أفكَار

في نقد مفهومَي اكتمال الشريعة والاتباع لدى السلفيين (2 من2)

المنطق الإسلامي لا يسمح بهدم أصوله، سواء حسنت النيات أو فسدت  (الأناضول)
المنطق الإسلامي لا يسمح بهدم أصوله، سواء حسنت النيات أو فسدت (الأناضول)

يواصل الكاتب والباحث المغربي الدكتور بلال التليدي في الجزء الثاني والأخير من مناقشته للأرضية الفكرية التي يقوم عليها الفكر السلفي، من خلال التركيز في هذا الجزء على مفهوم الاتباع. 

مفهوم الاتباع

مفهوم الاتباع قد يحيل في بعده المفهومي على السلبية، إذ قد يفهم منه أن المتبع إنما هو أداة للتنفيذ، فهو لا يملك أن يفكر، ولا أن يخطط لذاته ومستقبله، غير أن الأمر ليس بهذه الصورة الاختزالية. لقد فطن علماء الأصول والفقه لما يمكن أن يجر معه مفهوم الاتباع من دلالات سلبية تحيل على تعطيل فعالية العقل، وأقاموا فروقا دقيقة بين الاتباع؛ من حيث هو التماس للدليل ومتابعة له، وبين التقليد؛ من حيث هو ارتباط بالشخص، وتقديس بعد ذلك لآرائه ومذاهبه.

فرق واضح بين المفهومين، وبون شاسع بين التعامل مع الأشخاص من زاوية النظر في أفكارهم وآرائهم ومدى انبنائها على أدلتها وحججها، وبين التعامل مع الأفكار من زاوية النظر في مكانة الشخص الاعتبارية.

قاعدة أصيلة تلك التي قعدها علماء الأصول والحديث حينما قالوا: "يعرف الحق بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال" وقالوا أيضا: "لا يعرف الحق بصلاح صاحبه، وإنما بدلالة الدليل عليه".

فطن العلماء إذن لمثل هذه الفروق، وجعلوا الاتباع منوطا بقوة الدليل وحجيته. لم يكن العالم ضمن هذا كله سوى المجتهد المستثمر لأنواع من الأدلة، ولم يكن موقعه يتحدد إلا بالقدرة على توظيف الدليل وقوة الاستدلال والاحتجاج.

ينطلق المنظور اللفظي الظاهري للاتباع من إطار عام، يحدده ويحصره في اتباع القرآن والسنة. نسق هذا التفكير يتأسس على قاعدتين:

ـ القرآن يضم النصوص التي تجيب على كل الوقائع والنوازل المستجدة. 
ـ الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة، فكمال دين الفرد (العقيدة)، وقوة نظره (المنهج)، وصحة آرائه ومذاهبه (المعرفة)، واستقامة سلوكه (القيم)، وسعادته في الدنيا والآخرة (الوجود)، منوط بالاتباع. 

يلخص الاتباع مضمون المنظومة الأصولية الظاهرية بأكملها، فسلامة الاعتقاد، وصحة الإيمان مرتبط بالاتباع، ومن يعتقد غير هذا، فهو بالضرورة في خانة الضلال والابتداع، إن لم يكن في خانة الكفر. 

لم يترك التيار اللفظي، وفق هذه القراءة، للتقليد من مجال، فحكم الله واحد، يستنبطه العلماء، ويلتزم به "ويتبعه" الجميع. لكن أي مضمون يعطى للاتباع؟

الفرد الذي ينشأ من داخل نسق هذا التفكير، يقتنع أن المعارف كلها لا تخرج عن دائرة النص في بعده اللغوي، ومن ثمة، فمجمل الاجتهاد البشري يدور في حقل الدلالات اللغوية، أو في أحسن الأحوال في تركيب الدليل من مجموع النصوص الشرعية وفق التقريب المنطق الذي اعتمده ابن حزم، ومن ثمة فالآلة المنهجية الحجاجية تستخدم بشكل كثيف المفاهيم الحديثية مثل: "لا يصح" أو "لا يثبت"، ومفاهيم الدلالة في اللغة.

واللافت أيضا في منطق هذا المنهج، أنه لا يترك مجالا مفتوحا لتعدد الرأي، سواء تعلق الأمر بالفقه أو تعلق الأمر بالأصول.

فمسائل الفقه كلها محسومة في اتجاه "رأي واحد" يسمى "حكم الله"، ومسائل الأمر والنهي وغيرها من مباحث الدلالات، تنتهي إلى رأي واحد أيضا هو "الحق".

