كتب

المفكر هشام جعيط.. طريق العرب والمسلمين لولوج باب الحداثة

المفكر التونسي الراحل هشام جعيط يناقش سؤال الحداثة في الفكر الإسلامي المعاصر..  (عربي21)
المفكر التونسي الراحل هشام جعيط يناقش سؤال الحداثة في الفكر الإسلامي المعاصر.. (عربي21)

الكتاب: أزمة الثقافة الإسلامية 
الكاتب: هشام جعيط
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ـ الطبعة الثالثة 2011، (200 صفحة من القطع الكبير)

رحل المؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط ، يوم الثلاثاء الماضي، عن عمر يناهز ستة وثمانين عاما، قضى أكثر من 60 منها يحقق في المخطوطات ويقدم قراءات نقدية لدراسات كبار المفكرين والفلاسفة  والمؤرخين، لا سيما من كتب المستشرقين، ولجملة من المعضلات المركزية في التاريخ الإسلامي، وأهم مكونات الفكر الإسلامي والموروث الحضاري بشكل عام. ولعل من أهم المعضلات المركزية التي تناولها جعيط، مسألة نقد الشخصية العربية والثقافة الإسلامية والأزمات التي عاشها المسلمون، وأهم الإشكاليات الكبرى التي واجهوها.

برحيله، طوى المفكر هشام جعيط صفحة طويلة من حياته ومن تاريخه، بل لنقل فصلا من تاريخ العالم العربي المعاصر، من خلال كتاباته التي حاول عبرها أنْ تُشكل جسرا بين دروسه في الجامعة التونسية، وتحديدا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في تونس، منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين، التي استمرت أكثر من 30 عاما، وبين أبحاثه العلمية، التي أغنت الثقافة العربية المعاصرة بمجموعة واسعة من المؤلفات الفلسفية والفكرية والنقدية والتاريخية، المتمحورة حول دراسة التاريخ الإسلامي في مختلف مراحله، بوصفه مكونا رئيسا للشخصية العربية، وضرورة معرفية وتاريخية وثقافية، لإيضاح الهُوية العربية الإسلامية وتحديثها. 

 

                                    هشام جعيط

فبعد أن درس مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي، درس السيرة النبوية وما حفَّ بها من معطيات تاريخية من 1990 إلى 1996؛ وهنا جاء اهتمامه ببيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، والثقافة العربية والأنثروبولوجيا في منطقة الجزيرة واليمن. وخلال بحثه العلمي الأكاديمي هذا، كان لا بد من الاعتماد أساسا على القرآن؛ لأنَّ القرآن متزامن مع الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما جل ما كتب عن الرسول جاء متاخرا زمنيّا، وكتب نقلا عن مصادر شفوية، وبالحال هذه، اعتمد جعيط على نص قديم أيضا، مروي عن عروة بن الزبير مكتوبا، فاكتفى به وبالقرآن الكريم.
 
يقول المفكر والمؤرخ والفيلسوف هشام جعيط عن علاقته بسيرة النبي في هذا الكتاب: "كانت علاقة علمية بصرف النظر عن الصفة الدينية للرسول محمد وتقديس المسلمين له.. حاولت تناول السيرة من منطلق الباحث المحايد؛ لأن شخصية محمد أكثر شخصية أثرت في تاريخ الإنسانية.. ولا تزال تؤثر.. وإني أعتقد أنَّ التاريخ الإسلامي الذي خصصت عمري في دراسات له، يحتاج إلى مزيد من الدراسات العلمية المحايدة.. دون الانطلاق مسبقا من مواقف عقائدية ودينية أو غيرها. هناك من طلابي من كتب بعمق.. ووجهت بعضهم.. وأطروحات بعضهم جيدة". 

