مقالات مختارة

أوروبا في مهب رياح دونالد ترامب

لطفي العبيدي
ترامب وصف حلف "الناتو" في أكثر من خطاب بأنه "عفا عليه الزمن"- جيتي
ترامب وصف حلف "الناتو" في أكثر من خطاب بأنه "عفا عليه الزمن"- جيتي
الادعاء بأن السياسة الخارجية الأمريكية تسترشد بالمُثل العليا للديمقراطية والحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك، باتت اليوم محل طعن بما لا يدع مجالا للشك أمام تصرفات الإدارة الأمريكية، سواء بوجهها الديمقراطي زمن جو بايدن وما طال المنطقة من انتهاكات صارخة يندى لها جبين الإنسانية في حرب غزة، أو مع الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي يواصل احتضان مجرمي الحرب، ويعاقب حتى المحاكم الدولية، التي تحاول البحث في جرائم حرب الكيان الصهيوني. وهو إلى جانب ذلك يرمي بكل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية عرض الحائط، دون اكتراث أو مسؤولية.

تغير خطاب السياسة الخارجية الأمريكية تجاه روسيا، وتصريح ترامب الواضح بضرورة فرض صفقة وقبول أوكرانيا بها كأمر واقع، وفق ما سيتفق عليه الرئيس الأمريكي مع نظيره الروسي، جميعها تحولات مهمة تزيد من إرباك الساسة الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم في مهب الريح، وهم يشاهدون كيف يهان زيلينسكي في البيت الأبيض. ماذا عن فكرة تشكيل جبهة غربية، موحدة، وقوية، لمواجهة بوتين دون هوادة؟ يبدو أنها باءت بالفشل.

والصورة الأوضح، هي لتكتل مكون من27 دولة، مقسم، مرتبك في إصدار القرارات المتعلقة بالسياسات الخارجية، ومنها العقوبات. وتتفاوت تأثيرات الأزمة بين دوله، ولا يجتمع على شيء. وتلك نقطة ضعف يستفيد منها بوتين إلى أقصى حد. ومع عودة ترامب للبيت الأبيض تتجه الأمور لمصلحة روسيا أكثر من أي وقت مضى، على امتداد صراعها مع الغرب. تعرضت الحكومات الأوروبية لضغوط شعبية كبيرة بسبب موقفها من الحرب في أوكرانيا، وهذه الدول تواجه اليوم مخاطر غير مسبوقة.
الصين لديها معدل نمو اقتصادي يزيد على ضعف معدل نمو الولايات المتحدة

ويبدو أن هذه الضغوط ستزداد مع انفراد روسيا عمليا بالمصير الأوكراني، بعد تخلي الولايات المتحدة عن دعمها لهذه الحرب بسبب رفض أوكرانيا إعطاء ترامب المعادن الثمينة لقاء ما قدّمته الإدارة الأمريكية لكييف من أسلحة وعتاد ودعم سياسي ودبلوماسي. وأمام أزمة الطاقة والتضخم وارتفاع الأسعار من جهة، ومطالبة الجماهير بسياسة اجتماعية عادلة، وسياسة بيئية حقيقية، من جهة ثانية، لن تخرج أوروبا من هذه الأزمة إلّا وهي معرّضة لخسائر فادحة، وإن بنسب متفاوتة بين دولها. هذه الحكومات التي ارتهنت لواشنطن، وركنت للتبعية في السياسة الخارجية والقرارات الجيوسياسية، تجد نفسها اليوم وحيدة بعد تعويلها المفرط على الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. رغم أن أسلوب ترامب وشخصيته وتفضيلاته، لا تشبه أي زعيم معاصر بقدر ما تشبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن صداقة ترامب وبوتين لن تكون ضمانا لعلاقات تعاونية بين الولايات المتحدة وروسيا، رغم كل ما يبدو من توافق في التوجهات. يعد ترامب قوة مفاقمة في هذه الحرب الباردة الجديدة خاصة مع الصين، التي لم يصعّد لهجته تجاهها بعد، مع أن ذلك متوقع في الأيام. المقبلة، وبسبب نزعته الشعبوية ونرجسيته المفرطة، وعدم استقرار آرائه، ناهيك من عدم القدرة على التنبؤ بقراراته، يبقى الغموض سيد السياسة الخارجية الأمريكية في خطوطها العريضة، رغم ما يطرح من تقديرات استشرافية يطرحها كثيرون أمثال جان دوتكيويتز، ودومينيك ستيكوتا وغيرهما.

