أفكَار

تونس.. العمل الخيري في مواجهة الوباء وخارج أسوار التوظيف

تونس.. العمل الخيري يستعيد وهجه مع انتشار جائحة كورونا- (موقع جمعية مرحمة)
تونس.. العمل الخيري يستعيد وهجه مع انتشار جائحة كورونا- (موقع جمعية مرحمة)

لم يمهل تسونامي الحمّى التاجيّة (كورونا COVID 19) حكومات الأقاليم والدّول المنكوبة كثيرا من الوقت، كي تستجمع شتات منظوماتها الاجتماعية المهترئة، ضحيّة أنظمتها الليبرالية. فمع تضاعف أعداد الضحايا من يوم إلى آخر، تهاوت نظريّات "الصفر دولة" وهرعت معظم العواصم الأوروبيّة إلى تأميم صناعاتها الطبيّة وشبه الطبيّة، علّها تلوذ بها عن حماها وكبريائها المتداعي.

ولئن وجدت ألمانيا في "اقتصاد السوق الاجتماعي" ملاذها لصدّ فجائية الوباء المستجد، واستنجدت فرنسا من جهتها بتاريخها الاجتماعي العريق، للتخفيف من حدّة الانعكاسات الاجتماعية المتسارعة، التي أعقبها الحجر الصحّي الشامل منذ 17 آذار (مارس) الفارط، فإنّ تونس بمحدوديّة إمكانياتها وبحكم ما تعانيه من ضغوط الاختلالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، حصاد هشيم سياسات الإصلاح الهيكلي (1986)، وخفض إنفاق الدّولة على مرافق الحماية الاجتماعيّة، على وجه الخصوص بقطاع الصحّة، لم تجد من سبيل غير خفض جناحها لجمعيات المجتمع المدني وقواه الحيّة الناشئة.

وتتطلّع تونس، التي تحظى تجربتها الدّيمقراطيّة الناشئة بتقدير كبير، بوّأها منزلة الفرادة مقارنة ببقيّة تجارب الانتقال الديمقراطي المماثلة والمتعثرة، إلى دور طلائعي أكبر لنسيج المجتمع المدني وجمعياته الخيريّة التي عرفت منذ ثورة 17 كانون أول/ ديسمبر 2010 ـ 14 كانون ثاني/ يناير 2011 انفلاتا تنظيميا غير مسبوق. دور ينقل المجتمع المدني من مجرّد أُطر وظيفيّة تستدرّ العطايا والهبات الحكوميّة إلى مستوى الرقيب المباشر على عمل الحكومة واستراتيجياتها، والأهم من ذلك الانتقال إلى رافعة بناء وإسناد مادّي وهياكل تأطير متطوّعة لجموع الحشود السكانية، أينما تراخت هياكل الدّولة ومؤسساتها الرقابيّة. 

رغم السياقات الانتخابيّة ومناخاتها المتوترة، التي عرفتها التجربة الديمقراطية الوليدة منذ 23 تشرين أول (أكتوبر) 2011، والتي أتت على مورفولوجيّة الجمعيات الخيريّة وفعاليتها، والتي بلغت ذروتها إبّان حكومة المهدي جمعة، رئيس الحكومة الأسبق، فإنّ الهبّة التطوّعيّة التي أظهرها التونسيون خلال الأسابيع الأخيرة من فرض الحجر الصحّي الشامل، تأتي لتقيم الدّليل على عراقة هذه المبادرات الخيريّة الطّوعية وعلى عمقها الديني والمجتمعي، ولترسم أدوارا حضاريّة متقدّمة لمجتمع متلاحم، لا يزال موروثه الثقافي والجمعي يُكبر العمل الوطني الذي قامت به الأميرة عزيزة عثمانة، حفيدة عثمان داي، سنة 1662 والمتمثل في حبس جزء من أملاكها على "بيمرستان العزّافين"، والذي صار يحمل اسم مستشفى عزيزة عُثمانة منذ عام 1960، تخليدا للأميرة المحسنة.
   