هشام جعيط والاستشراق
 
ولد المفكر الراحل هشام جعيط بتونس عام 1935، في عائلة فقهاء دين وقانون، في عائلة محافظة ثقافيا ودينيا، فهو ينحدر من عائلة علمية وبرجوازية متدينة، وهو ابن عبد العزيز جعيط شيخ جامع الزيتونة، الذي كان مختلفا مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، صاحب المشروع الحداثي الساعي إلى بناء الدولة الوطنية التونسية على النمط الغربي. وعاش جعيط فترة الاستعمار الفرنسي والحرب العالمية الثانية، ودرس في مدرسة الصادقية التي أنجبت النخب الفكرية والثقافية التونسية، وتختلف في منهجها التعليمي عن التعليم الزيتوني. وتأثر جعيط مبكرا منذ الثامنة عشرة من عمره بالفلسفة والفلاسفة الغربيين، كما أنه أكمل دراساته العليا في فرنسا، وعاش مدة شبابه في أوروبا.

ولا شك أنَّ جعيط تشبع بالفكر الغربي خلال وجوده في فرنسا، مما جعله يتأثر بأهم المدارس التاريخية التي ظهرت في أوروبا، خصوصا المنهج التاريخي الذي اعتمدته المدارس الاستشراقية الأوروبية في دراستها للتاريخ الإسلامي ودين الإسلام ونصوصه المركزية. واعتقد جعيط أنَّ اكتشاف الفلسفة مهم جدا للمفكر والباحث في تاريخ الأفكار والأديان والثقافات والحضارات، ثم في فهم المتغيرات السياسية، والفلسفة. والدراسات التاريخية تساعد على التخلص من منطق "البديهيات" و"المسلمات" والفكر الجامد.

قرأ جعيط لفكر كارل ماركس، (1818 ـ 1883) وغيره من المفكرين، لكنه اهتم بفكره وليس بالأيديولوجيا التي روجوا لها. وتأثر أكثر بمؤلفات جورج فريديريش هيغل (1770 ـ 1831) وغيره من المفكرين والفلاسفة والمؤرخين الألمان والأوروبيين مثل نيتشة وإيمانويل كانط، الذين أثروا منذ مطلع القرن التاسع عشر في الفكر السياسي العالمي وصناع القرار في الدول القومية ـ الأمة بالمعنى البرجوازي الحديث التي برزت في أوروبا القرن التاسع عشر.

رغم التكوين الأكاديمي للأستاذ هشام جعيط في أرقى الجامعات الفرنسية، واستيعابه العميق للفكر الأوروبي خاصة والثقافية الغربية عموما، وتأثره بالليبرالية الأمريكية (طبعا ليست الليبرالية المتوحشة التي تروج لها العولمة الأمريكية)، وانتمائه إلى النخبة المثقفة التي تشتغل بالفكر والثقافة والمعرفة والفنّ إنتاجا وترويجا واستهلاكا، التي يؤهّلها رأسمالها المعرفي إلى حمل مشعل التغيير والتجديد، فإنَّ الباحث جعيط، يتناقض مع الاستشراق بطوريه الكلاسيكي والمستحدث، المثقل بداء المركزية الأوروبية الكولونيالية والثقافة النيو ـ ليبرالية الأمريكية، بل إنَّ توظيفه المعرفي للمنهج الأوروبي، وانفتاحه على المدارس الفكرية الغربية، في مجمل كتبه و أبحاثه، جعله يقوم بتأصيل فكري وثقافي عربي إسلامي، للتاريخ الإسلامي، غير مستتبع للاستراتيجيات المعرفية للاستشراق، من دون ادعاء أنه تمكن من صنع حداثة خاصة بالعرب والمسلمين.

الاستشراق بكل مؤسساته اللاهوتية والفلسفية والأيديولوجية والسياسية، كان في تناقض عميق مع الإسلام عبر المراحل التاريخية منذ الحروب الصليبية، ولم يبدأ مع عصر الحداثة التي اتخذت مجراها الفعلي منذ بداية النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر الميلادي، ولغاية أطوار ما بعد الحداثة السارية لغاية الآن. ولقد كان يوما مشهودا في علاقة الغرب بالإسلام لمَّا دقت أجراس الكنائس في أرجاء أوروبا بعد سقوط الأندلس (غرناطة) 1492، الأمر الذي وصفته الباحثة الأمريكية كاريس أرمسترونغ بأنَّه كان "تعبيرا عن الفرحة بالانتصار المسيحيِّ على الكفَّارِ".

