتاب النوعي من حيث مضمونه التاريخي، والذي يحمل العنوان التالي: "السَّرِقةُ من السّارِقين" والصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيرت في عام 2022، والذي يتكون من المقدمة وعشرة فصول، وخاتمة، ويشمل 574 صفحة من القطع الكبير، توضح فيه الكاتبة ديانا دارك أنَّ تصميم كنيسة نوتردام المعماري، مثل جميع كاتدرائيات أوروبا، قد استُلهم من كنيسة القرن الخامس قَلب لوزة السورية عندما جلب الصليبيون أسلوبَ "البرجَين المُتماثِلَين على طرفَيّ النافذة الوردية" إلى أوروبا في القرن الثاني عشر. وما زالت تلك الكنيسة قائمةً في محافظة إدلب.

 

سرقة أم احتكاك حضاري واستلهام وتطوير؟

 

لا تقصد الكاتبة من هذا العنوان المشحون بالتّحدي "السرقة من السارقين"، السُّخرية من أوروبا، إنها تقصدُ إثارة سخرية مضاعفة لإحداث نوعٍ من الصدمة عند القارئ، إذ كيف تكونُ السّرِقة من السّارقين؟! خاصة وأنها تتحدث بشكل رئيسي عن العمارة الدينية، وتلك الكاتدرائيات القوطية العظيمة في كافة أرجاء أوروبا! ثم تضع عنواناً ثانوياً للكتاب فيه مزيدٌ من التّحدي: كيف شكَّلتْ العمارةُ الإسلامية أوروبا!

 

تَتضِحُ الصورةُ ويزولُ الغُموض منذ السُّطور الأولى من الكِتاب التي تَشرَحُ فيها السبب الذي دفعها للكتابة، وهو حَريق كاتدرائية نوتردام باريس، ورَدُّ الفِعل العنيف الذي وَصل إليها في تعليقاتٍ قاسية وجَّهَتْ إلهيا بعد أنْ ذكرتْ في تغريدةٍ عابِرةٍ بعض ما تَعرِفُهُ عن أنَّ أُصولَ العمارة القوطية ربما تَرجِعُ غالباً إلى تأثيراتٍ بالعمارة الإسلامية في شرق المتوسط والأندلس.

تصميم كنيسة نوتردام المعماري، مثل جميع كاتدرائيات أوروبا، قد استُلهم من كنيسة القرن الخامس قَلب لوزة السورية عندما جلب الصليبيون أسلوبَ "البرجَين المُتماثِلَين على طرفَي النافذة الوردية" إلى أوروبا في القرن الثاني عشر. وما زالت تلك الكنيسة قائمةً في محافظة إدلب.

 

اندفَعتْ للكتابة، وصَبَّتْ في النّص معلوماتٍ غزيرة مما تَعرفُهُ عن مفاهيم العمارة بمَهارَةِ دارِسَةٍ للفلسفة العربية، وباحثَةٍ مُهتمَّةٍ بالعَمارة، أُتيحتْ لها الفرصةُ مرات عديدة لزيارة آثار الشرق الأوسط، خاصة في سورية التي أحبَّتْها، وسَكَنَتْ في أحدِ بيوتِ دمشق القديمة، في حيٍّ أثريٍّ يَعبقُ بالتاريخ والأصالَة والياسَمين يَبدأ الكتابُ بجُملةٍ موحِيةٍ: "هذا الكتاب إهداءٌ إلى كاتدرائية نوتردام"، ثم تَنطلقُ إلى شرحٍ مفصلٍ مُستفيضٍ عن تأثير العمارة الإسلامية على العمارة القوطية في أوروبا، عبر الاحتِكاك والتبادل الثقافي والحضاري الذي حدث أثناء الحروب الصليبية في شرق المتوسط، وقبلَ ذلك في حروب الاستعادة في إسبانيا وصقلية، بالإضافة إلى التبادل الحضاري من خلال التجارة في حَوضِ المتوسط، يبدو أن التأثير قد بدأ أولاً في فينيسيا وفرنسا، ومنها إلى بقية أرجاء أوروبا.

