كتاب عربي 21

قطر أم تطبيع الإمارات

محمد هنيد
1300x600
1300x600

لا ينشأ المصطلح السياسي عبثا أو صُدفة خاصة في سياق الأزمات السياسية والمنعرجات الحضارية الحاسمة فوراءه شبكة من مراكز البحوث والدراسات وفرق من المختصين والإعلاميين. المصطلح السياسي هو عنوان لمشروع مرحلة وهو يُخفي وراءه أنساقا من التصورات والجزئيات التي لا تظهر معه ولكنها سريعا ما تتجسد في الواقع وتتحوّل إلى فعل مادي ملموس. المصطلح السياسي هو واحد من أخطر أسلحة الوعي التي تُحدد رؤية الإنسان ووعي المجتمع وترسم حدود تصّوره لما حوله وهو كذلك جزء أساسي من كل حرب أو حملة إعلامية تكون الوجه الآخر للحروب العسكرية على الأرض.
 
سياق اليوم هو تسارع وتيرة التطبيع العربية مع دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين التي تقودها الإمارات ومن ورائها السعودية ومصر أساسا. لم يكن التطبيع مفاجئا للمواطن العربي لأنّ الدور الاماراتي-السعودي في تخريب المنطقة وفي تدمير ثورات الشعوب في مصر وليبيا واليمن وسوريا وتونس أظهرُ من أن يخفَى. لكنّ المفاجئ في الأمر هو أنّ الدول المهرولة نحو التطبيع هي نفس الدول التي كانت بالأمس تتهم الثورات العربية بأنها مشروع صهيوني وبأن ربيع الشعوب هو ربيع عبري وبأنّ قطر الداعمة لمطالب الشعوب هي خادم للمشروع الصهيوني وفي هذا السياق نشأ مصطلح قطرائيل.

قطرائيل
 
من المهمّ إذن الإشارة إلى أنّ هذا المصطلح يدور في فلك مجموعة من المصطلحات المرتبطة به مثل "الربيع العبري" و"الخريف الإسلامي" مقابل "الربيع العربي" أو "ثورات الربيع" مثلا. إنّ الهدف الأساسي من هذه المفردات التي يقوم الإعلام بتدويرها ونشرها هو شيطنة الثورات التي فجّرتها الشعوب مطالبة بالحرية. تفرض غرف التحرير على الإعلاميين هذه المصطلحات فرضا لتتم إعادتها يوميا بشكل مكثّف وقصف يومي حتى تُفرض على أذن السامع وتلتصق بوعي الجمهور دون عناء البحث في خلفياتها ودلالتها وأهدافها. فهذه العملية هي جزء أساسي من كل حرب أو حملة إعلامية تهدف إلى تحقيق الهزيمة المعنوية والنفسية بالفريق المقابل وتأليب الرأي العام ضدّه.
 
نشأ هذا المصطلح قبل ثورات الربيع التي انطلقت من تونس لكنه انتشر بعد سنة 2011 حين بدأت الدكتاتوريات في السقوط واحدة بعد الأخرى. الكلمة مركّبة من اسم دولة قطر من جهة ودولة الكيان المحتل من جهة أخرى والهدف هنا هو ربط قطر بالصهيونية أو بعبارة أدقّ ربط الرؤية القطرية لتحولات المنطقة بالمشروع الصهيوني. لكنّ المصطلح يذهب في دلالته إلى أبعد من ذلك حيث يصهر دولة قطر ودولة الاحتلال في كيان واحد فقطر هي إسرائيل وإسرائيل هي قطر.

 

تستنفذ الإمارات اليوم كل أوراقها ولم يبق لها ما تخسره بعد انكشاف كل مغامراتها ومشاريع الفوضى التي سطرتها في أرجاء الوطن العربي منذ عشر سنوات. لكنّ المكسب الأكبر للوعي العربي هو انكشاف حجم الأكاذيب التي أنفقت عليها خزائن الخليج مليارات الدولارات من أجل تزييف الوعي وتضليل الجماهير.