والاتباع في الحقلين معا يعني اتباع "الحق"، وهو المنهجية الأصولية الظاهرية، واتباع "حكم الله"، وهو الاجتهاد الفقهي الظاهري.

إننا إذن أمام نسق فكري مغلق، يطابق بين المراد الإلهي المبثوث في كتاب الله والمبين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاجتهاد في تحصيله.

والاجتهاد حينما يتماهى ويتطابق مع المراد الإلهي، لا يبقى من معنى لتعدد الرأي والاجتهاد، ولا يبقى من معنى لتعدد مسالك ومناهج النظر. إنها معادلة صارمة ومغلقة لا تقبل المماحكة، فإما "الاتباع" وإما "الابتداع."

أما المنظور المقاصدي للاتباع، فيميز ابتداء بين التقليد والإتباع، فالتقليد ملازمة لقول المجتهد دون نظر إلى الدليل الذي استند إليه. 

التقليد هو تعلق بالشخص، أو عبارة عن بنية تفكير تعتمد الشخص جسر عبور لكل الآراء والاختيارات. فالشخص هنا هو الذي يمنح للفكرة منطقها ومشروعيتها وصدقيتها. بينما الاتباع هو تجريد الفكرة عن صاحبها، وتعامل مباشر مع منطقها ونسقها. والشخص لا يكون له اعتبار إلا بقدر توظيفه للأدلة والبراهين للاحتجاج على مذاهبه واختياراته. 

هكذا يؤسس المنظور المقاصدي مفهومه للاتباع ليسهم في بلورة ثقافة حوارية منفتحة، تقبل ثراء الأفكار وتنوعها، وقابليتها للمناقشة والمراجعة والنقد. إنه بهذا الاعتبار، يقطع مع كل الآليات التي ينتجها العقل الإيديولوجي، والتي يؤمن بأن قيمة الأفكار مرتهنة بمدى تحقيقها لبعض المواقع على حساب بعض.

الشخص في المنظور المقاصدي لا ينال الريادة والتبرز إلا حينما يثبت المجال التداولي قوة أفكاره، وقدرتها على الإقناع وعلى معالجة معضلات المجتمع.

ومكانة الفرد الاعتبارية ضمن هذا المنظور تنبني على أساس معرفي، والمقومات التربوبة والسلوكية لا تكون في أحسن أحوالها سوى تحليات رمزية، مضافة إلى رصيد الشخص في عالم المعرفة والمنهج.
لا يكتفي المنظور المقاصدي بالتمييز بين التقليد والاتباع، بل إنه يعتمد فروقا أخرى أكثر منهجية حينما يميز بين مناشط الحياة، فالتعبد والاعتقاد هو غير العاديات والمعاملات، فالدائرة الأولى يشتغل فيها الاتباع بآليات مغايرة للآليات التي يشتغل بها في مجال العبادات والمعاملات.

مجال التعبد والاعتقاد محكوم بمنطق الحظر، ومجال العاديات والمعاملات منضبط لمنطق الإباحة والتوسع. والتقابل بين المنطقين ضمن الدائرتين، يحيل إلى ضرورة تفعيل البعد الوظيفي للعقل في مجاله الحيوي، الذي هو تدبير الشأن العام، والحظر لا يعني هنا توقيف العقل وتعطيل فعاليته، وإنما هو صرف لجهوده إلى المجالات التي تتشابك فيها المصالح وتتعقد، وتحتاج إلى كفاءة كبيرة في التقدير المصلحي. أما التعبد والاعتقاد، فقد نص الشرع على حيثياتها بالتفصيل، وأعفى العقل من البحث عليها والتفريع من أصولها، ولكنه لم يقفل الباب على من أراد التمعن في مقاصدها، والتعمق في أسرارها. لقد أبدع العقل الإسلامي ضمن هذا المنظور أدبيات سلوكية وذوقية، لفتت إلى مقاصد التعبد وأبدعت في اكتشاف البعد الجمالي في هذا الدين.

الاتباع ضمن دائرة الاعتقاد والتعبد يعني اللزوم، ويعني أيضا فتح المجال لتفسير هذا اللزوم، وتبريره وتسويغه من خلال البحث في مقاصد التعبد وأسراره، غير أن الاتباع في مجال المعاملات، أو في مجال تدبير الشأن العام، فهو الالتفات إلى المصالح والمقاصد.

