تقارير

الطباعة في فلسطين سبيل لتوثيق الهوية في مواجهة الاحتلال

عرفت فلسطين الطباعة من القرن السادس عشر وفتحت مطابع ذات صيت عربي ودولي كبيرين
عرفت فلسطين الطباعة من القرن السادس عشر وفتحت مطابع ذات صيت عربي ودولي كبيرين

كان الشعب الفلسطيني ولا يزال من رواد صناعة االطباعة وانتشار المكتبات؛ حتى في المهاجر القريبة والبعيدة وفي عدد كبير من منازل الفلسطينيين أينما حلوا وارتحلوا؛ وليس داخل فلسطين التاريخية فحسب؛ وعلى عكس الدعاية والمقولات الصهيونية المؤسسة لإنشاء إسرائيل؛ مثل "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وأنها أرض مقفرة لا حياة فيها؛ شهدت فلسطين تطوراً نوعياً في كافة ميادين الحياة كنتيجة مباشرة لنشاط الشعب الفلسطيني وترسيخ هويته الوطنية في مواجهة محاولات تهويدها وطمسها، وإثر نكبة 48 سيطر الجيش الإسرائيلي على المكتبات الفلسطينية العامة والمنزلية ومخزوناتها الثقافية؛ وللدلالة على ذلك نسلط الضوء على اتساع نطاق الحركة المكتبية في جنبات فلسطين ومدنها المختلفة.

الحركة المكتبية

شأنها شأن كافة دول العالم؛ لعبت المكتبات في فلسطين دوراً مهما في الحياة الثقافية الفلسطينية، منذ الفتح الإسلامي وحتى القرن السادس الهجري، حيث بدأت الحركة المكتبية تتسم بملامح جديدة؛ ففي العصر الأيوبي والمملوكي؛ ازدهرت معاهد العلم وجذبت إليها العلماء، وكثر التأليف وازداد عدد الكتب المنشورة؛ ما أدى إلى ازدياد عدد المكتبات، فنشأت مكتبات المدارس ومكتبات المساجد، كما كثرت المكتبات الخاصة. وقد عرفت المكتبات في هذه الفترة بأنها كانت منظمة مفهرسة ومصنفة حسب موضوعاتها. 

ومع نهاية القرن التاسع عشر شهدت بلاد الشام ومصر ظروفا سياسة واجتماعية وثقافية متغيرة؛ حيث قامت محاولات إصلاحية عثمانية شملت الحياة الثقافية بما فيها التعليم، كما دخلت البلاد الإرساليات الأجنبية البريطانية والروسية والفرنسية، وأخذت تنشئ المدارس في مختلف بلاد الشام، ومن ضمنها فلسطين. وعندما دخلت الطباعة البلاد أنشأ الفرنسيسكان والروم الأرثودوكس مطابعهم، وفي هذه الأثناء ازدادت الاتصالات الثقافية بين فلسطين وأوروبا، وأثرت هذه التغيرات على الحركة المكتبية في فلسطين؛ فأنشئت العديد من المكتبات الجديدة، كما أعيد تنظيم المكتبات القديمة. وكانت المكتبات الأجنبية التي تم افتتاحها تتمتع بوضع أفضل، فقد أدخلت مبادئ التنظيم في العمل المكتبي، وكان ذلك جديدا على البلاد.

وخلال فترة الاحتلال البريطاني (1920- 1948)؛ حدث تراجع في المستوى الثقافي، وظهر نقص في مجال التلعيم الرسمي. فلم تعد إدارة المعارف تهتم بتطوير مكتبات المدارس؛ ففي العشرينيات ظل كثير من المدارس دون مكتبات وكانت عملية انشاء المكتبات تسير ببطء شديد؛ لعدم توفر مخصصات كافية. لم تعد المكتبات المدرسية ولا العامة تلعب دورا فاعلاً في العملية التعليمية في هذا الوقت؛ لذلك تحملت بعض المؤسسات مثل النوادي والمراكز مسؤولية إنشاء المكتبات مثل: مكتبة النادي العربي، ومكتبة جماعة الإخوان المسلمين في يافا، ومكتبة المركز الثقافي البريطاني، والمركز الثقافي الفرنسي.

ويذكر العسلي بأن كبرى المكتبات التي تم إنشاؤها كانت "مكتبة جمعية الشبان المسيحية" في القدس؛ باعتبارها فرعا لجمعية الشبان المسيحية في الولايات المتحدة. 

ونتيجة للنكبة التي حلت بفلسطين عام 1948 وإنشاء إسرائيل على القسم الأكبر منها؛ تدهورت أوضاع المكتبات الفلسطينية؛ بسبب عمليات الطرد التي طالت (61) في المائة من إجمالي الشعب الفلسطيني، والسياسة التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه المكتبات العامة والخاصة، حيث استولت إسرائيل على الكثير من المكتبات المتروكة، ونقلتها إلى مكتبات معاهدها وجامعاتها، كما دمرت العصابات الصهيونية عدداً كبيراً من المكتبات؛ في مقابل ذلك استطاع عدد قليل من الذين هجروا الاحتفاظ ببعض ممتلكات مكتباتهم الخاصة. وجنباً إلى جنب مع تطور المكتبات الفلسطينية؛ شهدت فلسطين حركة دؤوبة في صناعة الطباعة .