 

وقد نَقلَ التُّجارُ والصليبيون والرحالةُ العائدون إلى أوروبا بعض ما شاهدوه من أبنيةٍ دينية ومدنية في تلك المناطق. أُعجِبوا كثيراً بالأقواس المُدبَّبة، والقِباب، وتقنيات صناعة الزجاج الملوّن، والضوء الطبيعي الذي كان يغمِرُ مسجد قرطبة والكنائس المسيحية الأولى في سورية. تتطرق المؤلفة إلى كثير من التفاصيل المعمارية، مثل البرجين التوأمين، والأقواس والقِباب المختلفة، والنوافذ ذات الزخرفة الحجرية والجبسية، والزجاج الملوّن، وكذلك الأديِرَة والحَنية والمِنَصَّة، والسقوف ذات الأضلاع، والنافذة الوَردية المُستديرة المزخرفة، وشِعارات النُّبلاء، وطريقة بناء القبّة المُضاعَفة..

 

هذه العناصر المعمارية التي تُميِّزُ العَمارة المسيحية القوطية في كاتدرائيات أوروبا وأبنِيَتِها الشهيرة، مثل بُرج ساعة بيغ بين ومبنى البرلمان في لندن، وكاتدرائية نوتردام NOTRE DAME DE PARIS) )وكاتدرائية القلب المُقدّس في باريس  LE SACRE COEURوكثير غيرها، تَرجِعُ كلُّها في رأي مُؤلِّفة الكتاب ديانا دارك إلى عناصر ظهرت أولاً في العمارة البيزنطية وعمارة بلاد ما بين النهرين، ثم تطوّرتْ في الكنائس المسيحية الأولى في سورية، وأضاف عليها الأمويون والعباسيون والأندلسيون مَزيداً من الزّخرفة والأناقة والبَراعة في بِناء القِباب المُضاعَفة، ثم انتقلت هذه العناصر إلى أوروبا في العصور الوسطى، وتم تطويرها تدريجياً إلى النّمط القوطي في فينيسيا وفرنسا، ثم النمط القوطي الجديد، حتى وصلتْ إلى ذروَتِها في الكاتدرائيات القوطية الأوروبية الفخمة.

 

على الرغم من الأدلة التي تسردها الكاتبة لإثبات وجهة نظرها، ولكن، هل يمكن أن تُسمى نتائج هذا الاحتكاك الحضاري والثقافي "سرقة"؟ ربما يكون الوصف الأكثر دقة هو "الاستلهام" أو "التطوير والإضافة". مثلما يحدُثُ ذلك دائماً في العلوم والفلسفة والأدب والفنون.. الحضارةُ بكافّة جوانِبِها هي استمرارٌ وإضافةٌ وتطويرٌ على كافة المستويات بين الحضارات الإنسانية. تتفاعلُ الحضارات، وتنقُلُ عن بعضها بعضاً. تأخذُ المفاهيم والتجارب والخبرات الناجحة، وتطور وتضيف باستمرار حتى يحدث التراكم والتطور في الثقافة والعلوم والآداب والفنون، ويُنَبِّهُنا هذا الكِتاب إلى أنّ العمارة أيضاً هي تعبيرٌ عن الفلسفة والفكر والعلاقات الاجتماعية في الحضارة.

 

تُنَبِّهُنا الكاتِبة في خاتِمة الكتاب إلى أهمية التعاون والتلاقي بين الثقافات "بدلاً من التلاعب بنا في حروبٍ طائفيةٍ مفرِّقةٍ"، وتعلن نداءها العام إلى البشرية: "حبذا لو تُستخدم العمارة بشكل إيجابي بتطبيق سياسات مستنيرة.. والتوجه نحو إعادة توطين المناطق المركزية في المُدن، حيث تستطيع المجتمعات مرة أخرى أن تبني وتتطور بشكل عضوي من جديد، وأن تصنع طريقة المستقبل ـ ربما طريقة الساراسين ـ نحو مجتمع أكثر تماسكاً وتكاملاً، حيث يستطيع الناس مرة أخرى أن يعرفوا جيرانهم، ستكون تلك استعارة معمارية يمكن أن نحتفل بها جميعاً"، ليس القصد من هذا الكتاب إثارة نعرات أو تنافس أو صراع بين الحضارات، وإنما هو دعوةٌ للتعارف وللتلاقي بين الشعوب والثقافات والحضارات وأنماط العمارة.