 



بناء على ما تقدم فإن المصطلح يتضمّن دلالات أساسية منها أنّ المشروع الصهيوني في احتلال أرض فلسطين وتجريف الأراضي وبناء المستوطنات وتدنيس المقدسات هو أيضا مشروع قطري. ولا يقتصر هذا التأويل على المصطلح فقد عملت الشبكات الاتصالية التابعة لنفس غرفة العمليات التي أبدعت المصطلح على إسناده بوقائع مصورة منها الحقيقي ومنها المدلّس. نذكر هنا مثلا زيارة الوفد الإسرائيلي إلى الدوحة عندما فتحت الدوحة مكتب علاقات مع إسرائيل إثر مبادرة السلام العربية وهو معطى واقعي. لكنّ نفس غرفة العمليات تُسنِد المصطلح بوقائع مزيفة مثل صورة الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة وهو يزور المستوطنات في فلسطين وهي في الحقيقة صور مزيفة لأنها تعود إلى زيارة له إلى الولايات المتحدة بعد كارثة إعصار مدمر.

بناء على ما تقدم فإن تسمية قطرائيل لا تخرج عن إطار الشيطنة لكنها تختلف عن الشيطنة والتشويه اللفظي مثل نعت قناة الجزيرة بلفظ أكثر تشويها (الخنزيرة) دأب ذباب السعودية والإمارات ومصر على ترويجه على مواقع التواصل. لكنّ اللفظ الجديد يتجاوز حدود التشويه اللفظي ليُلامس التخوين العقائدي وبيع المقدسات والتآمر على الأمة.

الصهيونية حقٌ يُراد به باطل 

قد تكون القضية الفلسطينية من القضايا القلائل إن لم نقل إنها القضية الوحيدة التي حازت على إجماع كل أطياف الأمة وتياراتها الفكرية والسياسية. هذا الإجماع العقائدي الذي يصل أحيانا إلى حالة التقديس استفادت منه أطراف كثيرة فحوّلته إلى أصل تجاري للمزايدة والاستثمار ورفع الرصيد الجماهيري. رفع حزب الله شعار تحرير فلسطين وكذا كل الحركات القومية بدءا بعبد الناصر وصولا إلى آل الأسد في سوريا قبل أن تنكشف حقيقة الشعارات الشعبوية وما تخفيه وراءها.

بناء عليه فإن إلصاق تهمة التصَهْيُن والخيانة بفرد ما أو بمجموعة من الأفراد أو حتى بدولة يكون كافيا لشيطنتها وقلب الرأي العام العربي والإسلامي ضدّها كما فعلت الأذرع الإعلامية بالرئيس المصري محمد مرسي عندما اتهموه برسالة صداقة مرسلة إلى الكيان الصهيوني. نفس هذه العملية تم استثمارها ضدّ دولة قطر خاصة بعد فتح إسرائيل مكتب علاقات في الدوحة إثر اتفاقية السلام العربية مع دولة الكيان بداية التسعينيات. وهي العلاقة التي ترى فيها الدوحة السبيل الوحيد لدعم غزة وإدخال المساعدات إليها.
 
قطر إذن ليست الدولة الوحيدة التي كانت لها علاقات مع إسرائيل فكلّ الدول العربية مطبّعة من المحيط إلى الخليج وإن بنسب متفاوتة. بل إن التصريحات الأخيرة لكبار المسؤولين الإسرائيليين تؤكد أنّ العلاقات الصهيونية الإماراتية تمتدّ إلى أكثر من خمس وعشرين سنة مضت وأنها تشمل كل الميادين وبقيت محاطة بسريّة تامة. لكنّ ما يميّز الموقف القطري على الأقل هو أنه كان دوما داعما للقضية الفلسطينية ولحركة المقاومة الإسلامية في غزة وكانت الدوحة إلى اليوم الداعم الأول لقطاع غزة بالمال والخدمات والإعمار ومشاريع البنية التحتية والطاقية. كما أنّ الدوحة لم تشارك في التآمر على ثورات الشعوب ولم تشجع أو تدعم الانقلابات على الشرعية بل كانت أوّل الداعمين للثورات وأول المعترفين بالأنظمة الديمقراطية والانتخابات التي تلتها. 

ما يميّز الدوحة في الحقيقة عن بقية الأنظمة العربية وخاصة منها الأنظمة الخليجية أنها لا تعادي صناديق الانتخابات بل تحترم إرادة الشعوب وتشجّع اختياراتها دون أن تتدخل في شؤونها الداخلية وهذه نقطة هامة جدا في الحكم على سياسة قطر الخارجية. 