أدوار حضاريّة مهمّة تصنعها اليوم جمعيات خيريّة، عانت لسنوات، وفق كثيرين، من تشويه منابر إعلاميّة بعينها، وربّما مضايقات إداريّة سمجة خدمة لأجندات سياسية قصيرة النظر، ومبادرات عفويّة تُجسّدها جمعيات: "كوجينة الزوّالي (غرفة طبخ الفقير)"، ومبادرات مواطنيّة أخرى تسعى إلى توفير وجبات صحّية للمشرّدين والذين تقطّعت بهم السبل، وحملات إغاثة مستمرّة لمبيتات الطّلبة والعملة الأفارقة، وإقدام بعض الشباب، عن طواعية، على تنظيم صفوف المواطنين أمام الفضاءات التجارية الكبرى ومكاتب البريد، هذا فضلا عن مئات المبادرات التلقائيّة التي عملت فضاءات التواصل الاجتماعي على تأطيرها، تجعل من الأهميّة بمكان التأصيل دينيا واجتماعيا وحضاريا لهذا الدّفق المجتمعي الأخّاذ والعمل على دحر العراقيل القانونية والإداريّة، التي قد تحول مستقبلا دون استمرار روح المبادرة التطوّعيّة ومأسستها.
 
المنظمات التطوعية شريك استراتيجي لدعم السياسات الوطنية

يؤكّد علي هنيد، باحث في علم الاجتماع ومختص في الاقتصاد التضامني، في تصريح لـ "عربي21"، على أهميّة جمعيات المجتمع المدني، بوصفها قاطرة الحركات الاجتماعيّة نحو تغيير الواقعين الاقتصادي والاجتماعي، بل إنّها التعبيرة الواضحة والتجسيد الصّريح لمختلف هذه التحولات الإيجابيّة في الواقع، باعتبارها تسعى دوما من أجل تغيير الوضعيات السائدة وتحويلها إلى وضعيات فضلى.

هذا الدّور الطّليعي لجمعيات المجتمع المدني، يمنحها تعريفا اجتماعيا على أنّها "جملة أنشطة ناجمة عن المجهودات الجبّارة التي يمكن أن تقوم بها جماعات متطوعة، مُعترف بها قانونيا، تشتغل بالتخطيط المُسبق والرؤية الإستراتيجية، والتي تضمّ في طياتها مختلف الميادين الحياتية".

 



ويخلص علي هنيد إلى أنّ "العمل الجمعياتي يدخل ضمن المؤسسات الاجتماعيـة ويُشكّل دعامة وطيدة لمختلف مكونات المجتمع، عبر التّأسيس لظروف مواتية، تساهم في بناء مجتمع متضامن مندمج ومسئول، يساهم فيه الجميع في التنمية والتغيير. وهذا الأمر يتطلب تمكين الجمعيات من القيام بدورها وتحقيق أهدافها، واكتساب المعرفة وتوظيفها بفاعلية، حيث تشير تجارب الدول المختلفة إلى أهمية الاعتماد على المنظمات التطوعية، كشريك استراتيجي لدعم السياسات الوطنية، ضمانا لتحقيق الاستقرار الاجتماعي وعدالة توزيع الثروة الوطنية".

الأزمات اختبار مهمّ لجدوى "الأنظمة"

يرى سليمان الأمين، باحث سوسيولوجي مختص في شؤون الجمعيّات، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ الأزمات محك لكشف المستور واختبار جدوى "الأنظمة" ومنوال تنميتها وخياراتها الكبرى، جمعيات المجتمع المدني والمنظّمات الخيريّة أشبه بحمم ينفثها المجتمع زفرات على التفاوت والفقر ومخاطر التهميش والفناء، بعيدا عن نعم الدّولة الرّاعية وقدراتها المحدودة في ظلّ المركزة وتحت وطأة الليبراليّة المشطّة.

وأضاف: "إنّ جائحة كورونا بثقلها الصحّي الطّارئ واستتباعاتها الاقتصاديّة والاجتماعية والتعليميّة المصاحبة تمثل تحدّيا قويّا للدّولة ولمختلف شركائها ولقوى المجتمع لتطويق الخطر والحدّ من آثار الوباء".

في نفس الإطار، يشير الأمين إلى أنّ كشف فجائيّة الوباء لحدود الإمكانيات المتاحة، كان دافعا مهمّا لتضافر الجهود وتعبئة الموارد من خارج الميزانيّة والاعتمادات الحكوميّة، وأنّ مع بدء ظهور الضرر المحقق للفئات الهشة والمؤسسات والحرف، انطلق تحتّم انضمام المجتمع المدني وقد تحرّكت الجمعيات بأطيافها لتوعية المواطنين وتوفير السند المطلوب ولقيت بالفعل موجة تجاوب واستعداد كبير للدعم من مختلف الفئات وشوهدت في الميدان جمعيات كبرى ذات تقاليد عريقة وجمعيات محلية متعددة الأغراض والاختصاصات.

