هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد حوالي ثلاثة عقود من التجربة الإعلامية خرج رئيس الحكومة المغربي السابق بتصريح مثير أعلن فيه فشل الإسلاميين في الإعلام، واعتبر فيه أن الإسلاميين لم ينجحوا في هذا الورش النوعي. ولأن السيد عبد الإله بن كيران لم يثر أسبابا خاصة يفسر بها هذا الفشل، لأنه لم يكن في معرض الحديث عن أزمة الإعلام عند الإسلاميين، فقد بقي السؤال معلقا على الأقل بالنسبة للتجربة المغربية، وفتح إمكانات لاستقراء تجارب الإسلاميين في أقطار متعددة للمقارنة والقياس واستخلاص ما يمكن استخلاصه بشأن التجربة الإعلامية للإسلاميين بشكل عام، وهل تعرف المصير ذاته، أي واقع الانسداد والاضطرار إلى إنهاء التجربة تحت وطأة الإكراهات المالية، أم أن ثمة تجارب أخرى عرفت مصيرا مختلفا، وجب الانتباه إلى شروط نجاحها أو على الأقل، المقومات التي اعتمدتها في المقاومة والمكابدة من أجل تبرير الوجود والفعل ولو بالحد الأدنى المتاح.
قبل ثلاث سنوات أسدل إعلام الإسلاميين في المغرب الستار عن تجربة عمرت ثلاثة عقود، وبعدها بسنة تقريبا أنهت جريدة السبيل الأردنية تجربتها، وعللت التجربتان المغربية والأردنية سبب إغلاق الصحيفتين "التجديد" و"السبيل" بإكراهات مالية، وفي السنة الماضية، تم الإعلان عن إنهاء تجربة أخرى في البحرين، في حين انعكس التوتر بين السلطة والإسلاميين في مصر على واقع التجربة الإعلامية للإسلاميين، فلم تغلق فقط منابرهم الإعلامية، بل تمت مصادرة كتب قياداتهم ومفكريهم، وحتى كتب المتعاطفين معهم المحسوبين عليهم، في حين لا تزال تجارب أخرى لإسلاميين في أقطار أخرى تعيش واقعا من الضعف والهشاشة، إذ لا يجاوز دورها الإعلان عن مواقف الإسلاميين والتماس رأيهم السياسي في المحطات السياسية المختلفة.
مؤكد أن للسياسة دورها في تفسير هذا الواقع، فكثيرة هي التجارب التي تمت مقاومتها ومنعها من ارتياد آفاقها البعيدة، لكن ليست السياسة هي العامل الوحيد الذي يفسر هذا الإخفاق وهذا الفشل، فثمة آليات وقواعد صارمة تؤسس للفعل الإعلامي لم يمتلكها الإسلاميون، ومع ذلك دخلوا غمار الإعلام لأهداف أخرى أقل بكثير مما يرومه الفعل الإعلامي، فكثيرة هي التجارب الإعلامية الإسلامية التي لم يتجاوز سقف أهدافها التعريف بأفكار الإسلاميين ومواقفهم، ولم تنتبه لدور الإعلام في المشروع الإصلاحي السياسي إلا بعد توسع قاعدة الإسلاميين وتحول مواقعهم من التأسيس إلى التوسع والامتداد في المجتمع والانسياب في المؤسسات.
الإسلاميون من جهتهم لا يترددون في ترديد تفسيرات تآمرية يوردونها على سبيل تبرير فشلهم في الإعلام، لكن الواقع يؤكد أن الأمر يتعدى هذه التفسيرات إلى ما هو أشمل، مما يرتبط بواقع الصناعة الإعلامية وطبيعتها في كل قطر على حدة، والمكونات والفاعلين الذين يهيمنون عليها، والقواعد والآليات التقنية التي ترسم خارطة الفعل الإعلامي، فضلا عن التحكم السياسي، وهيمنة لوبيات المال والأعمال، ودون أن ننسى طبيعة الخط التحريري، ونوع العلاقة التي تطبع القيادة الإعلامية بالقيادة السياسية، والوضعية المالية للوسيلة الإعلامية وأثرها في استقطاب الكفاءات المهنية أو استجلاب الحالات الاجتماعية أو الحالات التطوعية التي تشتغل بحماس زائد ودون كفاءة إعلامية، ودون أن نغفل أيضا التطور الرقمي وأثره على الصحافة الورقية بشكل عام.
