كتب

جدلية الدين والسياسة في فكر "داعش".. قراءة في كتاب

قراءة هادئة في المرجعيات السياسية والفكرية لتنظيم "داعش"
قراءة هادئة في المرجعيات السياسية والفكرية لتنظيم "داعش"

الكتاب: "داعش شرعنة التوحش"
الكاتب: وفاء صندي
الناشر مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى نوفمبر 2020

(456 صفحة من القطع الكبير)

بعد أن تحول "ربيع الثورات العربية" إلى شتاءٍ قاسٍ، حيث قامت انتفاضات وثورات في عدد من الدول العربية ضد النظم الاستبدادية الحاكمة فبدأت في تونس ثم انتشرت إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا، ونتج عن تلك الثورات الإطاحة بالأنظمة الإستبدادية في بعض الدول مثل تونس ومصر وهناك دول تحولت فيها الانتفاضات إلى صراعات مسلحة وحروب أهلية مثل سوريا، كما انتشرت التنظيمات والجماعات الإرهابية التى استغلت حالة عدم الاستقرار والفوضى في المنطقة والتى تعتبر مثالا لحروب الجيل الرابع، ومن أشهر تلك التنظيمات: تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" الذي يعتبر من أخطر التنظيمات الإرهابية الموجودة في المنطقة فيعود جذوره إلى جماعة التوحيد والجهاد الذي أسسها أبو مصعب الزرقاوى في العراق في عام 2004م 

وفي ظل التفكك الذي تعيشه الدول العربية الشرق أوسطية، تبدو حروب الجيل الرابع واضحة في المنطقة العربية خاصة بعد ثورات الربيع العربي في أواخرعام 2010م، إذْ بلغ مشروع التطرف والتكفير مداه الأقصى، بإعلان ولادة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، واختيار خليفة لقيادتها هو أبو بكر البغدادي في 29 يونيو/ حزيران 2014. وأصبح لتنظيم "داعش" بوصفه تنظيماً إرهابياً تكفيرياُ عابراً للحدود، نمط حياة ودولة وخليفة وهوية.
 
فقد أسهمت أخطاء وخطايا حكومة نوري المالكي السابقة في فتح أبواب الجحيم على العراق منذ مطلع سنة 2014، حين أجاد نوري المالكي في الانقلاب على شركائه السياسيين، لاسيما بعد أن فضّ بالقوة  اعتصام مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار (غرب العراق)، ورفض القيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يطالب بها العرب السنة، من أجل أن يكونوا على قدم المساواة مع الآخرين، لكن رئيس الوزراء العراقي السابق اختار القوة في خطوة لخصها ظافر العاني، القيادي السني البارز، بأنها "حرب بعيدة عن الإرهاب وهي ليست حرب الجيش ضد الشعب وليست حرب الشيعة ضد السنة إنها حرب السلطة.. حرب الامتيازات السياسية".

وفي ظل الفساد المستشري في وزارتي الداخلية والدفاع، واستمراراحتجاجات العرب السنة في بغداد ومحافظات أخرى، على الرغم من إجهاض اعتصام الرمادي واعتقال النائب السني البارز أحمد العلواني، ومع استمرار التسويف في تنفيذ مطالب المحتجين وتجاهل الأزمات التي تطحن العراق منذ سنوات، والتغاضي عن شكاوى السنة إزاء سياسة التمييزوالتهميش، فإنَّ الحراك اندفع نحو العسكرة وحمل السلاح في مواجهة قوات الحكومة، الأمر الذي سمح بحصول اختراقات من قبل جماعات مسلحة متطرفة من بينها "داعش".