 

تقول الكاتبة في الخاتمة: "هذا الكِتاب هو تعبيرٌ عن اهتمامٍ بعمارة الشرق الأوسط استغرق حياةً بأكملها. لقد كان حَظّي عظيماً أن أُتيحتْ لي الفرصة لاستكشاف كثيرٍ منها على مدى عقود متتالية منذ سبعينيات القرن العشرين. وضعني هذا في موقفٍ مناسبٍ للوصلِ بين النقاط في الأُحجية العملاقة عن كيفية بناء حضاراتٍ متتالية على إنجازات ما سبقها وكيف دخلت إبداعاتُهم إلى أوروبا تدريجياً وغيّرت عمارتنا إلى الأبد بطرقٍ تم تجاوزها عن قصد، أو أنها نُسيَت بكل بساطة.

 

الأدلة المبنيّةُ ما زالت قائِمةً لرؤيتها على الرغم من أن قلة من الناس سيكونون ميالين إلى بذل الجهد في ذلك. الاضطرابات السياسية الحالية في المنطقة وعلاقاتها بالإرهاب، جعلتْ أماكن مثل الأردن ولبنان وسوريا والعراق وإيران وشرق تركيا، في أسفل لائحة المناطق التي يُنصح بزيارتها.

الحضارةُ بكافّة جوانِبِها هي استمرارٌ وإضافةٌ وتطويرٌ على كافة المستويات بين الحضارات الإنسانية. تتفاعلُ الحضارات، وتنقُلُ عن بعضها بعضاً. تأخذُ المفاهيم والتجارب والخبرات الناجحة، وتطور وتضيف باستمرار حتى يحدث التراكم والتطور في الثقافة والعلوم والآداب والفنون

 

هذه الحالة المُحزِنة من الأوضاع السيئة ربما زادت من أهمية كتابة هذا الكتاب الذي شعرت بضرورة كتابته بعد حريق كاتدرائية نوتردام في باريس. يجب أن أوضّح أن هدفي لم يكن أبداً تشويه سمعة العمارة الأوروبية وإنجازاتها البراقة الكثيرة. كانت غايتي هي تبيان أن أحداً لا يستطيع ادّعاء "ملكية" العمارة، مثلما لا يستطيع أحدٌ ادعاءَ "ملكيّة" العلم. لا توجد ملكيةٌ في اكتشافٍ علمي، إذ يُبنى كل شيءٍ على ما سبقه. وما أن يتم اكتشافٌ حتى يستطيع استخدامه والبناء عليه أناسٌ من ثقافاتٍ أخرى، وبمعنى ما، لا يعودُ مكانُ نشأتِهِ مهماً في النهاية. عندما يتحدّثُ الناسُ عن "العِلم الإغريقي"، أو "العلم الإسلامي"، أو "العِلم الأوروبي"، فإنَّ ذلك لا يُغيّرُ حقيقة أن كل ما اكتشفه الإغريق والمسلمون والأوروبيون في طريق العلم هو علمٌ في النهاية، وبكل بساطة ونقاء. القِباب المُضاعفة والأقواس المُدبّبة والسقوف ذات الأضلاع... كلُّها اكتشافاتٌ لتقنياتٍ معماريةٍ ستُستخدم بالطبع فيما بعد، وستتطور عبر الثقافات.

 

فيما عدا أن العمارة ليست عِلماً فقط، كما أنها ليست جماليات فقط. إنها اختيارٌ مقصودٌ يعكسُ صورةً ذاتية، وفي حالة الأبنية العامة والتاريخية، فإنها ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالهوية القومية. وبهذا، ربما تكون العمارة قد أُقحِمت في حُروب ثقافية، ومن الواضح أن ذلك قد حدث لها بالفعل، وقد تلعب مثل هذه الحروب دوراً ضمن الثقافة الواحدة، مثل حرب الكلاسيكية الجديدة ضد القوطية الجديدة التي انخرط فيها رِن طوال حياته عندما كان يبني كاتدرائية سانت بول التي:

 

تمَّ إبداعها على النمط الروماني، ولم يتمّ فهمها جيداً ولا تقديرها من الآخرين الذين اعتقدوا أنها انحرفت كثيراً عن الشكل القوطي القديم للكاتدرائيات الدينية التي اعتادوا عليها وطالما أُعجِبوا بها في هذه البلاد. تصوّر آخرون أنها لم تمثِّل عظمةَ الدولة بدرجة كافية، وأصرّوا على أنه يجب ألا يُمكن أن تتجاوز عظَمتها أيةُ كنيسةٍ في أوروبا، صِيانةً لشرف الأمة وعظمة مدينة لندن.