 



كما يؤكّد سليمان الأمين على أنّ المتأمّل في أطوار سيرورة الأزمة على الصعيدين المحلّي والدّولي، يلحظ أهميّة حضور الجمعيات ومنظّمات المجتمع المدني في إيصال خدمات القرب والإجابة عن الحاجيات المتأكّدة للأهالي في ظلّ إقرار الحجر الصحّي الشّامل والتّام.

وتابع: "لئن أبانت ردّات الفعل وتمظهرات سلوك الدّول والاتحادات والمجتمعات المدنيّة والقطاعات الخاصّة والمجموعات الطبية والعلميّة والدّينيّة، وتائر متفاوتة في التفاعل والاستجابة، إلاّ أنّها التقت كلّها في الإقرار بإلزاميّة التآزر ومراجعة أشكال التعاطي مع الأزمات وإدارة الأوضاع الهشّة، التي تمثّل هاجسا ثابتا في ظلّ ديمومة الخطر وهشاشة الفئات المجتمعيّة حيال سؤال المخاطر الكبرى والأزمات الوقائيّة والطّبيعيّة القصوى".

عراقة العمل الخيري في تونس

يشير علي هنيد إلى الجذور العميقة للعمل الخيري التطوعي بأسمائه وأشكاله الكثيرة في التقاليد التونسية، بدءا بالجمعيات الخيرية الإسلامية قبل الاستقلال، والتي اصطبغت في مرحلة بناء الدولة الوطنية بالطابع المدني والمؤسساتي وتحوّلت إلى لجان جهويّة للتضامن الاجتماعي، وقال: "إنّ الدّور النّوعي والكمّي لجمعيات المجتمع المدني قد تعزّز بصفة عامة بعد الثورة، لتتجاوب اجتماعيا في أوقات الشدة والكوارث من خلال مجهودات الإغاثة وتخفيف آثار الانعكاسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (مخيم الشوشة ببن قردان، فيضانات نابل والشمال والوسط الغربي...) وآخرها الانخراط الجدّي للجمعيات في المجهود الوطني لمكافحة جائحة كورونا كوفيد 19 من خلال جمع وتوزيع المساعدات الاجتماعية العينية ومواد شبه طبية (تعقيم وكمامات) على الفئات المحتاجة والقيام بحملات تحسيسية وتوعوية ميدانية حول خطورة الفيروس المستجدة وطرق الوقاية منه وإعداد وجبات طعام جاهزة لفائدة المقيمين في الحجر الصحي إلى جانب المساهمة في تنظيم المجتمع المحلي عند توافده على المؤسسات الحيوية (البريد، مقرات السلط المحلية والجهوية...)".

مؤتمر القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في 2001 وتعزيز مساهمة العمل التطوعي

يقول محسن الجندوبي، رئيس جمعيّة "مرحمة"، في تصريح لـ "عربي21"، بأنّ العمل الجمعياتي في تونس، بشقيه التنموي والخيري، عُدَّ بعد الثورة من أبرز الرهانات والآليات ذات الطابع المؤسساتي، التى تمّ التركيز عليها وتفعيلها، مُرجعا ذلك إلى "الوعي الوطني بمكانة العمل الجمعياتي فى المجتمعات الديمقراطية المعاصرة بوصفها رافدا أساسيا في الحياة العامة يضمن مشاركة واسعة لكل أفراد المجتمع على تنوع انتماءاتهم وتوجهاتهم. والذي تبلور في الارتفاع المهم في عدد الجمعيات، سنوات 2011 و2012 و2013، وهو ما بشّر بعودة ديناميكية وحيوية للمجتمع المدني في تونس".

 


 
ويشير الجندوبي إلى "اهتمام معظم الجمعيات الخيريّة بالتوصيات الصادرة عن مؤتمر القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في 2001، والمتمثلة في تعزيز مساهمة العمل التطوعي الخيري في النهوض الاجتماعي وتحسين التكافل الاجتماعي وتوفير خدمات الرعاية والإحاطة الاجتماعية، بما في ذلك تمكين الاقتصاد بالفئات المحرومة والمعرضة للمخاطر والإقصاء الاجتماعي".