 

الاستشراق بكل مؤسساته اللاهوتية والفلسفية والأيديولوجية والسياسية، كان في تناقض عميق مع الإسلام عبر المراحل التاريخية منذ الحروب الصليبية، ولم يبدأ مع عصر الحداثة التي اتخذت مجراها الفعلي منذ بداية النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر الميلادي

 



في الوقت الذي كان فيه الاستشراق المستأنف، والمتدفق على العالم الإسلامي، متحيزا لفضاء حضاري أوروبي غربي كولونيالي عابر للحدود، برزت في العالم العربي والإسلامي النخب الفكرية والثقافية والسياسية المتناظرة والمتماهية مع الاستشراق في منطقه وخطبه ومعارفه المُسْتَحْدَثَة. وكما يقول الباحث اللبناني في الفلسفة السياسية محمود حيدر؛ إنَّ هذين التناظر والتماهي، يجريان في أزمنتنا المعاصرة من ضمن ديالكتيك شديد التعقيد: إمَّا بالإقناع والرضى، أو بالقوة الخفية.. فظهر ما يمكن تسميته بـ "الاستغراب" كنتاج تفاعل مركب بين دهشة هذه النخب العربية المسلَّمَةِ بحداثة الغرب ومنجزاته من جهة، وسعيها ونقدها ومواجهتها من جهة أخرى. فكان"الاستغراب" بهذا أدنى إلى استيطان معرفي ما فتئ يستعيد سؤال الغرب وجوابه عن ظهر قلب.

ولسنا نغالي إذا قلنا؛ إنَّ هذا الفكر الاستغرابي الذي بات يسيطر على عقول قسم وازن من  النخبة الفكرية والثقافية العربية، هو فكر أنتجه الانبهار بحداثة الغرب والدهشه منه، ووسعته الترجمة، ورسخته الهيمنة الغربية على بلدان العالم العربي والإسلامي. فارتضت به نخب المجتمعات العربية والإسلامية كمرجعية فكرية وثقافية، واتخذته سبيلا لفهم ذاتها وفهم غيرها، فضلا عن فهم العالم المعاصر.

جدل حول اعتماد جعيط على المنهج التاريخي 

لقد دأب المفكر الراحل هشام جعيط في معظم مؤلفاته، القارئة للتاريخ الإسلامي، وأبرزها: ثلاثيته في السيرة النبوية، "الوحي والقرآن والنبوة"، و"تاريخية الدعوة المحمدية في مكة"، و"مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام"، وكتابه "أوروبا والإسلام ـ صدام الثقافة والحداثة"، الصادر في طبعة أولى بالفرنسية سنة 1978، وكتابه الشهير "الكوفة، نشأة المدينة العربية الإسلامية"، الصادر بالفرنسية سنة 1986، وكتابه الحدث "الفتنة ـ جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" الصادر عام 1989، ثم يأتي كتابه الذي أثار عاصفة من النقاشات في تونس وفي الوطن العربي وأوروبا، "أزمة الثقافة الإسلامية"، الصادر عن دار الطليعة بالعربية، ثم في نسخة فرنسية سنة 2004 في باريس عن دار فايار، فقد دأب في كل هذه الأعمال الفكرية على قراءة التراث العربي الإسلامي برؤية عقليّة مُنفتحة بما حملت من "مشروع مستقبلي"، والبحث عن إشكالية الهوية والتراث وقضايا الحداثة والتحديث، والكشف عن ملامح دخول الإسلام إلى عالم الحداثة، ودخول الحداثة إلى عالم الإسلام، بما أنَّ جعيط يعتبر أنَّ الحداثة "تيار لا يُقاوَم، فهو المجرى الحتمي للتاريخ" على ما ورد في كتابه "أزمة الثقافة الإسلامية".

وبالنسبة لسيرة الرسول، اعتمد المفكر الراحل هشام جعيط على مصادر قديمة وعلى ما نشر من أبحاث معمقة في العلم الحديث، ولم يكتف بالاعتماد على آثار ابن إسحاق وابن هشام والطبري وغيرهم؛ لأنه لا بد من الاعتماد على كل المصادر ثم قراءتها وغربلتها.