ولم يكن مفاجئا أن تمضي أزمات العراق إلى ما هو أسوأ من النتائج التي وصلت إليها، فجاء سقوط مدينة الموصل المدوّي في 14 حزيران (يونيو) 2014، ليعلن بداية انتشارإعصار الأيديولوجيات المتطرفة متمثلة بتنظيم "داعش" والتي أثارت فزعًا إقليميًا ودوليًا، فهبَّ المجتمع الدولي ليقود حربًا عالمية جديدة على الإرهاب عادت بالبلاد إلى واجهة الأحداث ومهدت لتقاسم نفوذ إيراني ـ أمريكي مباشر في بلاد الرافدين. وكثيرًا ما عبّر المسؤولون الأمريكيون عن إحباطهم الشديد حيال إخفاق المالكي في حماية المكاسب التي حققها الجيش الأمريكي قبل جلائه عندما تمكن بمساعدة القبائل والعشائر السنية من طرد عناصر القاعدة من المدن السنية وخصوصا من الأنبار التي تحمل أهمية استراتيجية كبيرة كونها تحاذي 3 دول هي سوريا والأردن والسعودية، كما تجاور 6 محافظات شمالية ووسطى وجنوبية.

في سنوات الإحتلال الأمريكي، كانت المشكلة الأخطر التي تواجه المجتمع العراقي، هي المشكلة الطائفية، لأنَّها تُحَوِّلُ المواطن من مواطن يفكر على صعيد الوطن إلى فرد يفكر على صعيد  الطائفة. ولما كانت الطوائف متداخلة ومتشابكة في المعيشة والحياة، فإنَّ اتجاها طائفيا سوف يثير عداء بين مواطنيها، ويقود إلى صراعات طائفية وحرب أهلية، كحرب لبنان الأهلية، مما يسهل استقطاب المواطنين على أسس طائفية، ويبعدهم عن البرنامج الوطني الديمقراطي. وعليه فإن التوجيه الطائفي هو ما كانت الامبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني يسعيان إليه لاستخدامه سلاحًا في معركتهما من أجل تفتيت إرادة المواطنين العرب، لتوجيه الصراع في اتجاه خاطىء، مضاد للاتجاه التاريخي. 

وحين حصل الغزو الأمريكي للعراق، انهارت معه الدولة الشمولية العراقية بطريقة دراماتيكية، وانهار معها حزبها ومؤسساتها الأمنية والعسكرية ومنظماتها ومجتمعها، لأن هذه الدولة المتغولة كانت كل شيء، وقضت على بنى المجتمع المدني الحديث التي كان من المفترض أن تشكل خنادق الحرب المعاصرة عندما تنهار سلطة الدولة الحديثة على حد قول أنطونيو غرامشي. وحين فتكت هذه الدولة الشمولية العراقية  بمؤسسات المجتمع الأهلي التقليدية ومؤسسات المجتمع المدني الحديثة كالأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات الشعبية جسدت ثقافة العنف الوطني، الأمر الذي يفسر لنا أيضا غياب هذا  المجتمع المدني في زمن الكارثة العراقية بعد الهزيمة العسكرية لمؤسسات الدولة الشمولية العراقية: الجيش والحرس الجمهوري و فدائيي صدام وجيش القدس .

بيد أن الأحزاب السياسية المتبرقعة بالطائفية والقبلية والمذهبية، ورثة الدولة الشمولية العراقية في زمن الاحتلال الأمريكي، عجزت أن تبني دولة عصرية، لأن هذا ليس في برنامجها، ولا هي مؤهلة لذلك، كما أنَّها استبدلت ثقافة العنف الوطني الذي كان سائدًا في العهد السابق بثقافة العنف الطائفي ـ المذهبي، الذي يتبجح بطائفيته نوري المالكي، وغيره من الأحزاب والميليشيات الشيعية. فانتقل المجتمع العراقي بذلك من ثقافة عنف الدولة الشمولية إلى ثقافة كابوس العنف الطائفي، وفرق الموت، والإرهاب الأعمي، والقتل على الهوية. تلك هي صورة العراق الجديد الذي يتماهى مع أيديولوجية "الفوضى الخلاقة"، التي روَّجَ لها المحافظون الجدد في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الإبن السابقة.

في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "داعش شرعنة التوحش"، للكاتبة السياسية والباحثة المغربية وفاء صندي، والذي يتكون من مقدمة، وخمسة أقسام كبيرة، حيث أنَّ كل قسم من هذه الأقسام، كان يتحدث عن ظاهرة قائمة بذاتها، وعشرة فصول، لم تقدم لنا الباحثة المغربية عملاً أكاديميًا، بقدر ما قدمت لنا اجتهادًا بحثيًا شبه ميداني، تم الاعتماد فيه على لغة سلسة تحاكي مجموع الأسئلة التي راودت وتراود القارىء العادي، فيما يتعلق بظاهرة ولادة تنظيم "داعش" الإرهابي، وقد اعتمدت الباحثة على المنهج التحليلي للأحداث في سياقها التاريخي.
 