وأضاف في ذات الإطار أنّه "وعيا منها بالتغيرات الرئيسية والسريعة في مجالات عديدة من الحياة، بما في ذلك تداعيات العولمة وآثارها السلبية العميقة على شرائح اجتماعية واسعة، ونظرا لتراجع الدور الاجتماعي للدولة إلى حده الأدنى، انطلقت الجمعيات الخيرية كفاعل اجتماعي وتنموي أساسي في معاضدة مجهودات الدولة في المجالات التالية: توفير المساعدات الإغاثية والإنسانية، دعم موارد الرزق والمشاريع الصغرى، المساهمة في تطوير وتحسين التجهيزات الجماعية والبنية التحتية الاجتماعية، تنظيم الحياة الجماعية وتقوية القدرات للفئات المهمّشة... وزادت هذه الأنشطة في إشعاع دور الجمعيات الخيرية التي أصبحت في أغلب الأحيان تعوّض الوظيفة الاجتماعية للدولة".

العمل الخيري.. مقصد إسلاميّ

يقول علي هنيد "إنّ القيم الاجتماعية وخاصة الدينية المتأصلة في المجتمع تلعب دورًا مهمّا في تعميق روح العمل التطوّعي والتضامني، داخل مكوّنات جمعيات وهياكل المجتمع المدني وتشكل الرافعة الأساسية لشبكة الأمان الاجتماعي التي لا بديل عنها للدفاع وحماية حقوق ضعاف الحال".

وقد تمّ التّأكيد على أهميّة القيم الإسلامية في تمتين نوازع التطوّع الخيريّة، التي أتت عليها مداخلة هنيد في كتاب "مقاصد العمل الخيري والأصول الإسلامية للمشاركة الاجتماعيّة"، صدر سنة 2010، لغانم إبراهيم البيّومي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، حيث بيّن البيّومي أنّ مفهوم الخير ينبع من أصول الرّؤية الإسلاميّة للعالم، وأنّ النزعة الخيرية تشكّل ركنا من أركان بناء الوعي الإسلامي للذّات الإنسانيّة، مشددا على أنّ هذه النزعة الخيريّة توفّر أساسا من أسس تكوين الذّات الفرديّة والجماعيّة في الخبرة الحضاريّة الإسلاميّة.

في نفس الباب، يقول البيّومي: "إنّ الخير مقصد عام وثابت للشريعة وله مقاصد أخرى وتتضمّن الأصول الإسلامية (الكتاب والسنّة) نظريّة متكاملة للخير وتطبيقاته وأبعاده النفسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة: الفرديّة والجماعيّة، مضيفا أنّ العمل الخيري يسهم في بناء مجال مشترك بين المجتمع والدّولة".

ارتباط العمل الخيري بمفهوم الحريّة

يرى البيّومي، في ورقة بحثية بعنوان "العمل الخيري: مفهومه وموقعه من مقاصد الشريعة"،  أنّ الفلسفة الإسلامية تنظر إلى العمل الخيري نظرة عميقة، من جهة ربطها لفعل الخير بمفهوم الحرية، مضيفا أنّ العمل الخيري عندما يكون عطاء بلا مقابل مادي يرتقي إلى مرتبة تحرير النفس، إما من قيد الأثرة وحبّ التملّك، أو من قيود الآثام واجتراح الخطايا، أو من قيد الكبر واستعلاء النفس على الآخرين ممن يشاركونها الانتماء إلى أصل واحد "كلكم لآدم وآدم من تراب"(رواه أبو داود).
 
ويقول البيومي "إنّ مرجعية قياس الخير والشر هو ذات الإنسان وتقديره للمنفعة التي تعود عليه في إطار عام من تبادل المنافع والمصالح الفردية، مقدّما بذلك قراءة معاكسة لما ذهب إليه أعلام النزعة الفرديّة والذين كتب فيهم موريس كرانستون، أحد أعلام الفكر السياسي الأنجليزي في القرن العشرين، من أنّه "ليس لفكرة الخير العام أي مكان عند المفكرين السياسيين من أصحاب النـزعة الفردية كهوبز ولوك وبنثام، لأن كل قضية يجب أن تقاس بحاجة الفرد". 

وبالتالي يؤكّد البيومي على تعارض منطق العطاء بلا مقابل مع منطق السوق والكفاءة الاقتصادية في الرؤية الرأسمالية الحديثة عموما، مؤكّدا على أنّ التجربة الإسلامية تؤكد أن المنفعة ليست فقط حصيلة مبادلات مادية بين الأفراد والجماعات، وإنما يمكن أن تكون هذه المنفعة حصيلة فعل خيري بدون مقابل مادي. وهذه الممارسة تتطلب بطبيعة الحال الإيمان العميق بعمل الخير، كما تتطلب إدراك المضمون الواسع لمفهوم العمل الخيري الإسلامي الذي يبدأ بأقل الأشياء “شِقّ تمرة” كما في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري)، ويصل إلى كل ما يملكه الفرد من أموال، منتهيا إلى أنّ “العمل الخيري هو مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة بدلالة تواتر الأمر به والحضّ عليه في آيات الكتاب العزيز، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم". 