 

يعودُ الإحساسُ بالتفوق العِرقي إلى قرونٍ مضت، فقد سمَّى الإغريقُ كل شخصٍ آخر لم يتحدث اليونانية "بربرياً"، أي شخصاً يُرَدِّدُ أصواتاً غير مفهومة. تم تصوير الصليبيين في التاريخ الأوروبي بأنهم أناسٌ حضاريون يحرّرون القدس من المسلمين البرابرة الذين أطلقوا عليهم اسم "الساراسِن"، أي السُّرَّاق أو السَّارقين. كان مفهومُ أوروبا اختِراعاً جاءَت به بشكلٍ أساسيٍّ العقلية الإمبريالية في عصر النهضة بعد انطلاق الاستعمار الأوروبي منذ اكتشاف أمريكا سنة 1492. عبّر كينيث كلارك (Kenneth Clark) بصراحة في سبعينيات القرن العشرين عن ذلك الاستعلاء الأوروبي في سلسلةِ برنامجه الوثائقي التلفزيوني "الحضارة". اعتبر جورج بوش الابن أن غزو العراق سنة 2003 عملٌ صليبي، واستخدَم استِعارات من الكتاب المقدس في مذاكراته الإعلامية، لم يكن لدى الرئيس الأمريكي أي شكّ بأن الإله كان في صفه، مثلما كان رؤساء آخرون شرقيون وغربيون يعتقدون بذلك. تلاعب الجميع باسمِ الإله ليكون في صفِّهم. ما معنى ذلك ـ كيف يكون الإله ذاتُهُ في صفِّ كُلِّ واحدٍ في جميع الأحوال دائماً؟ (ص529 ـ 530)

 

كريستوفر رِن (CHRISTOPHER WREN) باني الأقواس:

 

تبدأ الكاتبة ديانا دارك الفصل الأول بالتعريف عن اسم مهندسٍ معماري بريطاني هو كريستوفر رِن (20 أكتوبر 1632 ـ 25 فبراير 1723)، باعتباره صاحب رؤية، عالِماً وفيلسوفاً يتمتع بالقدرة على إدراك "الصورة الشاملة"، وسيستمرُّ تذكُّره بفضل كاتدرائية سانت بول، وهي أول كاتدرائية بروتستانتية في إنكلترا، والتحفة المعمارية التي قضى في بنائها 36 سنة في قلب مدينة لندن. معظم المشاريع من هذا القياس، والتي يستغرق بناؤها كل هذه المدة، يكون لها عدة مهندسين، ولكن رِن كان العقل المدبر الوحيد خلال فترة البناء كلها، كما كانَ رجلاً عملياً يأتي بنفسه إلى موقع العمل في معظم الأيام، ويتعاون مع رؤساء الحرفيين كلما برزت مشكلة وأثناء تطور البِناء، لم تكن هناك سابقة مماثلة، إذ كانت أول مرة يقوم بها أحد بمحاولة بناء قبة كبيرة إلى هذه الدرجة في بريطانيا.

يعودُ الإحساسُ بالتفوق العِرقي إلى قرونٍ مضت، فقد سمَّى الإغريقُ كل شخصٍ آخر لم يتحدث اليونانية "بربرياً"، أي شخصاً يُرَدِّدُ أصواتاً غير مفهومة. تم تصوير الصليبيين في التاريخ الأوروبي بأنهم أناسٌ حضاريون يحرّرون القدس من المسلمين البرابرة الذين أطلقوا عليهم اسم "الساراسِن"، أي السُّرَّاق أو السَّارقين.