دور العوامل الطائفية في ولادة ظاهرة داعش

هناك مجموعة من العوامل أسهمتب في تبلور القوى الطائفية في المنطقة العربية، ومنها:

أولها: إعطاء الدول الامبريالية، وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية العالم العربي اهتمامَا خاصًا بحكم موقعه الاستراتيجي، وتحكمه بمضائق ومحيطات وبحارعديدة، واحتضانه في مخزونه الجوفي ثروة نفطية هائلة، واحتمال فقدان العالم العربي لمصلحة القوى الوطنية والديمقراطية، الأمر الذي يشكل ضربة قاسمة للعالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، والطبقات والفئات المحلية التابعة.

ثانيها: قيام دولة الكيان الصهيوني، سنة 1948، وحرصها على منع تحررالجماهير العربية من ربقة الأنظمة الشمولية، ومنع وحدتها بكل الوسائل.
 
ثالثها: ازدياد تغلغل العولمة الرأسمالية في المجتمعات العربية، حتى هزّ كل البنى التقليدية (المدينة، القرية، القبيلة، الطائفة) ودفع قطاعات تقليدية للدفاع عن مواقعها، خشية أن يجرفها سيل "الحداثة" الجارف.

رابعها: إخفاق الدولة الوطنية "الحديثة" في العالم العربي في الحفاظ على كينونتها بترسيخ الهوية الجامعة: دولة المواطنين، ودولة الكل الإجتماعي، أمام الهويات الجزئية "التحت وطنية"، النابعة من دولة العائلة الحاكة، أو دولة الحزب الشمولي الأوحد، أو دولة أحادية الطائفة، وهوما أفسح في المجل لظهور هذه التنظيمات الإرهابية مثل "داعش" وتجذرها في هذه البيئة العربية اليوم، وهو لا يعفينا البتة من التأكيد على الدور الذي قامت به قوى الاستعمار القديم والجديد ،وماتزال تقوم به،في تعميم التقسيم الطائفي كمحور جوهري لمشاريعها التوسعية.

 

ظاهرة "داعش" ليست نبتة شيطانية قادمة من السماء، بل هي موجودة في التربة الفكرية والثقافية والسياسية والإجتماعية العربية. فالخطاب السياسي والديني الذي تتبناه "الدولة الإسلامية في العرق والشام" ـ (داعش) موجود في البنية الفكرية والفقهية لتراثنا العربي الإسلامي،

 



خامسها: عجز "الثورة الإيرانية" عن كسب معركة احتلال العراق والخليج في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وإقامة دولة "إسلامية" في العراق.

سادسها: انشغال الأطراف الدينية والطائفية بالمعارك الداخلية عن المعارك مع الامبريالية الأمريكية  والكيان الصهيوني، ومحاولة إشغال كل الأطراف، على الصعيد العربي، أو صعد الدول الإسلامية بالصراعات الداخلية.

وقد التقت هذه العوامل جميعا، لتدفع القوى الامبريالية، بقيادة الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، إلى البحث عن وسائل ناجعة للجم قوى التغيير الديمقراطي وفرض هيمنة القوى الطائفية. واكتشفت هذه القوى مجتمعة ما يلي:

أولاً: إنها تستطيع توظيف الدين، ضد القومية والديمقراطية. فتُجَنِّدُ جماهير واسعة من المؤمنين وتَردُ على الهجوم الأيديولوجي بهجوم أيديولوجي واسع، له جذوره التاريخية، وركائزه الشعبية. وهكذا يرد على البرنامج القومي ببرنامج إسلامي ذي بعد طائفي، ويواجه الوحدة القومية بوحدة إسلامية، ودولة الحق والقانون بدولة إسلامية، والديمقراطية بالشورى، والحريات الديمقراطية بتطبيق الشريعة. فيكون الرَّدُ أيديولوجياً وسياسياً شاملاً، و يصبح الديمقراطيون كفرة وملحدين خارجين على الدين..