الاتباع بالمنظور المقاصدي لا يعني الجمود على شكل النص وحرفيته، وإنما هو نوع من الاستصحاب للنص، يتجاوز الظرف التاريخي الذي نزل فيه إلى فضاء هذا الواقع بتناقضاته وصراعاته. المنظور المقاصدي يسمح بما يمكن أن نصطلح عليه بالتعدية التاريخية. إن الفهم اللفظي يغتال النص في معانيه، ويجعلها مرتهنة للسياق الزمني الذي نزلت فيه، بينما الفهم المقاصدي يفتح للنص إمكانيات جديدة للتنزل من جديد على الواقع، إنه يتيح للنص أن يثبت حضوره الفاعل والحيوي في معالجة المعضلات الرئيسة التي يعاني منها المجتمع، فالبحث في الحكمة والمقصد ما هو في حقيقة الأمر سوى اتباع للنص، وتفعيل له، وتزكية لمشروعيته، وتأكيد قدرته الإجرائية على فهم الواقع وتفسيره وتغييره.

المنظور المقاصدي لا يرهن الاتباع هنا بصورة نمطية يلزم توفير شروطها ومواصفاتها، وإنما يرهنه بالقدرة المنهجية على التفاعل مع مقصد النص وغاياته، ويرهنه أيضا بالكفاءة في التوظيف الإجرائي لهذه المقاصد المستقرأة لحل معضلات الواقع.

ومن ثمة، فالمنظور المقاصدي يرفض كل الصور التاريخية التي يسعى البعض لإعطائها طابع القداسة، ويرفض أن تستمد بعض الاجتهادات الفقهية شرعيتها من داخل الفهم الظاهري للنص، ويرفض أن نستصحب في كل العصور أفهاما اجتهادية كانت مرهونة بقراءة واقع معين له ملابساته وشروطه التاريخية الخاصة به.

بين الاتباع والابتداع

كلما كان للاتباع مفهوم مغلق، كان مجال نقيضه أوسع. فالابتداع إنما تتحدد هويته تبعا لمفهوم الاتباع؛ إذ إن المخالف للاتباع سيجد نفسه بالضرورة في خانة الابتداع، ومن ثمة تظهر خطورة التحديد غير الدقيق لمفهوم الاتباع.

الابتداع هو الإحداث في الدين، أو هو الاستعاضة عن الطريقة الشرعية في الديانة واستبدالها بطريقة أخرى بحجة تحقيق أعلى مراتب التدين. فهو بهذا المفهوم يحمل معنيين:

ـ الأول؛ إن الطريقة الشرعية في التدين إنما تحقق قدرا من مقاصد التدين.
ـ الثاني؛ إنه بالإمكان الاستعاضة عن الطريقة الشرعية بطريقة أخرى، تكون أقدر على تحقيق مقاصد التدين المرجوة.

 

المنطق الإسلامي لا يسمح بهدم أصوله، سواء حسنت النيات أو فسدت، والمحافظة على أركان هذا المنطق، وعلى أسسه هذه المنهجية أمر جد مهم، وهي لا تعتبر البعد القيمي والمعياري للشخص، وإنما تحرص وبكل قوة على منع أية محاولة اختراق، تستهدف البناء المعرفي والمنهجي الذي تأسس عليه الإسلام.

 



فالابتداع بهذا المعنى إلغاء لأسس المنظومة المعرفية كلها؛ لأن منطقه وآليته الاشتغالية قائمة على نفي المناسبة بين التدين ووسيلة تحصيله، إذ يلغي الابتداع الوسيلة التي نص عليها الشرع، ويقترح منظوره الخاص في تحصيل مقصد التدين. إنه من حيث آلية اشتغاله يهدم أسس المنظومة الإسلامية ليس فقط في بعدها المعرفي، وإنما أيضا في بعدها المنهجي؛ إذ يشكك في إمكانية تحقيق الوسيلة الشرعية (الطريقة) لمقاصد التدين، ومن ثمة ناقش العلماء قضية الابتداع مقرونة بمفهومين:

ـ مفهوم اكتمال الشريعة.
ـ مفهوم الاستدراك على الدين.

قضايا الاعتقاد والتعبد قد حسم فيها الدين إجمالا وتفصيلا، وحدد لها الوسائل المناسبة لتحصيل مقاصدها، بحيث أصبح كل مسعى للحديث عن وسيلة أخرى، أو عن طريقة أخرى أكثر نجاعة لتحقيق هذه المقاصد لاغيا معرفيا ومنهجيا، حتى ولو كانت مبررات هذا المسعى هو التحضيض ودفع الناس نحو محاضن التدين.