اعتمد الدكتور جعيط في أبحاثه على علم التاريخ أو المنهج التاريخي الذي يرى أنه بلغ درجة من المصداقية قربته كثيرا من العلوم الصحيحة، وهو يستعمل علم التاريخ بتداخل مع مجموعة أخرى من العلوم والمعارف مثل الأنثروبولوجيا (علم الأجناس) والفيلولوجيا. 

ويلخص جعيط منهجه في التعامل مع هذا الموضوع بقوله؛ "إنَّه استقراء الماضي متسلحا بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع، وبالتعاطف اللازم مع موضوعه وبرحابة صدر وثقابة الفكر"، ويضيف جعيط قائلا: "ما سنحاوله هنا هو إعطاء نظرة أنثروبولوجية للثقافة العربية قبل الإسلام أولا، واستقراء للنص القرآني وتتبع التأثيرات الخارجية والنظر النقدي في المصادر التاريخية والبيوغرافية".

 

اعتمد الدكتور جعيط في أبحاثه على علم التاريخ أو المنهج التاريخي الذي يرى أنه بلغ درجة من المصداقية قربته كثيرا من العلوم الصحيحة، وهو يستعمل علم التاريخ بتداخل مع مجموعة أخرى من العلوم والمعارف مثل الأنثروبولوجيا (علم الأجناس) والفيلولوجيا.

 



يقول جعيط: "ومن حسن حظنا نحن الباحثون العرب، أن أجدادنا شاركوا في الحضارة الإنسانية.. وتركوا لنا مصادر هائلة، منها: علم الكلام والفلسفة ودراسات القرآن والفقه والحديث والقانون.. أي إن أغلب المصادر بالعربية ونحن نتقنها.. وبعض الباحثين المسلمين الإيرانيين والأتراك والمستشرقين تعلموا العربية لفهم تراثنا.. لكن أغلب ما كتب في العصر الحديث عن السيرة النبوية بأقلام عربية ليس عميقا وطغت عليه النزعة الدينية.

في ما يخص ما كتب عن حياة الرسول، اعتبر جعيط أنَّ المصادر التاريخية مثل سيرة ابن إسحاق أو ابن هشام أو غيرهما، "لا تعطي إجابات علمية دقيقة، نظرا لتأخر تدوين هذه السير ولغلبة النزعة الوعظية عليها". أما الكتابات الحديثة، فقد اعتبر أنَّ "أغلبها لا يرقى حتى إلى ما كتبه القدامى من حيث القيمة العلمية"، واستثنى من هذا الحكم كتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل، الذي ألف كتابا عن النبي محمد لا بأس به بمقاييس 1930، واعتبره جعيط "آخر الكتابات المحترمة".. وكتب عباس محمود العقاد.. وهناك كتب إيرانية.. لكنها جميعا انطلقت من مسلمات إيمانية لأصحابها.. وهو ما قلل من صبغتها العلمية التاريخية.. نحن توخينا طريق المعرفة والبحث الدقيق المحايد.. بصرف النظر عن شخصية الرسول وقداسته.. صورة دينية لا أتفق معها.
 
وأكد جعيط أن غرض الباحث دائما هو "مناقشة المسلمات"، وأنَّ "المعرفة التاريخية تبقى نسبية ومتغيرة بتغير المصادر والوثائق"، كما أشار إلى أنَّ هناك نقاط استفهام عديدة تطرح حول معرفتنا عن تلك الحقبة، لأنَّ هناك نقصا في هذه الوثائق، وهو نقص أدركه كل من اشتغل على الشأن الديني أيّا كان هذا الدين. إلا أنَّ وجود هذه الصعوبات لا ينفي إمكانية إنشاء معرفة تاريخية عن الدين مستقلة ومختلفة عن الأبحاث الفقهية.

هناك قضايا في كتب السيرة لا أتفق معها.. لأنها حاولت أن تعطينا صورة متأخرة (بعد 150 عاما عن الهجرة) عن الرسول.. وكانت لها أساسا صورة دينية وليست علمية. 

في المقابل، لا أوافق على كثير مما نشر في المدرسة الاستشراقية الجديدة.. التي تجحف أحيانا في النقد والتشكيك.. وفي تناولها لسيرة النبي والمسلمين الأوائل والتاريخ الإسلامي ككل.. منذ نصف قرن أو أكثر لم يكتب شيء جدير بالاعتبار عن الرسول والسيرة النبوية.. ما عدا كتاب المستشرق الإنجليزي واد.. إذا ما استثنينا كتابات عن التجارة في مكة وغيرها.. وكثير منها من مستوى محدود. 

في الوقت نفسه، فإنِّي أحذِّر من الاعتبارات السياسية والأيديولوجية؛ لأنها تشوش على البحث العلمي التاريخي؛ لأنَّ ما قام به الرسول عمل تاريخي لكامل البشرية.. وليس خاصّا بالمسلمين أو بمجموعة من عرب الجزيرة.. نحن في حاجة إلى ربط الصلة بالتراث من منطلق فكري وجهد علمي. 

نقاط استفهام 

هناك نقاط استفهام بالنسبة لفترة السيرة بسبب نقص المصادر.. وهذا النقص ليس خاصا بالإسلام.. وكذلك بالنسبة لليهودية والمسيحية وتاريخ الأديان عموما.. لذلك فإنني لم أكتف بالاعتماد على المصادر ودراسات المستشرقين، بل حاولت تسليط المنهج الأنتروبولوجي على التراث ومرحلة السيرة النبوية. 

لعل من أهم ما يميز هشام جعيط عن بقية المفكرين الآخرين من العرب والمسلمين الذين يتبنون المنهج التاريخي في تحليلهم للدراسات الإسلامية، مثل أركون وعبد المجيد الشرفي وغيرهم، أنه مفكر يعتقد أنَّ الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية والإسلامية، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه، ويرى أنه عامل محدد في بناء هذه الشخصية، ولكنه يعتقد أن الذي يجب تغييره في ذلك هو الفهم الخاطئ للإسلام وللتاريخ الإسلامي، الذي يحاول الكثير من المفكرين الإسلاميين قراءته قراءة إيمانية، تغيب الحقيقة وتغتالها لتنتج لنا ثقافة إسلامية مأزومة خالية من كل علمية وموضوعية. 

لقد سرد جعيط، بالتفصيل، مكانه داخل الاستشراق، في مقدمة كتابه "تاريخية الدعوة المحمدية في مكة"، وهو الجزء الثاني من مصنفه المعروف باسم "السيرة النبوية" موضحا نقده لبعض مصنفات المستشرقين التي "جُرِحنا" منها، بتعبيره. 

وتحدث جعيط، عن مستشرقين درسوا تاريخ الإسلام، بخلفيات متعددة، منها الماركسية، ومنها المسيحية، معلنا في الوقت عينه، أنَّ لا معنى من انتقاد الاستشراق، إذا لم يقم العرب والمسلمون "باستكشاف ماضيهم بأنفسهم، باتخاذ المناهج المعترف بها، عالميا".

وتبرز مقدمة "تاريخية الدعوة المحمدية" إلمام جعيط الشامل بحركة التأليف الاستشراقي، الذي قسمه إلى مراحل زمنية مختلفة، احتفى فيها، بما سماه "لحظة 1900" معتبرا أنه عام "الانفتاح على كل شيء، واستكشاف كل شيء في المعرفة والفن"... وبعد أن درست مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي درست السيرة النبوية وما حفّ بها من معطيات تاريخية من 1990 إلى 1996.. وهنا جاء اهتمامي ببيئة الرسول والثقافة العربية والأنثروبولوجيا في منطقة الجزيرة واليمن. 

ويوضح جعيط الفترة الزمنية ما بين عامي 1860 و1960، بأنها الفترة الزمنية التي درس فيها الغربُ تاريخ الإسلام، باعتباره من "كبرى الحضارات الإنسانية"، مستعرضا غالبية الأقلام الاستشراقية التي صنفت عن الشرق أو العرب أو تاريخ الإسلام، سواء من ناحية السيرة النبوية، أو شخص النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، أو تاريخ اللغة العربية، أو دور البعد "القبائلي" بفهم التطور الاجتماعي والسياسي في التاريخ العربي. ويعلن جعيط، صراحة، انتقاده للاستشراق الجديد، ويقول: "ما نعيبه على الاستشراق الجديد، انفلاته من عقاله، وابتعاده عن الصرامة المنهجية التاريخية".


التعليقات (0)