ثانيا: إنها تستطيع أيضًا حشد قوى الطوائف وراء زعامات طائفية، فتسحب من الأحزاب معظم قواعدها ورصيدها الشعبي، وتغلق تجمعات الطوائف في وجه الديمقراطية والقومية، وتثير نزاعات ليس لها حدود، لا تمنع وحدة الوطن فحسب بل تخلق فيه شروخا عديدة جديدة، وتستنزف قواه في صراعات داخلية متجددة.

ثالثا: إنَّها تستطيع انتزاع زمام المبادرة بتكوين أحزاب طائفية مسلحة، لها مليشيات مسلحة، تمتلك الوعي السياسي، والتنظيم والتدريب..

ومع سقوط الدولة الشمولية العراقية، وفي ظل الاحتلال الأمريكي، ارتبط الهجوم السياسي والأيديولوجي للقوى الطائفية المسنودة لوجيستيكيا وماليا من جانب إيران، بتكوين ميليشيات مسلحة، مستعدة للمواجهات، وقادرة على المبادرات. وتخوض هذه القوة الطائفية معارك غير معارك القوى الوطنية و الديمقراطية، لأنها معنية بإقامة سلطة الطائفة ، ونشر ثقافة العنف المذهبي.و تعمل برعاية أنظمة إسلامية مثل إيران، وقوى دولية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية .
 
سياسة التوحش وإخراج النصوص من سياقها التاريخي 

فظاهرة "داعش" ليست نبتة شيطانية قادمة من السماء، بل هي موجودة في التربة الفكرية والثقافية والسياسية والإجتماعية العربية. فالخطاب السياسي والديني الذي تتبناه "الدولة الإسلامية في العرق والشام" ـ (داعش) موجود في البنية الفكرية والفقهية لتراثنا العربي الإسلامي، كما أن الممارسة السياسية والإجرمية من ارتكاب مجازر القتل الجماعي والذبح البشع من خلال قطع الرؤوس لتحقيق غايات آنية وإعلامية صادمة، ليست غريبة عن بيئتنا التاريخية، سواء في عهد الدولة العربية ـ الإسلامية، أو في ظل النظم الشمولية العلمانية الحديثة .

وعلينا أن نعترف أن البنية الفكرية الصانعة للوعي الجمعي لغالبية الناس في هذه الأمة، بما هي عليه اليوم، تجد نفسها عاجزة عن التصدّي للفكر الذي تمثله "الدولة الإسلامية" ـ (داعش)، بل إننا نجد الشباب العربي العاطل عن العمل الذي لا يتمتع بمستوى تعليمي متقدم، أضحى أكثر الفئات الاجتماعية التي لديها  القابلية في أذهانها لاحتضان الفكر"الداعشي".
 
تقول الباحثة المغربية وفاء صندي: "عندما أقدم تنظيم الدولة الإسلامية على إعدام الطيّار الأردني مُعاذ الكساسبة بوضعه في قفص حديد، ووصله بخيط من النار التف بجسده قبل أن يجبره على السقوط على ركبته ليتساقط اللحم من وجهه وينتهي إلى كومة سوداء، قامت جرافة بجرفها وهم القفص حولها، عمم تنظيم "الدولة الإسلامية" بياناً قال فيه إن الأحناف والشافعية أجازوا "تحريق الكفار"، وأن قول النبي "النار لا يعذب بها إلا الله" يدلّ على التواضع وليس على التحريم.
 
نشر تنظيم الدولة مقالاً مطولاً في أحد مواقعه الإلكترونية قال فيه إن الخليفة أبا بكر الصديق حرق بالنار في حضرة الصحابة. كما استند لتبرير ذلك إلى قول لابن تيمية: "إذا قتله بتحريق أو تغريق أو خنق أو نحو ذلك فإنه يفعل به كما فعل"، وعلى حديث نسبه إلى الرسول : "من غرض غرضناه، ومن حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه"، فضلاً عن تفسير معين للآية القرآنية {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين} "النحل:126" كما استدل التنظيم في جريمته هذه على ما قاله الشيخ أبو إسحاق الحويني عن حرق علي بن أبي طالب لمجموعة من الوثنيين، وهي الواقعة المذكورة في موضعين داخل صحيح البخاري، كما ذكر مستنداً على الكتاب نفسه أن النبي أرسل جماعة في سرية وقال لهم إن لقيتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار. 