الإسلاميون وقواعد السوق الإعلامية
تتميز السوق الإعلامية بقاعدة أساسية، وهي أن الاستثمار في الإعلام جد مكلف، لكنه من حيث الأثر التجاري غير مربح، إلا في الحالة التي تحظى فيها الوسيلة الإعلامية بكم مهم من الإشهارات التي تتجاوز عائداتها بعشرات المرات عائدات المبيعات.
وحيث إن الاستثمارات التي تضخ في الوسائل الإعلامية للإسلاميين جد محدودة، بحكم أن التركيبة السوسيولوجية للإسلاميين في كثير من الأقطار تضم في أحسن الأحوال الطبقات المتوسطة، ويندر فيها رجال الأعمال الناجحين، فإن تجاربهم الإعلامية تبقى خاضعة لمنطق الإنتاج المحدود الذي يناسب الإمكان المالي المتوفر، كما لا تحظى من الإشهار إلا بكم جد محدود أو ربما لا تحظى به بشكل مطلق، إما بسبب عوامل السياسة والتحكم، أو بحسب معيار الإنتاجية ونسب المتابعة، أو نسب السحب بالنسبة للصحف الورقية.
فإذا انضاف إلى ذلك المحدد الشرعي الذي يحظر التعامل مع جملة منتوجات إشهارية لاعتبارات مختلفة كحرمة التعامل الربوي (إشهارات السيارات التي تؤدى عن طريق الأبناك بالأقساط مثلا)، أو حرمة نشر منتوجات إشهارية تمس بالأخلاق والذوق العام، فإن الأمر ينتهي إلى تضاِؤل نسب المنتوجات الإشهارية التي يمكن أن تحظى بها الوسائل الإعلامية للإسلاميين.
ونتيجة لذلك، تفقد تجارب الإسلاميين الإعلامية أهم عامل من عوامل التنافس الإعلامي، كونها لا تملك رأسمالا تنافسيا، ولا تملك أيضا مقومات التنافس على مواد الإشهار والدعاية، مما يجعلها تسقط رهينة العمل الإعلامي بالإمكان المتوفر، وهو ما يؤثر على مستوى إنتاجيتها ووتيرة متابعتها، كما يؤثر أيضا على مستوى ونوعية الصحفيين الذين يتم استقطابهم للعمل في تجارب الإسلاميين الإعلامية، إذ حيث تقل العائدات، تنخفض الرواتب وتضعف الحافزية، فلا يبقى ضمن الصحفيين العاملين في الوسيلة الإعلامية للإسلاميين سوى نوعين فقط، حالات اجتماعية تقبل بالعرض، لأنها لا تملك أي كفاءة تؤهلها لا لعمل إعلامي ولا لغيره، أو أكفاء مناضلون يؤمنون بالمشروع الإعلامي ويريدون إنجاحه بما اتفق.
تحكم لوبيات المال والأعمال وتحكمهم للمنتوجات الإشهارية
على أن ثمة قاعدة أخرى لا بد من فهمها حتى تتضح صورة واقع تجارب إعلام الإسلاميين، وهي المرتبطة بالتحكم في سوق الإشهار، فالذين يستثمرون بقوة في الإعلام في ظل الأنظمة السلطوية أو شبه السلطوية، يتوزعون على قسمين: لوبيات مال وأعمال لها مصالح كبيرة، ولها واجهة سياسية تدافع عنها وتريد أن يكون لها أكثر من واجهة إعلامية تصرف مواقفها وتناهض كل من يناقضها الموقف والمصالح، والسلطة التي توعز لرجال أعمال أو شخصيات معينة بلعب دور النيابة عنها، وتقوم بأشكال مختلفة بتمويل مختلف العناوين الإعلامية التي تنشئها للدفاع عن مصالحها والحفاظ على التوازن السياسي الذي يحقق مصالحها.
وفي الحالتين معا، أي حالة لوبيات المال والأعمال، أو الجهات الموالية للسلطة الخادمة لأجندتها، يجد الإسلاميون أنفسهم خارج الكعكة الإشهارية، إذ لا تخضع المنتوجات الإشهارية لأي ضابط مهني أو أخلاقي في التوزيع، فتسبق اللغة الأجنبية اللغة الوطنية، وأحيانا يمنح لبعض الوسائل الإعلامية حظ أكبر لا يناسب إنتاجيتها ولا وتيرة متتبعيها ولا سحبها، وتكون وسائل الإسلاميين هي الأقل حظا من هذه المنتوجات حتى من المواد الإشهارية التي تخص مؤسسات الدولة والتي يفترض أن توزع باحترام للمعايير والشروط الموضوعية.