الصين لديها معدل نمو اقتصادي يزيد على ضعف معدل نمو الولايات المتحدة، كما أنها تمتلك ناتجا محليا إجماليا قريبا من مثيله في الولايات المتحدة، ويبلغ عدد سكانها ثلاثة أضعاف مثيلتها في الولايات المتحدة. وهناك مصلحة عالمية مشتركة كبيرة غير مسبوقة في الازدهار المتبادل وحماية الكوكب من التدهور البيئي. المؤكد في المدى المنظور في نظر عديد المراقبين، أنه من غير المرجح أن تقوم الولايات المتحدة وروسيا والصين بإقامة “سلام دافئ”، مثل السلام الذي تتمتع به أوروبا الغربية، أو بين أوروبا والولايات المتحدة وحلفائها الآخرين. ستكون استعادة احتمالات التسوية الدبلوماسية صعبة، بعد الصدمة، ومآسي الحرب والعقوبات الانتقامية الشديدة، التي نجمت عن غزو أوكرانيا. لكن حتى أسوأ الحروب تنتهي. مايكل براون وإريك تشوينغ وبافنيت سينغ، يُجمِعون على أنه يجب على الولايات المتّحدة أن تستعدّ لماراثون القوّة العظمى، وهو سباق اقتصادي وتكنولوجي مع الصين ليس من المرجّح أن يصل إلى نتيجة حاسمة. ولا بدّ للمجتمع الأمريكي، كما يصرّ الأمميون الليبراليون، أن يبقى في تأهّب للحرب في المستقبل المنظور، أما السّلام فغير وارد.

يعتقد ترامب ونائبه فانس أن روسيا لديها أسباب مشروعة معينة لرؤية الطموحات الغربية في أوكرانيا، باعتبارها تهديدا لأمنها ومصالحها الحيوية. وينظران إلى هذه الحرب باعتبارها جزءا من صراع جيوسياسي أوسع بين الغرب وروسيا بشأن توسع حلف شمال الأطلسي والنظام الأمني في أوروبا.

اظهار أخبار متعلقة


وفي غياب الدبلوماسية، يعتقدان أن دوامة الفعل وردود الفعل في هذا الصراع الجيوسياسي تتفاقم مع إصرار أوكرانيا على مواصلة المواجهة بدعم غربي، ما يعرض الجميع للخطر، ويمضي بالجميع، على حد تعبير ترامب، نحو “الحرب العالمية الثالثة”. ترامب عازم فيما يبدو على عدم تقديم أي التزامات أمنية أمريكية أخرى في أوروبا خارج حدود حلف شمال الأطلسي الحالية. بالنسبة إليه، بوتين سيعقد صفقة ويلتزم بها إذا استوفت الشروط الأساسية لروسيا. وليس لدى بوتين أي نية لمهاجمة حلف شمال الأطلسي مادام الحلف لا يشكل تهديدا على أمن روسيا القومي، بالشكل الذي يحاصر مجالها الجغرافيا وحزامها الأمني الاستراتيجي. وهذه رؤية معقولة، لكنها تطرح تساؤلات بالمقابل، لماذا أوصلت الولايات المتحدة الأمور لهذه النقطة من المواجهة، وهي التي عملت على توسع الناتو نحو الحدود الشرقية وتشجيع انضمام جمهوريات سوفييتية سابقة إلى الحلف الأطلسي؟ هل هي سياسات أشخاص أم استراتيجية دولة؟ من يقود أمريكا؟

وصف ترامب، حلف “الناتو” في أكثر من خطاب بأنه “عفا عليه الزمن”، بل إنه اقترح في أكثر من مناسبة، انسحاب الولايات المتحدة من الحلف، وأخبر مجلس الأمن القومي في يوليو 2018 أنه يعتقد أن الحلف يستنزف موارد الولايات المتحدة. أكبر مخاوف الأوروبيين فيما يتعلق بالأزمة مع روسيا التي لا بوادر عملية على حلّها تختلف من بلد إلى آخر.

ووسط الانقسامات الأوروبية المتواصلة، تفتقد مثل هذه الحكومات بحكم تبعيتها للولايات المتحدة على مدى عقود إلى التخطيط لحالات الطوارئ، مع أنّ بعض السياسيين حافظوا على توازن المصالح وفق درجة من الحنكة السياسية، وأبرزهم المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، التي حرصت طيلة سنواتها الـ 16 في السلطة، على المحافظة على العلاقة مع روسيا، في محاولة لفصل الخلافات الجيوسياسية عن المصالح الاقتصادية بين البلدين. في المحصلة، يبدو أن الحلف والدول الأعضاء أنفسهم مطالبين بصياغة أهداف جديدة تتماشى مع المصالح الحالية، ترامب يدعوهم صراحة إلى تخفيف التركيز المبالغ فيه على روسيا، وتنويع آليات العمل حتى لا تقتصر فقط على القوة العسكرية، وكأنه يقول وهو رجل المال والأعمال: ما من سبيل سوى إعطاء مساحة أكبر للسياسة والدبلوماسية، والشراكة الاقتصادية، وقبل هذا وذاك “الصفقات المربحة”.

المصدر: القدس العربي
التعليقات (0)