 

مع سقوط الدولة الشمولية العراقية، وفي ظل الاحتلال الأمريكي، ارتبط الهجوم السياسي والأيديولوجي للقوى الطائفية المسنودة لوجيستيكيا وماليا من جانب إيران، بتكوين ميليشيات مسلحة، مستعدة للمواجهات، وقادرة على المبادرات.

 



وعلى الرغم من أن مقاتلي التنظيم كانوا يدركون أن رأي جمهور العلماء هو أن الإسلام يحرم استعمال النار كعقاب، لكنهم أتوا بآراء فقهية غير معروفة زعموا أنها تبرر حكمهم، كواحدة من الطراق التي يحاول بها التنظيم جلب آراء فقهية عدمية وغير معروفة إلى واجهة التفكير السلفي"(ص55). 

عمل "داعش" على شرعنة نزعة الوحشية عنده، وارتكاب مجازرالقتل الشنيع، وعمليات الذبح والصلب والرجم، ودفن الضحايا أحياءً، والقيام بالتطهير الديني والعرقي، وجرائم الاغتصاب والسبي، بصورة كبيرة على الشريعة الحركية، أي على ما جاء في قصص من تاريخ المرجعية الإسلامية، وقعت بما يتوافق مع ظروف الحرب وقتها وفي سياق تاريخي محدد. وهدفه من ذلك أولاً إعطاء الشرعية لجرائمه الشنيعة، وترسيخ فكرة أنه يمثل امتداداً حقيقياً للإسلام، وليس مجرد تنظيم طفيلي له تعاليمه الخاصة. 

وقد استغل في ذلك كل النماذج التي عثر عليها في التاريخ الإسلامي، مستعيراً حوادث معزولة لا ينبغي اتباعها كقواعد، وغالباً ما استخدم قصصاً دموية يتم تقديمها لمساعدة أفراد التنظيم الذين يعانون صعوبة في ارتكاب أعمال شديدة العنف. وقد بحث تنظيم "الدولة الإسلامية" دائماً عما يكن أن يجده في التراث من قصص غامضة أو أحاديث ضعيفة يتم تفسيرها خارج سياقها الزمني، لتبرير توحشه وإقناع الأعضاء التابعين له بأنه يطبق الإسلام الحقيقي الغائب عن مجتمعهم الذي أتوا منه.

فالوحشية عنده ليست انحرافاً أو تهوراً، بل هي خيار استراتيجي وقرار نابع من وعي التنظيم الهادف إلى ترويع أعدائه، والتأثير في الآخرين وتجنيدهم. 

ومن منظري الدم عند الدولة الإسلامية يأتي في المقام الأول أبو مصعب الزرقاوي، الزعيم الروحي المباشر لتنظيم الدولة، الذي امتزجت رؤيته مع طبيعة الحالة العراقية التي يتغول فيها البعد الطائفي. وقد عُرف عن الزرقاوي تطرفه الشديد، بحيث قال عنه الجنرال مايك فلين، المدير السابق لوكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، إنه كان "شبيهاً لهتلر" و "وحشياً جداً"، مضيفاً خلال إحدى المقابلات الصحافية: " كان دكتاتوراً خُطته هي قتل أكبر عدد من الناس التي لا تشاركه نظرته للحياة، وتغيير شكل وطبيعة الشرق الأوسط وبصراحة العالم الإسلامي بأكمله". 

كان الزرقاوي أول من شرعن الذبح وصدم العالم بنشر مقاطع من عمليات قطع الرؤوس. وقد ظهر رجل مقنع (قيل إنه الزرقاوي) في فيديو قصير يقف خلفه أربعة رجال حاملين الأسلحة وهو يذبح ذلك الرجل الأمريكي نيكولاس بيرغ بواسطة سكين، ثم يرفع بعدها هؤلاء الرجال رأس الضحية المذبوح احتفالاً بما يزعمون أنه النصر المبين. وبعد خروج هذا الفيديو إلى العالم مُنح الزرقاوي لقب "شيخ الجزارين" من جانب المؤيدين له.