المنطق الإسلامي لا يسمح بهدم أصوله، سواء حسنت النيات أو فسدت، والمحافظة على أركان هذا المنطق، وعلى أسسه هذه المنهجية أمر جد مهم، وهي لا تعتبر البعد القيمي والمعياري للشخص، وإنما تحرص بكل قوة على منع أية محاولة اختراق تستهدف البناء المعرفي والمنهجي الذي تأسس عليه الإسلام.

ومن ثمة، فقضية الابتداع ينبغي أن تبقى محصورة في مجالها الخاص بها، وألا تراوحه إلى غيره. وكل مسعى لنقل هذا المفهوم من دائرة الاعتقاد والتعبد إلى دائرة العاديات والمعاملات، يعتبر تدميرا عنيفا للمنطق الأصولي وللمسلك المنهجي الذي بنى عليه الإسلام تصوره.

حينما نشغل آلية الابتداع بمنطقها في مجال المعاملات والبيوع والعقود والسياسة الشرعية والأحكام المنظمة للمال وغيره، فإننا نقلب المعادلة الأصولية من أساسها، ونجعل الأصل في المعاملات الحظر فنضيق ما جعله الشرع واسعا، ونؤسس لعقل منغلق إقصائي يحكم منطق الحق والباطل في الفقه، ويطابق بين اجتهادات العلماء والمراد الإلهي، فيصبح رأي العالم هو حكم الله، وغيره هو الضلال والبدعة "ونعوذ بالله من الخذلان".

 

كلما كان للاتباع مفهوم مغلق، كان مجال نقيضه أوسع. فالابتداع إنما تتحدد هويته تبعا لمفهوم الاتباع؛ إذ إن المخالف للاتباع سيجد نفسه بالضرورة في خانة الابتداع، ومن ثمة تظهر خطورة التحديد غير الدقيق لمفهوم الاتباع.

 



لا مجال لتشغيل آلية الابتداع في العاديات والمعاملات، فالأمر هنا متعلق بالتقدير المصلحي المبني على النظر إلى الحكم والغايات وتحقيق المناطات، وهو المجال الأوسع الذي تختلف فيه الأفهام وتتعدد، فيكون المشهد الفكري والفقهي والاجتهادي عموما معبرا عن حيوية وتنوع وثراء داخل نسيج هذه الأمة، بحيث يسمح بإنتاج البدائل المتعددة، ويقطع مع منطق البديل الواحد.

العقل الأصولي بهذا المنظار يؤسس للتعدد ويلغي الأحادية، ويلغي كل مسعى لتبريرها وتسويغها. فالنظر والالتفات إلى المصالح والحكم والغايات، منوط بالتقدير العقلي المستصحب لمقاصد الشرع، وهو أمر متيسر لكل مجتهد، وهو أمر يضمن أن تنشط عملية الاجتهاد والإبداع للوصول إلى إنتاج أفضل البدائل القادرة على معالجة معضلات الواقع.

كثيرا ما يمر المثقفون على هذا التمييز الأصولي بين مجال التعبد ومجال المعاملات، ولا يلتفتون إلى مقاصد ربط التعبد بالاتباع، وفتح مجال المعاملات للعقل لكي يلتفت إلى المقاصد والحكم. وغالبا ما يسطرون ملاحظاتهم المكررة حول أساس هذا التمييز، فيفسرونه ويعللون هذه المغايرة، لكنهم لا يلتفتون إلى الأبعاد العميقة التي أومأنا إليها سابقا حين جعلنا الابتداع ناقضا لأسس المنظومة المعرفية الإسلامية ولأركان منهجيتها، وحين اعتبرنا الالتفات إلى المصالح والحكم مؤسسا لفضاء التعدد والتنوع.

إن الأمر يتعلق بكل وضوح بمسعى بناء العقل الاجتهادي الإسلامي المؤطر بقناعاته التصورية، المنضبط لأسسه المنهجية، المنتج لفضاء التعدد والتنوع، المؤسس لقواعد صناعة البدائل القوية لمعالجة معضلات الواقع.

 

اقرأ أيضا: في نقد مفهومَي اكتمال الشريعة والاتباع لدى السلفيين (1من2)


التعليقات (0)