لا يستطيع الإسلاميون إلى اليوم في العديد من الأقطار الاقتراب من الإعلام الفضائي، لأنه خط أحمر، وأغلب هذه التجارب لا تتجاوز الصحف والمجلات، أي الوسائل التي حكم عليها التطور الرقمي بالموت عاجلا أم آجلا، وتملك إعلاما إلكترونيا محدودا محكوما بامتداد وتوسع الذين يرتبطون بالشبكة العنكبوتية.
والمثير للمفارقة أن الإسلاميين، حتى وهم في مربع السلطة، أو في قيادة الحكومة، وتجاربهم الإعلامية تعاني من احتكار وسائل إعلامية بعينها للمنتوجات الإشهارية بما في ذلك التي تخص مؤسسات الدولة، وفي الوقت الذي تحظى به وسيلة إعلامية بإشهار واحد من الإشهارات التي توزعها مؤسسات الدولة، تقام حملة كبيرة على الإسلاميين في السلطة كونهم يحابون جرائدهم ويوزعون عليها إشهارات مؤسسات الدولة.
ونتيجة لهذا الوضع، تفتقد تجارب الإسلاميين لأي تراكم أو حضور مهني فاعل، بل تفتقد لأي قدرة لاستقطاب المهنيين وإغرائهم برواتب معقولة مناسبة لكفاءاتهم، بل تفتقد للموقع الذي يجعلها مؤثرة في الهيئات المهنية التي تمثل المؤسسات الإعلامية.
التحكم والهيمنة السياسية
ليس ثمة شك أن للسلطة دور مهم في تفسير جانب من فشل تجارب الإسلاميين في الإعلام، فكل الدورات التي تمر منها الصناعة الإعلامية تمر على عين السلطة، بدءا بالإنتاج وانتهاء بالتوزيع أو البث، وهي التي تتحكم في آليات توزيع الإشهار، أي أنها تتحكم في المحددات التي تغني المؤسسة الإعلامية أو تفقرها، بل تبقى دائما في موقع الترقب والترصد للنخب المالية ورجال الأعمال، مخافة أن يقترب أحد منهم من هذه المؤسسات، إذ يمكنها أن تستعمل كل أساليب القهر الضريبي حتى إنهاك شركاتهم ومقاولاتهم في حالة تفكيرهم ـ مجرد التفكير ـ في دعم إعلام الإسلاميين ماليا وتمليكهم الوسائل التي تقوم بها تجارب غيرهم.
هذا الوضع لا يبقي لتجارب الإسلاميين سوى طريقا واحدا للعمل هو الاعتماد على الإمكان المالي المتوفر، ومناسبة الفعل الإعلامي له، والبقاء دائما في موقع جد محدود لا يمتلك أدنى تنافسية إعلامية وذلك من مختلف المستويات.
فعلى سبيل المثال، لا يستطيع الإسلاميون إلى اليوم في العديد من الأقطار الاقتراب من الإعلام الفضائي، لأنه خط أحمر، وأغلب هذه التجارب لا تتجاوز الصحف والمجلات، أي الوسائل التي حكم عليها التطور الرقمي بالموت عاجلا أم آجلا، وتملك إعلاما إلكترونيا محدودا محكوما بامتداد وتوسع الذين يرتبطون بالشبكة العنكبوتية.
الإعلام بين القيادة السياسية والنخب الإعلامية
ثمة معضلة أخرى لا تقل أهمية عن المحددات السابقة، وهي ما يتعلق بنوع العلاقة بين القيادة السياسية للحركة الإسلامية وبين النخب الإعلامية التي تشتغل في وسائل الإسلاميين الإعلامية، فهذه النخب لا تشتغل في العادة ضمن تعاقد طويل المدى يتم احترامه دون الرجوع اليومي لمراقبة القيادة السياسية وتتبعها، بل الواقع أن هذه النخب تشتغل بدون تعاقد، وأحيانا تشتغل بتوجيه القيادة السياسية وتحت عينها، وبمراقبتها وتدقيقها وتصحيحها، مما يجعل المادة الإعلامية هي عبارة عن خليط بين المنتج المهني الذي يخضع للصناعة الإعلامية بين التوجيه السياسي الذي تقوم به القيادة السياسية، فينتج عن ذلك أن زاوية المعالجة تكون من اختصاص القيادة السياسية لا النخب الإعلامية التي درست الصنعة الإعلامية بشكل مهني متخصص، فتصنف الوسائل الإعلامية للإسلاميين بكونها اشبه ما تكون بنشرات حزبية لا مواد إعلامية تمتلك الوصول إلى أكبر شريحة من المجتمع.
