قضايا وآراء

بين شُبهة تسميم الرئيس وحقيقة تسميم الوضع العام

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600
1- تسريب الخبر وجس النبض

مثّل خبر تعرض رئيس الجمهورية إلى محاولة تسميم حدثا إعلاميا وسياسيا في الساحة التونسية، حيث كان الجدل بين المكذبين وبين المسارعين إلى اتهام من يخاصمهم الرئيس بكونهم وراء المحاولة.

الخبر لم يصدر بداية من القصر الرئاسي ولا من جهة رسمية، ولكن من كرونيكور حديث العهد بالساحة الإعلامية تكلم في إحدى القنوات وقال إن لديه الأدلة وأنه يتحمل مسؤولية كلامه. شرطة مكافحة الإرهاب في القرجاني بتونس العاصمة كانت في انتظاره بباب القناة لتصطحبه إلى مقرها لسماع أقواله ثم إطلاق سراحه.

يقول بعض المراقبين إنه قد يكون وقع استعمال هذا الكرونيكور الشاب لتسريب الخبر بهدف جس نبض الشارع واختبار ردود الفعل شعبيا وسياسيا.

2- حكومة الـ144 نائبا وقرع باب الرئيس

هذا الخبر/ الإشاعة جاء بعد نجاح رئيس الحكومة إلياس المشيشي في نيل تزكية البرلمان - وبنسبة عالية - لحكومته المعدلة.

لم يكن قيس سعيد راضيا عن نجاح المشيشي في نيل ثقة البرلمان في المناسبتين، وظل يبدي نقدا حادا للحكومة ولا يتردد في إهانة المشيشي أمام الرأي العام، وآخرها في مجلس الأمن القومي الأخير بتاريخ 25 كانون الثاني/ يناير 2021.

كان متابعون كثيرون ظنوا أن المشيشي سيؤجل عرض وزرائه الجدد لنيل ثقة البرلمان، بعد كلام الرئيس عن فاسدين فيها وبعد تهديده بعدم قبولهم لتأدية القسم أمامه.

ولكن المشيشي ومعه رئيس البرلمان الأستاذ راشد الغنوشي كانا مصممين وواثقين من توفر الرصيد البرلماني لتزكية الحكومة، فكان أن التأمت جلسة من اليوم التالي، أي 26 كانون الثاني/ يناير، ونالت فيها حكومة هشام المشيشي ثقة 144 من نواب الشعب وهو عدد مهم بل و"مخيف".

هذا الرقم "مخيف" لأنه لامس العدد المطلوب لتمرير المحكمة الدستورية، ثم ربما لتقديم لائحة سحب الثقة من رئيس الجمهورية قيس سعيد.

في نفس اليوم الذي نالت فيه حكومة المشيشي ثقة البرلمان، وجهت رئاسة الجمهورية مراسلة إلى النيابة العمومية حول شبهة محاولة تسميم الرئيس بواسطة طرد مسموم.

3- النيابة العمومية على الخط

وأوردت النيابة العمومية في بلاغها أنه "بعد الاطلاع على محتوى التقرير الفني المشار إليه، تبين في خلاصة الأعمال الفنية، أنه تم إجراء اختبارات فنية على الظرف المشبوه بواسطة أجهزة فنية وبطريقة علمية، فتبين عدم احتوائه على أية مواد مشبوهة سامة أو مخدرة أو خطرة أو متفجرة".

وذكرت أنه جاء بتقرير الإدارة المذكورة، أن مصالح رئاسة الجمهورية أحالت عليها بتاريخ 26 كانون الثاني/ يناير ظرفا ممزقا، وطلبت إجراء الاختبارات الفنية اللازمة عليه، مضيفة أن الإدارة المذكورة أرجعت الظرف الممزق لمصالح رئاسة الجمهورية بنفس التاريخ بعد إجراء الاختبارات الفنية المطلوبة.

وكانت صفحة رئاسة الجمهورية قد نشرت بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير بلاغا جاء فيه:

"يهم رئاسة الجمهورية أن توضح ما يلي:

تلقت رئاسة الجمهورية يوم الاثنين 25 جانفي (كانون الثاني) 2021 حوالي الساعة الخامسة مساء بريدا خاصا موجها إلى رئيس الجمهورية يتمثل في ظرف لا يحمل اسم المرسل. وقد تولت السيدة الوزيرة مديرة الديوان الرئاسي فتح هذا الظرف فوجدته خاليا من أي مكتوب، ولكن بمجرد فتحها للظرف تعكر وضعها الصحي وشعرت بحالة من الإغماء وفقدان شبه كلي لحاسة البصر، فضلا عن صداع كبير في الرأس. كما تجدر الإشارة إلى أن أحد الموظفين بكتابة رئاسة الديوان كان موجودا عند وقوع الحادثة وشعر بنفس الأعراض ولكن بدرجة أقل.."..