التطبيع الجديد
 
تطبيع الإمارات الذي تمّ بمباركة سعودية سرية وعلنية يختلف عن كل العلاقات التي أبرمتها الدول العربية مع دولة الكيان وقد لا ترتقي إلى خطورة هذه العلاقة إلا اتفاقية كامب ديفيد. اتفاقية مصر مع دولة الاحتلال فتحت باب التطبيع واعترفت بسلطة المحتل وباعت للأمة وهمَ السلام الذي لم نجن منه إلى اليوم إلا المرارة والخيبة ومزيدا من توسّع المستوطنات الذي انتهى إلى صفقة القرن ومصادرة المقدسات. 

أخطر ما في التطبيع الإماراتي أنه تطبيع عميق لا يكتفي بتطبيع الأنظمة الموجودة في السلطة كما كان الأمر سابقا بل هو يستدعي التطبيع الشعبي ثقافيا ولغويا وعقائديا إن لزم الأمر. هذه الخاصية الجديدة في العلاقات الصهيونية العربية ظهرت عبر ما أحاط بالمشروع الإماراتي الجديد من حيثيات نقلتها مواقع التواصل الاجتماعي. وهو الأمر الذي تطوّر عندهم إلى الحديث عن ديانة جديدة في المنطقة وهي الديانة الإبراهيمية التي تجمع المسيحية واليهودية والإسلام في تمهيد وقح لتصفية المقدسات وتمرير صفقة القرن.

خاصية ثانية مفزعة في التطبيع الإماراتي وهي أنه يندرج في سياق الحرب المتواصلة على موجات التغيير العربية وهو يأتي في سياق عجز قوى الثورة المضادة التي تقودها الإمارات على دفن موجات التغيير وهزيمتها كما حدث في ليبيا أو تونس مثلا. وهو أمر يجعل من التقارب الإماراتي الصهيوني الذي يتضمن السعودية ومصر مرحلة جديدة في محاربة موجات التغيير في المنطقة قد تُترجم في المستقبل القريب إلى فرض الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية.
 
تستنفد الإمارات اليوم كل أوراقها ولم يبق لها ما تخسره بعد انكشاف كل مغامراتها ومشاريع الفوضى التي سطرتها في أرجاء الوطن العربي منذ عشر سنوات. لكنّ المكسب الأكبر للوعي العربي هو انكشاف حجم الأكاذيب التي أنفقت عليها خزائن الخليج مليارات الدولارات من أجل تزييف الوعي وتضليل الجماهير. تطوي الأمة إذن طورا جديدا من تاريخها وتفتح صفحة جديدة عنوانها الوعي العميق بطبيعة المكونات وطبيعة حركتها بشكل سيجعل الأطوار القادمة مختلفة تماما عما سبقها.

التعليقات (1)
رائد عبيدو
الخميس، 03-09-2020 06:35 م
المقالات في فن تجميل القبيح لا تصنع وعيا، بل تكشف مدى تشبث كل إمعة بفريقه مهما انحط مستواه، فكل ما عليه لتبرير أي جريمة يرتكبها فريقه أن يحاول جعل خصمه يبدو أحط منه بأي وسيلة. فبهذا "الوعي" لم تعد العلاقات القطرية الصهيونية جريمة؛ لأن عبد الناصر كان يستفيد من معاداة الصهاينة شعبيا! وسيدافع الزوج عن خيانته لزوجته بأن أخاها يضرب زوجته حتى لو لم يخنها! ويصبح تبرير الخيانة السرية أنها ليست علنية وقحة، وتبرير الخيانة العلنية أنها ليست سرية جبانة، وتبرير خيانة النظام الجديد أنها موروثة عن الأنظمة القديمة وليست جديدة، وتبرير الخيانة الجديدة أنها تطور يتوافق مع النظام العالمي وليست اتباعا أعمى للأسلاف. وبذلك يستفيد المجرم من جرائم خصومه، فكما تحاول الإمارات وأتباعها أن يستفيدوا من التطبيع القطري، تحاول قطر وأتباعها أن يستفيدوا من التطبيع الإماراتي؛ لأن كل خيانة تمنحهم مساحات أكبر للخيانة وللتبرير، فيمكنهم أن ينحطوا لأبعد مدى ما داموا يرون أنهم لم يصلوا بعد إلى أدنى مستويات الانحطاط الحالية، فيتراكم الخبيث بعضه على بعض في قاع سحيق.