 

تقول الكاتبة ديانا دارك: "كان رِن صانعاً غريزياً للأفكار والتقنيات، من أجل فهم طريقته في التفكير، وكيف تمكّن من الإتيان بنظريته عن "استلهام الساراسِن"، يجب استقراء طفولته المبكرة، والأفكار التي ربما أثّرت عليه، وُلد في 1632 قبل عشر سنوات من نشوب الحرب الأهلية الإنكليزية بين الملكيين والبرلمانيين، كان رِن الصبي الوحيد في عائلة كبيرة، وأحاطَتْ به أخواته، ثلاث أكبر سناً منه، وثلاث أصغر. وُصف بأنه طفلٌ مريض لن يعيش إلى مرحلة الشباب، وربما يفسر ذلك سبب دراسته الخاصة في المنزل مع أسرته في منطقة ويلتشير (Wiltshire) التي يحتلُّها الملكيون، درس لفترة وجيزة في مدرسة وستمينستر (Westminster School) ربما في الفترة (1645 ـ 1656) بعد احتلال البرلمانيين لمنطقة ويلتشير، وحَبْس والده خمسة أشهر. كان والد كريستوفر رِن الأكبر من الملكيين، خسر مكانته بعد إعدام الملك سنة 1649، وترك ابنه في ظروف مالية صعبة، احتفظ رِن بمكانة عالية وتأثير كبير عليه من طرف والده وصهره ويليام هولدِر (William Holder).

 

كان والد رِن عميد ويندسو (Windsor)، وكان مهتماً بتعليم ابنه، ويريد أن يكون تعليمه أشمل ما يمكن، عرَّضه لظواهر طبيعية من كل الأنواع، وكانت مكتبته الضخمة التي ورثها رِن من بعده غنيةً بمجلدات مشروحة بغزارة للفيلسوف فرانسيس بيكون (Francis Bacon) وللعالِم الموسوعي توماس براون (Thomas Brown)، بالإضافة إلى أدب الرحلات وأعمال في مجالات متنوعة، مثل الزراعة والبستنة وسلوك الحيوانات وعلم النبات والمناخ، ضمّت اهتمامات أخرى كالتسلسل الزمني العالمي، والتوفيق بين تاريخ الكتاب المقدس والتاريخ العام، زُرعت بذور التطور المستقبلي للمعماري رِن منذ تلك البدايات تحت تأثير والده" (ص26).

 

المساحةُ المفتوحة في كاتدرائية سانت بول، وكذلك في مسرح شلدون، هي مساحة للمساواة أيضاً، لا تحدّها ترتيبات تسلسل هرمي ينعكس على مواضع الجلوس، كان اختيار رِن التخلي عن صحن الكنيسة القوطي الطويل الضيق بمساحته التراتبية، وفضل كنيسة مركزة تحت قبة، وهو نموذج مفضل بوضوح في الهندسة المعمارية المسيحية الأولى والعمارة الإسلامية.

 

ما زال الأسلوب الجامعي النظامي أرسطياً، بشكل مجموعة جامدة من الأفكار التي عَرَّفت الفكر الإنساني، كتب جون أوبري (John Aubry) عن الجامعات في 1649: "اعتُبر افتراضاً غريباً أن يُحاول شخص الاختراع في التعليم"، تحدَّت الثورة العلمية هذه الرؤية اعتماداً على اكتشافات عصر النهضة، اكتشافات غاليليو (Galileo) في التلسكوب بعد 1610 شكلت تحدياً مهماً لعلم الفلك المبني على مركزية الأرض، مثلما أطاحت فيزيولوجيا الدورة الدموية التي طرحها ويليام هارفي (William Harvey) سنة 1628 بنظريات غالِن (Galen) في الطب، وعلى كل حال فإن رِن وزملاءه من الفلاسفة التجريبيين أدركوا أن المعرفة، التي فُقدت في عصور الظلام الأوروبية، قد أصبح العرب روّادها قبل ذلك بقرون منذ حوالي 1000 سنة، وأنها قد تطورت إلى مستويات عالية جداً، ذكر رِن تقديره لهذه المعرفة بوضوح حينما كتب بعد ذلك بكثير كمهندس معماري بينما كان يعمل على كاتدرائية سانت بول: "لم يكن العرب بحاجة للهندسة في ذلك العصر، وكذلك المورز الذين ترجموا معظم الكتب الإغريقية القديمة المفيدة".