وتبعا لذلك، تصير هذه الوسيلة الإعلامية منبرا لمعرفة مواقف الحزب أو الحركة، لا وسيلة إعلامية تلتمس لمعرفة الخبر وتنوير الحقائق ومتابعة الرأي ومختلف الأجناس الصحفية والإعلامية.
والمثير في الأمر أن بعض القيادات السياسية تفرض أن تنشر بيانات الحزب أو الحركة في الصفحة الأولى، فتغطيها بالكامل، على نحو لا يحترم الصناعة الإعلامية وقواعدها المهنية الصارمة.
وأحيانا تتدخل الحركة أو الحزب لفرض موضوعات أو زوايا نظر لا تحظى بأدنى اهتمام مجتمعي، وتدخل في المقابل لكي تمنع أو تقلص حضور الموضوعات التي تحظى بأكبر قدر من الاهتمام المجتمعي، لا لشيء إلا لأن اهتمامات الحركة أو الحزب ينبغي أن تنعكس على وسيلتها الإعلامية، إلى درجة أن بعض قيادات الحركة في تجارب مختلفة أصبحوا ـ بحكم جهلهم بالصناعة الإعلامية ـ يتذمرون من ضعف المادة التربوية والدعوية في جريدة الحركة أو جريدة الحزب، ويطالبون بكل قوة في المجالس الشورية بأن تتحول هذه الجريدة إلى صفحات تربوية ودعوية مثخمة بالمواعظ والرقائق الملينة للقلوب، ويشتكون من تضخم السياسي فيها.
الكفاءات المهنية أم الحالات الاجتماعية
وثمة مشكلة أخرى تواجه العديد من تجارب الإسلاميين الإعلامية، تتعلق بالموارد البشرية أو بالكفاءات التي يتم استقطابها للعمل الإعلامي. فنتيجة لضعف الإمكان المالي، يلجأ بعض مسيري هذه الوسائل إلى تشغيل الحالات الاجتماعية برواتب ضئيلة تنقذهم من الوضعية الاجتماعية المزرية، ويتم تعليل ذلك التصرف بكونهم سيأخذون التجربة مع الزمن، مما ينتج عنه ضحالة كبيرة في المنتوج الإعلامي، ولجوء إلى الانترنت، وأحيانا الوقوع في السرقات الأدبية باعتماد تقنية النقل واللصق دون إحالة على المصادر، وكثيرا ما يلجئ العمل اليومي المكثف، وضغط الإصدار اليومي، وقلة الموارد البشرية إلى إرهاق العاملين بإنتاج لا يطيقونه يلجئهم لمسلكيات غير أخلاقية وغير مهنية في العمل الإعلامي، مما يضعف أداء الوسيلة الإعلامية، ويحكم عليها بالوصم من قبل المنافسين الذين يتربصون الدوائر بالأخطاء التي يقع فيها الإسلاميون في تجاربهم الإعلامية المختلفة.
التجارب الإعلامية للإسلاميين فترة تدريب للمهاجرين
والمثير للملاحظة في كثير من تجارب الإسلاميين، أن عمل الإعلاميين في وسائلهم الإعلامية يكون في الغالب مرحلة مؤقتة بزمن، يقضون فيها فترة تدريب مميزة، تحضرها الجدية والالتزام بالقيم الأخلاقية العالية، وقدر لا بأس به من المهنية، ثم يضطرون بعد ذلك للهجرة إلى وسائل إعلامية أخرى، إما بسبب اضطرار التجربة الإعلامية الإسلامية للتخلي عنهم بسبب التوازنات المالية، أو بسبب أن الغير قدم عروضا مغرية، بتكاليف ونسبة إنتاج أقل، فيضطرون للهجرة إلى منابر الغير، فيثبتون كفاءة عالية لم تكن تحسب لهم في منابرهم الإسلامية الأصلية، بل يصبحون الصحفيين الأكثر بروزا في الصحف التي هاجروا إليها، وبعضهم يهاجر إلى قنوات عربية دولية مميزة، ويثبتون تميزا وتألقا لافتا لم يكن معترفا به في فترة "التدريب المؤقت".
الذين يهاجرون يشتكون في ماضي التجربة الأولى من الاعتراف، والذين لا يزالون متشبثين بمنطق العمل الإعلامي النضالي، يرون أن القضية لا تتعلق بالاعتراف بقدر ما تتعلق بشروط العمل وبواقع الإعلام الإسلامي الذي يشكون من التحكم السياسي وهيمنة لوبيات المال والأعمال، تلك الوضعية التي تحرم الوسيلة الإعلامية برمتها من نيل الاعتراف، فينسحب ذلك على واقع الصحفيين المهنيين.