4- ردود الفعل قبل التأكد

الخبر/ الإشاعة تحول إلى مادة للتحليلات السياسية في الإعلام الداخلي والخارجي وتلقى رئيس الجمهورية مكالمات هاتفية من رؤساء دول وحكومات دول شقيقة؛ أولهم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ورئيس مصر عبد الفتاح السيسي وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني ورئيس المجلس الرئاسي في حكومة الوفاق بليبيا فائز السراج.

الكثير من أنصار رئيس الجمهورية ومن خصوم حركة النهضة تحديدا سارعوا إلى تصديق الخبر وإلى الإشارة بأساليب عدة إلى مسؤولية طرف سياسي أو مالي في العملية، بالنظر إلى كون رئيس الجمهورية كان قد ذكر مرارا عدم تحاوره مع الفاسدين. وقد يكون أحد من يقصدهم الرئيس نبيل القروي، رئيس حزب قلب تونس حليف حركة النهضة، بالحكم عن طريق ما يُعرف بـ"الحزام السياسي" الداعم للحكومة وعن طريق تنسيق الكتل البرلمانية المتحالفة مع النهضة.

هذا الخبر/ الإشاعة زاد في توتير الساحة سياسيا واجتماعيا وأمنيا، فتحولت الاحتجاجات من مرحلة المطالبة بالشغل والعدالة إلى مرحلة استفزاز أعوان الأمن بأساليب غير متحضرة، بل ومعيبة ومخجلة ومخلة بالآداب العامة. التونسيون الذين تابعوا فيديوهات توثق تلك الاستفزازات عبروا عن إدانتهم لأصحابها، وعبروا عن تقديرهم لضبط أعوان الأمن أنفسهم وتحكمهم في أعصابهم، فلم يردوا الفعل ضد أولئك الشباب المنفلتين والذين لا يبدو أن لهم مطالب اجتماعية أو حقوقية.

5- ظاهرة جديرة بالدراسة

الشباب الذين يتظاهرون ويسبّون ويستفزون الأمنيين بأساليب رديئة مثلوا ظاهرة غريبة لم يعهدها التونسيون؛ وقد تابعوا لعقود احتجاجات الشباب التلمذي والطلابي والعمالي ضد أجهزة أمن بورقيبة وبن علي، ولكنها كانت احتجاجات بشعارات ذات مضامين سياسية واجتماعية وحقوقية، ولم يكن الشباب يومها ليسِفّوا إلى مستويات بذيئة وقبيحة كما شاهدناه هذه الأيام.

أولئك الشباب المحتجون - في أغلبهم - لا يمثلون قوة اجتماعية أو مطلبية، بقدر ما يمثلون ظاهرة تحتاج الدراسة.

هم شبابنا الذين أضاعتهم الدولة وتركتهم لمافيا الأحزاب ومافيا المخدرات ومافيا السفارات؛ تستعملهم أداة لخدمة أهدافها ومصالحها.

الدولة مسؤولة عن ذهاب الشباب إلى المنطقة القصوى شمالا أو يمينا، فالبوليس الذي تعرض هذه الأيام لأسوأ معاملة وأبشع إهانة هو ابن أسرة تونسية له أب وأم وأخ وأخت وزوجة وأبناء وأولاد عمومة وأخوال.

ما الذي يمكن أن تخلفه تلك الاستفزازات في نفوس أعوان يؤدون واجبهم ولا دخل لهم بسياسة أحزاب وخلافات سياسيين؟

من له مصلحة في رد فعل جماعي للأمنيين؛ إما بالانسحاب من الشارع وإما برد فعل انتقامي ضد الشباب المتظاهر، والذي أساء التعبير عن مطالبه وأساء مخاطبة الأمنيين؟

هناك أمر ما يدبر للبلاد ولا علاقة له بمصلحة التونسيين ولن يستفيد منه معارضون ولا محتجون؛ لأن المستفيد الوحيد هو طرف متربص بالجميع.

هل تقدير المصلحة العامة يقتضي الصمت والسكوت عن فشل حكومات متعاقبة؟ لا أبدا، الاحتجاج حق وواجب من أجل الضغط على السياسيين كي يفكروا في مصالح الناس وكي يخدموا التونسيين، ولكن السؤال هو: كيف نمارس حقنا في الدفاع عن مصالحنا والضغط على السياسيين، وفي نفس الوقت لا نسيء لهيبة الدولة ولا نغري الأعداء بنا، ولا نسهم في تسريع احتراق البيت بما وبمن فيه؟

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)