 

كان ويليام لاود (William Laud) العظيم عميد الجامعة من 1629 إلى 1641، وكان أكاديمياً ورئيس أساقفة كانتربري (Canterbury) من 1633 إلى 1645، وكان واعياً لهذا الكنز الدفين من المعرفة المفقودة لدرجة أنه أمر كل سفينة إنكليزية تُبحر إلى شرق المتوسط أن تجلب معها كتاباً عربياً واحداً على الأقل، تضخّمت مجموعته من المخطوطات العربية، ويمكن إيجادها هذه الأيام في مكتبة الجمعية الملكية وفي مكتبة بودليان (Bodleian Library) في أكسفورد، وهي تغطي مواضيع مثل الفلك واللغة والقانون والطب والشعر والأمثال والسحر، وعدد من النصوص التاريخية، تبرّع بأول منصب كرسي أستاذ لقسم اللغة العربية، الذي يُعرف الآن بمنصب البروفسور لاود في اللغة العربية، جعل هذا المنصب وتلك المخطوطات من أكسفورد أحد المراكز الأولى للدراسات العربية في أوروبا، كما أسس لاود "مطبعة مطورة" تستطيع الطباعة باللغة العربية.

 

تستعرض الكاتبة في وصفها التاريخي لأعمال رن، لا سيما الهندسة المعمارية لمسرح شلدون العظيم، ولكاتدرائية سانت بول آراء الجامعيين والأساقفة  الذين عاصروا رن،  مثل جون واليس (John Wallis)، الذي جرّب معه رِن الأرضية الخشبية للمسرح الشلدوني، فقد تم تعيينه البروفسور السافيليان (Savilian)   للهندسة في أكسفورد سنة 1649، حينما بلغ الاهتمام ذروته في دراسة اللغة العربية بجامعتي أكسفورد وكامبريج، خاصةً بهدف قراءة وفهم وثائق علمية وهندسية جديدة، عمل قبل ذلك في علم التشفير وفك الرموز مع البرلمانيين أثناء الحرب الأهلية، حين كان من المستفيدين من النصوص العربية التي كانت قد تُرجِمت حديثاً إلى اللاتينية، لأنَّ علماء العرب كانوا من أوائل الذين صمموا الرموز، والكلمة الإنكليزية  (Cipher) جاءت من الكلمة العربية "شيفرة"، يذكر واليس في كتابه "أعمال في الرياضيات  Opera Mathematica" برهان الطّوسي على فرضية التوازي لإقليدس، ويُعيد الفضل في الترجمة من العربية إلى صديقه إدوارد بوكوك (1604 ـ 1691 "Edward Pococke) الذي اعتُبِر أعظم باحثٍ في اللغة العربية آنذاك، وكان قد تخرج من معهد كوربس كريستي (Corpus Chrisri College)  في أكسفورد حيث كان من المُعتاد تدريس "اللغات الثلاث": اليونانية واللاتينية والعبرية، مثلما كان الحال كذلك في معظم المعاهد، كان بوكوك قد عاد حديثاً من إقامته ست سنوات في مدينة حلب، حيث كان قسيساً للتجار في شركة شرق المتوسط حتى سنة 1639 عندما أمره ويليام لاود، عميد جامعة أكسفورد، أن يرجع لاستلام منصب الأستاذية اللاودية الجديد للغة العربية.

 

تقول الكاتبة ديانا دارك: "لم تكن حلب آنذاك مجرد مركز تجاري كبير، بل كانت أيضاً مركز تعلُّم ومنح أبحاث دراسية، أتيحت فيها فرصة وفيرة لبوكوك لكي يتعلم اللغة العربية من مختصين محليين بمستوى متقدم جداً، كما جمع كثيراً من المخطوطات العربية العظيمة حسب تعليمات لاود، كان من بينها كتاب أبولونيوس برغا (Apollonius of Perga) الشهير "المخروطي The Conics"، الذي كُتب حوالي سنة 200 قبل الميلاد في ثمانية مجلدات، لم يصلنا منها سوى أربعة باللغة اليونانية الأصلية، بينما بقيتْ سبعة منها باللغة العربية، النظريات الهندسية المشروحة في "المخروطي" كانت ضرورية للإنشاءات الهندسية، مثل تصميم مرايا لتركيز الضوء، ونظرية الساعات الشمسية، تُمكن مشاهدة تطبيق رِن لهذه النظرية المخروطية في تصميم سقف مسرح شلدون، وبعدها في جميع إنشاءاته للقِباب.