الطباعة ومكتبات منزلية  

عرفت فلسطين الطباعة منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي. وكان للإرساليات التبشيرية في القرن التاسع عشر أثر في دفع حركة الطباعة إلى الأمام. وقد أنشأ الآباء الفرنسيسكان في القدس مطبعة عربية سنة 1846م. وكان أول كتاب أخرجته كتاب (التعليم المسيحي) باللغتين العربية والإيطالية. وكانت أدواتها وحروفها من النمسا. وقد غدت هذه المطبعة في بداية القرن العشرين من أهم المطابع في الشرق العربي، وضمت قسماً للطباعة الحجرية، وآخر لسبك الحروف، وقسماً للتجليد. 

وطبعت عدداً كبيراً من الكتب باللغة العربية وباللغات الأجنبية. ومعظم هذه الكتب ديني، وطبعت أيضاً الكتب المدرسية والأدبية والتاريخية واللغوية. وكان يعمل في المطبعة إلى جانب الرهبان، عدد من العمال الفلسطينيين، الذين أسس بعضهم مطابع خاصة، بعد أن أتقنوا الفن الطباعي. وقد حذا حذو الأباء الفرنسيسكان جماعة من الأنكليز أسسوا مطبعة في القدس سنة 1848م. وفي السنة نفسها أنشأ الأرمن الغريغوريون مطبعة في القدس، وضعوها في ديرهم المجاور لجبل صهيون. 

 

عدد كبير من المثقفين والعائلات الفلسطينية في داخل فلسطين التاريخية والشتات أسسوا مكتبات وكنوز ثقافية في جنبات منازلهم؛ وهذا يعتبر بدوره رافد لاستمرار وصيرورة الهوية الوطنية الفلسطيني.

 



وفي سنة 1849م أنشأت جمعية القبر المقدس اليونانية مطبعة وضعتها في مقر البطريركية للروم الأرثوذكس في القدس. وأنشئت في القدس سنة 1879م مطبعة المرسلين الكنائسية ـ الإنجيلية. وكانت جميع الكتب التي تصدر عن هذه المطابع كتباً دينية.

وقد أسست في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بعض المطابع التجارية في القدس وحيفاويافا،ثم ازداد نشاط الطباعة في فلسطين على أثر الانقلاب العثماني سنة 1908 وإعلان الدستور وإطلاق حرية الصحافة؛ ومن هذه المطابع “المطبعة الوطنية” التي أسسها في أواخر القرن التاسع عشر الأديب ألغونس انطون ألونصو. وكانت تطبع مجلة النفائس لصاحبها خليل بيدس، وجريدة الكرمل* التي أصدرها نجيب نصار؛وكان في مقدمة الصحافيين الذين أنشأوا مطابع خاصة بصحبتهم جرجي حبيب حنانيا* الذي كان يطبع في مطبعته جريدة القدس التي أسسها سنة 1908، ويطبع فيها أيضاً مجلة الأصمعي لصاحبها حنا العيسى؛ حيث كان له ولأخيه يوسف داود العيسى مطبعتهما الخاصة في يافا، كانا يطبعان فيها جريدة فلسطين التي أصدراها سنة 1911.

وأنشئت في القدس مطبعة "دار الأيتام الإسلامية" ومطبعة "دار الأيتام السورية"، وكان يصدر عنهما كثير من الجرائد والمجلات. وضمت يافا عدداً من المطابع، منها المطبعة العصرية، ومطبعة الحرية، ومطبعة الدفاع، ومطبعة الفجر. تأثرت الطباعة بتوقف أكثر الصحف عن الصدور خلال الحرب العالمية الأولى، فتأخر نشاطها، ثم عادت إلى النشاط بعد الحرب، لكن المطابع العربية ظلت غير قادرة على مواكبة التقدم في الطباعة بسبب ظروف الاحتلال البريطاني فضلاً عن تدهور الحياة الأقتصادية في فلسطين. 

وبطبيعة الحال كان لإنشاء إسرائيل في أيار/ مايو 1948 بالغ الأثر على الشعب الفلسطيني على نشاطه في كافة المجالات؛ ومنها صناعة الطباعة والمكتبات وتوقف إصدار الدوريات والصحف الفلسطينية بسبب تشتت الشعب الفلسطيني وطرد (61) في المائة منه إثر نكبة عام 1948؛ وسيطرة الجيش الاسرائيلي على المطابع والمكتبات الفلسطينية وكنوزها الثقافية. ويبقى القول بأن عدد كبير من المثقفين والعائلات الفلسطينية في داخل فلسطين التاريخية والشتات أسسوا مكتبات وكنوز ثقافية في جنبات منازلهم؛ وهذا يعتبر بدوره رافد لاستمرار وصيرورة الهوية الوطنية الفلسطينية .

*كاتب فلسطيني مقيم بهولندا  


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم