هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "تحرير الشرق.. نحو إمبراطورية شرقية ثقافية"
المؤلف: إياد البرغوثي
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر- 2020
يقترح الباحث في علم الاجتماع السياسي والكاتب الفلسطيني إياد البرغوثي مشروعا ثقافيا "امبراطوريا" لشعوب الشرق، تقوده المصالح الاستراتيجية العليا لهذه الشعوب، المحكومة أساسا بثبات الجيواستراتيجيا، يهدف إلى خلق حالة من الوعي بهذه المصالح وطرق تحقيقها، وينطلق من فكرة أن الخلاص الحقيقي لشعوب الشرق لا يمكن أن يكون إلا جماعيا.
ويقصد البرغوثي بالإمبراطوريا، جغرافيا وجيواستراتيجيا، المساحة الواقعة بين أفغانستان شرقا والمغرب غربا، أما الإمبراطورية ثقافيا فهي الفكر الوحدوي المدرك لذلك الترابط والمبني عليه.
الحامل الأساس لهذا المشروع هم المثقفون "الكلّيون" المعنيون بمستقبل هذه المنطقة، ورسم ملامح هويتها "الواعية"، وبهم يبدأ المشروع عبر حوار جامع يشمل العرب والأتراك والإيرانيين والأمازيغ والكرد.. يتناول المسائل الكبرى، بهدف إيجاد خارطة طريق لمستقبل مشترك للشعوب طبيعي وصحي ومتجانس، بحسب البرغوثي.
في القسم الأول من كتابه يناقش البرغوثي المحاولات الهادفة إلى "تفكيك" الشرق والهيمنة عليه، المتمثلة بالمشروع الإمبريالي الغربي والصهيوني، وبعض الحركات الإرهابية كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"داعش". بينما يخصص القسم الثاني من الكتاب لبحث سبل "التصدي ثقافيا لتلك المشاريع بخلق الوعي بأهدافها والعمل على نشر ثقافة التقارب والوحدة بين شعوب المنطقة، والدفع باتجاه شكل من أشكال الوعي بالذات، يحصن شعوب المنطقة ويدفع باتجاه الإمبراطورية التي تشكل ضمانة لاستقلال المنطقة الحقيقي وسيادتها الحقيقية وتطورها الإيجابي".
أزمات مركبة
يقول البرغوثي إن المشروع الصهيوني كان وما زال أحد الحلقات المحورية في المشروع الإمبريالي الغربي للسيطرة على الشرق والعالم العربي، ولضمان استمرار الظروف التي تبقي على تلك السيطرة. فالغرب الامبريالي ينظر إلى منطقة الشرق باعتبارها مجرد ممر بينه وبين الصين والهند، منافسيه الاستراتيجيين ديمغرافيا وحضاريا وتكنولوجيا، وذلك يتطلب دولا تابعة ضعيفة مخترقة مسلوبة الإرادة وفاقدة للهوية. لقد أصبح المشروع الصهيوني بالنسبة للإمبريالية "أداة بمرتبة هدف" فهو يحقق استراتيجيتها في إضعاف المنطقة، وفي الوقت نفسه فإن هذا الضعف والتفكك يحمي إسرائيل.
لكنه يستدرك بالقول: "ما دامت الإمبريالية بحاجة للمشروع الصهيوني لفرض إرادتها فإن ذلك يعني أن مشروع التحرر الشرقي لم يصل لحد الهزيمة الكلية، وهنا تكمن أهمية ثقافة الوحدة والقضية الفلسطينية، ويصبح مشروع الإمبراطورية الشرقية الثقافية مشروع وعي بامتياز".
في ظل التراجع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه المنطقة العربية يرى البرغوثي أن العمل الثقافي بإمكانه أن يتطور إيجابا أو على الأقل لا يتراجع بالوتيرة نفسها، بل إنه ينبغي العمل على الجانب الثقافي لإنقاذ السياسة والاقتصاد.
يتوقف البرغوثي أيضا عند "الأزمات البنيوية المزمنة والمركبة" التي تعاني منها الدولة "الوطنية" في العالم العربي. فهذه الدول لم تنشأ في إطار تطورها الذاتي. وعلى عكس الدولة الوطنية التي نشأت إثر معاهدة "وستفاليا" في أوروبا فإن الدور الأكبر في إنشاء الدولة المعاصرة في العالم العربي كان للقوى الدولية الإمبريالية في سياق استعمار المنطقة، وفي سياق التفاعل مع ذلك الاستعمار سواء كان بمواجهته من قبل المتضررين منه أو محاكاته من قبل القوى المتصالحة معه.
يقول: "كانت الدولة الوطنية هدية دول سايكس ـ بيكو وسان ريمو إلى الشخص أو العائلة التي خدمتها.. ونشأت هذه الدول وتطورت برعاية الإمبريالية العالمية، التي قامت أيضا باختراع دول وظيفية.. فكان لزاما على تلك الدول أن تبدأ باختراع هوية خاصة بها، مستعينة بالجغرافيا أحيانا، وبالأنساب في أحيان أخرى.. لم تكن الدول الوطنية الناشئة دولة-أمة بأي شكل من الأشكال، كانت مقسمة تعسفيا دونما مراعاة لتاريخ أو تركيبة ديمغرافية أو إثنوغرافية للشعوب الناشئة".
يضيف البرغوثي أن الدول الوطنية في العالم العربي تميزت بطبيعتها الاستبدادية بحق مواطنيها لكنها في الوقت نفسه كانت تابعة للمستعمر، تقيم للخارج وزنا كبيرا بينما تستصغر شعوبها، لذلك كان استقلالها شكليا، حافظ المستعمر بعد خروجه منها على كل أدوات الهيمنة فيها. ومعظم الأزمات التي تعيشها المنطقة العربية تشير إلى الدولة الوطنية التي لم تقم بأي من وظائفها المفترضة كما ينبغي.
المثقف الكلّي
في ظل التراجع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه المنطقة العربية يرى البرغوثي أن العمل الثقافي بإمكانه أن يتطور إيجابا أو على الأقل لا يتراجع بالوتيرة نفسها، بل إنه ينبغي العمل على الجانب الثقافي لإنقاذ السياسة والاقتصاد. وهو لا ينكر مع ذلك أن حال المثقفين العرب ليست بأفضل كثيرا من حال السياسيين والاقتصاديين، لكنه يعتقد أن حالة "التصحر الفكري" التي ألمت بالثقافة العربية بعد هزيمة 1967، لا تنفي الدور التاريخي للثقافة في إعادة النهوض، ولا تلغي وجود الحامل التاريخي لهذه النهضة المتمثلة بالمثقفين الحقيقيين "الكليين" الذين بقيت مصلحتهم مرتبطة بالمصلحة العامة.
دور هؤلاء المثقفين "الكليين" هو التوطئة والتنظير للتفكير الوحدوي التحرري الإمبراطوري ببعده الإنساني، ومن أجل ذلك لا بد من تشجيع العقلانية ودور العقل والبحث والدراسة، التي يجب أن يكون الإنسان مركزها، بكل ما يعنيه ذلك من دفاع عن حريته ضد أي استبداد أو اضطهاد قد ينتقص شيئا منها.
يتوقع أيضا من هؤلاء المثقفين أن يكون الحوار عمودا أساس في عملهم وتفاعلهم مع مجتمعاتهم، مع حرصهم على ترسيخ الفكر النقدي الجذري والعلمي، لكي يسهموا في إعادة "بناء الأفكار والرؤى حول القضايا الهامة المرتبطة بالإنسان والوطن والمجتمع".
المثقف المعني بهذا الدور هو بحسب البرغوثي "يعي العلاقة الدقيقة بين الذاتي والموضوعي، وبين دور الداخل ودور الخارج، فهو يدرك أننا لسنا بريئين ذاتيا من عوامل تراجعنا، وفي الوقت نفسه يعرف دور القوى الخارجية المؤثرة في هذه المنطقة.
إنه لا يؤمن بنظرية المؤامرة بمعنى براءتنا الكلية مما حدث لنا، لكنه في الوقت ذاته لا يستبعد المؤامرة ويعلم أننا لا نعيش في عالم من الملائكة لا يتدخل فيه أحد في شؤون الآخر... وهو لا يجامل السلطة لكنه ليس معارضا سياسيا لها، ولا مؤيدا بالتأكيد، لا يمكن تخيله أيديولوجيا أو شموليا بل متسامحا يدرك قيمة الآخر، وهو منفتح على كل ثقافات الأرض الإنسانية، أممي بمواقفه مع المظلومين أينما كانوا".
الهوية الواعية
يتحدث البرغوثي في كتابه عن أهمية تشكيل "هوية واعية" لشعوب الشرق تمثل مظلة ثقافية تتسع لكل مكونات هذه المنطقة. وهو أمر يجد أنه من الممكن تحقيقه وهناك شاهد قوي عليه في الاتحاد الأوروبي، حيث تحررت الدول الأوروبية من ماضيها المليء بالصراعات واختلافاتها الثقافية واللغوية ونظرت فقط لمستقبلها ومصالحها ومتطلبات نهضتها فخلقت لنفسها هوية جديدة.
يقول: "الهوية الواعية التي نراها هي في الأساس ثقافية. هي حالة وعي بالمستقبل لشعوب الشرق ونخبه، والطريق الوحيد للوصول إليها هو طريق الوعي بالمصلحة الاستراتيجية العليا لهذه الشعوب.. هذه الهوية الواعية التي تمهد للإمبراطورية الثقافية الشرقية هي حالة تمزج بين الثقافة والاستراتيجيا، هي النهوض بالثقافة لمستوى الاستراتيجيا، وهي لا تعني بالضرورة خلق امبراطورية سياسية شرقية لكنها بالطبع لا تنفيها.
هي حالة شعبية لا تملي على الدولة الوطنية أي شيء، لكنها تجعل حركة الدولة باتجاه التقارب أو التكامل أو التجانس أو الوحدة أسهل وأكثر احتمالا، من حركتها نحو الانقسام والتقاتل والحروب". إن الإمبراطورية التي يتطلع إليها البرغوثي سوف تحل مشاكل الإثنيات والطوائف المختلفة، ومشاكل الأقليات والأكثريات، حيث تتحول جهود شعوبها إلى التنافس الحميد داخل الامبراطورية عوضا عن الصراع والاقتتال، وستحل خلافاتها على قاعدة الوعي بالمصالح المشتركة والهوية "الواعية" الواحدة. كذلك ستكون هذه الامبراطورية "إيذانا بعلاقات دولية جديدة .. تحول الهيمنة إلى تعاون.. وستكون عامل توازن واستقرار في العالم.. فغياب قوة شرقية حقيقية يشكل إخلالا بالاستقرار العالمي".
وينبه البرغوثي إلى أن الحديث عن هذه الامبراطورية لا ينبغي أن يفهم منه الدعوة لإلغاء الدولة الوطنية وإنشاء دولة واحدة مترامية الأطراف بقيادة مركزية. إنما هي دعوة للوعي بالترابط الجيواستراتيجي لشعوب الشرق ولإدراك أن مصالحها مترابطة في ما بينها، ولا يمكن تحقيق مصلحة شعب من شعوبها على حساب الآخر، كما لا يمكن لأي مكون من مكونات هذه الامبراطورية عزل نفسه عن محيطه، فتلك هي بوابة التبعية للطامعين والسيادة المنقوصة.