 

بحث تنظيم "الدولة الإسلامية" دائماً عما يكن أن يجده في التراث من قصص غامضة أو أحاديث ضعيفة يتم تفسيرها خارج سياقها الزمني، لتبرير توحشه وإقناع الأعضاء التابعين له بأنه يطبق الإسلام الحقيقي الغائب عن مجتمعهم الذي أتوا منه.

 



وفي الأشهر التالية نفذ رجال الزرقاوي العشرات من جرائم القتل تم تسجيل الكثير منها بما في ذلك قطع رؤوس كل من سائق الشاحنة البلغاري، والمترجم الكوري الجنوبي، ومقاول مصري.

إلى جانب الزرقاوي، يستشهد تنظيم الدولة بإثنين من دعاة الدين، على وجه الخصوص، هما أبو عبد الله المهاجر وأبو بكر ناجي، لتبرير وحشيته وعمليات قطع الرؤوس والأساليب القاسية التي ابتدعها. ويُعد هذان المرجعان "دستور" تنظيم الدولة الذي ينهل منه جوانب متعددة من معتقداته المتشددة، إذ يبرران قطع الرؤوس ليس من منطلق أنه جائز شرعاً فحسب، بل لأن الله ورسوله أوصيا بذلك. ويزعمان "أن الإجماع منعقد على إباحة دم الكافر إباحة مطلقة"، وأن مناصرة ومظاهرة الكفار على المسلمين كفرٌ أكبر، ما يجعل الشخص كافراً بصورة قاطعة.
 
تقول الباحثة المغربية وفاء صندي عن أبو عبد الله المهاجر،: إنَّه "المرجعية الفقهية لأبو مصعب الزرقاوي. ويُعد كتابه، مسائل من فقه الجهاد، الذي يشار إليه بوجه عام باسم فقه الدماء، أحد أهم الكتب التي تفسر الفتاوى الفقهية والدينية لتنظيم الدولة، إذ تسري روح الكتاب في خطابات زعماء تنظيم "الدولة الإسلامية" كافة من الزرقاوي إلى أبو بكر البغدادي، فهو يؤسس لنهج التنظيم وخياراته الفقهية. استند المهاجر في مرجعيته إلى الكتاب والسنة والتراث الفقهي السني التاريخي بمذاهبه الفقهية الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي) إلا أنه اعتمد بصورة خاصة على المذهب الحنبلي، وخصوصاً خيارات ابن تيمية وابن القيم والمدرسة السلفية الوهابية.
 
أمَّا الكتاب الآخر الذي استند عليه تنظيم "داعش" لشرعنة التوحش فهو كتاب إدارة التوحش لأبو بكر ناجي ، الذي ظهر على الإنترنت في 2004. وهو من أهم الكتب والأدبيات لدى التنظيمات الإرهابية في الآونة الخيرة، وتقوم فكرته الرئيسية على استثمار حالة الفوضى في الدول الفاشلة، لإقامة ما يُسمى إمارة التوحش في المناطق التي يسيطر عليها هذا التيار، وتطبيق أحكام الشريعة فيها، وهي مرحلة تسبق ما يسمى إمارة التمكين، أي إقامة الدولة الإسلامية ذات السيادة الكاملة.

أهمية هذا الكتاب أنه يفسر لماذا يسيطر تنظيم الدولة على الأرض، ويقيم أحكامه وحُكمه عليها، بينما القاعدة تتجنب ذلك، وتصر على أولوية الصدام مع الولايات المتحدة. فتنظيم الدولة ضمن مشروعه الأيديولوجي يرى أن أول خطوة لاستقطاب العدو البعيد هي السيطرة على أراضٍ وإحكام القبضة عليها واستدراج العدو إليها. ويرى أنه لا يمكن الاستمرار في القتال من دون تحقيق نتائج في الواقع، تمهد لدولة الخلافة. وفي إدارته للتوحش يقول ناجي: "نحتاج إلى القتل ونحتاج لأن نفعل كما حدث مع بني قريظة، فلا بد من اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب"، في إشارة إلى قبيلة يهودية كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع.


التعليقات (0)