 

أرسل بوكوك جميع المخطوطات التي جمعها إلى مكتبة بودليان، تُظهر تواريخ مقتنيات المكتبة تدفقاً كبيراً في الفترة (1633 ـ 1635) عندما كان بوكوك في حلب، ومرة أخرى سنة 1638 أثناء وجوده في إسطنبول مدة ثلاث سنوات، لا يمكن تصور أن رِن كان لا يعرف بذلك، وأنه لم يطّلع على تلك الترجمات، لأنه من الواضح أن جميع الذين أجروا تجارب علمية آنذاك قد شاركوه معارفهم وتناقشوا حول أفكارهم الجديدة دائماً، هناك تقارير كثيرة عن علماء كان بينهم رِن وبوكوك وهم يتناولون القهوة معاً في أوائل مقاهي أكسفورد، تعلّم بوكوك شُرب القهوة حينما كان في حلب لدرجة أنه حدث له "شلل في يده" في أواخر حياته، وقد أُرجع سبب ذلك إلى إدمانه، بل ونشر بوكوك سنة 1659 كتاباً باللغة العربية من القرن السادس عشر مع ترجمته إلى الإنكليزية يصف طبيعة القهوة كمشروب "يُخفف فوران الدم، ومفيد ضد الجدري والحصبة والبثور، ولكنه يسبب صداعاً ودواراً، ويخفض الوزن، ويسبب الأرق أحياناً، والبواسير، ويخفف الشهوة، ويؤدي أحياناً إلى الاكتئاب" (ص 39).

 

كان جون غريفز (1602 ـ 1652" "John Greaves) باحثاً آخر وصديقاً معاصراً مُقرّباً إلى بوكوك في معهد مرتون (Merton College) في أكسفورد، كانت لديه اهتمامات عميقة بالرياضيات وعلم الفلك بالإضافة إلى اللغة العربية لدرجة أنه حتى بعد أن شغل كرسيّ بروفسور سافيليان في الهندسة في جامعة أوكسفورد حوالي سنة 1631، فقد سافر كثيراً خارج بريطانيا حتى ابتعد عن منصبه ست سنوات من عشرة، سافر غريفز وبوكوك معاً فيما بعد إلى إسطنبول كما سيُفصّل في الفصل الثامن عن العثمانيين، كان الهدف المذكور لرحلة غريفز ثلاثيّ الأبعاد: جمع مخطوطات عربية، وتحسين المعرفة باللغة العربية وغيرها من اللغات، والقيام بمراقبات فلكية.

في رسالة بعثها غريفز من إسطنبول إلى لاود في أكسفورد، وعد غريفز "أنه سيجلب معه معظم كتب علماء الرياضيات الإغريق التي تُرجمت إلى العربية، وأن بعض هذه الكتب التي فُقدت باليونانية قد تكون متوفِّرة بالعربية"، كانت هذه الشبكة من الرجال مرتبطة جيداً بجامعة أكسفورد، وتنشر أعمالاً كتابية كثيرة تشمل "وصف قصر أو بلاط الإمبراطور التركي" (لندن 1650)، ومن المؤكد أن رِن قد قرأه بالنظر إلى تاريخ النشر، وإلى شهيته للمعرفة القادمة مما وراء حدود أوروبا
.

التعليقات (1)
غدا سنعود
الخميس، 08-12-2022 05:07 م
لو كان العلم إمرأة لا لعنت اليوم التي تزوجت فيه الرجل الغربي،ليس من باب العنصرية لكن أنظروا كيف أصبح العلم الآن عاقر و في الأيدي الخطأ، جشع الصهاينة أفسد العلم والعلماء