كورونا يسرّع التشاركيّة بين الحكومة والجمعيات الخيريّة

 

 
لئن أكّد كلّ من محمد الفاضل الحمدي، رئيس المرصد الدولي للجمعيات والتنمية المستدامة، ومحسن الجندوبي، رئيس جمعيّة "مرحمة" التونسيّة، في تصريحهما لـ "عربي21"، على أنّه بتولّي المهدي جمعة رئاسة الحكومة، في موفّى كانون ثاني (يناير) 2014، تمّ التضييق على نشاط الجمعيات الخيرية، في حركة اعتبرها "مخالفة قانونيّة صريحة لأحكام المرسوم عدد 88 لسنة 2011، المتعلق بتكوين الجمعيات والذي يوجب أحكاما قضائية باتة لحلّ الجمعيات، على وجه الخصوص فيما يتعلّق بالرّبط المتسرّع والظّالم بين الجمعيّات الخيريّة وتلك المشبوهة بالإرهاب"، ممّا أدّى إلى ما أسماه الجندوبي بـ "غياب مسار تشاركي يتيح للجمعيات المساهمة في المخططات التنموية المحلية وإيصال الحاجيات الاجتماعية والصحية لمختلف شرائح المجتمع المحتاجة، أعقبه تراجع كبير للمبادرات الجمعياتية والمدنية وهو ما تسبب في تعطّل الأنشطة الخيرية التضامنية وتنفيذ المشاريع المنتجة ". 

يؤكد العياشي الهمامي، وزير لدى رئيس الحكومة مكلف بحقوق الإنسان والعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، في تصريح لـ "عربي21"، على "عدم دقّة ما يروّج عن وجود لغط فيما يتعلّق بالعمل الخيري وجمعياته الراعية في تونس، في ظلّ الحكومة الحاليّة، التي حظيت بمصادقة البرلمان يوم 27 شباط (فبراير) الفارط".

 



في ذات السياق، يؤكّد الهمّامي على أنّ وزارته تكبر المجهود الجمعوي المبذول في اتّجاه إسناد العمل الحكومي في هذه المحنة الوبائية، وأنّ وزارته تدخّلت في أكثر من جهة لفضّ سوء التفاهم الذي قد يحصل بين الجمعيات المدنيّة الناشطة وبعض ممثلي السّلط المحليّة أو الجهويّة، مشيرا إلى أنّ فجائيّة الظرفية الوبائية الحرجة لا تجعل من التفكير في تقديم مقترحات تشريعيّة أمرا مستعجلا. 

وقال: "نحن في وقت أزمة، نحن ندير أزمة وليس من أولوياتنا فتح محاور خلاف مجتمعيّة جديدة، خاصّة مع ما أثاره موضوع الجمعيات من اختلاف نحن في غنى عنه في هذا الظرف الوبائي الدّقيق. المجتمع المدني، بجميع تلوّناته ومجالات اهتمامه، بصدد العمل والقيام بدوره التاريخي وحتى الجمعيات التي تمّ تشويه نشاطها في فترات معيّنة من التجاذبات السياسية، هي حاليا بصدد القيام بعمل عظيم على مستوى توفير الإعاشة والإعانات الماديّة للفئات المحتاجة مثلما يظهر على صفحاتها الاجتماعيّة".

في ذات الإطار، أشار الهمّامي إلى أنّ الأزمة الحاليّة ساهمت في تمتين وتقارب الجمعيات المشتغلة بيمينها ويسارها وأذابت الجليد الذي كان يسم جانبا كبيرا من علاقة البلديات ببعضها، نتيجة بعض الترسّبات الانتخابيّة العابرة بطبعها، مؤكّدا دعم الوزارة لهذا التقارب البنّاء وسعىها إلى تعميم هذه التشاركيّة النموذجيّة بمختلف مناطق البلاد. وهذه فرصة للتأكيد على أنّ الوزارة تدعم كل المبادرات الخيرية التي تهدف إلى تخفيف وطأة الجائحة الوبائية واستتباعاتها الاجتماعية على الطلبة الأفارقة والعملة العالقين بتونس.

نحو تكامليّة منسابة لدوري الدّولة والمجتمع في مجابهة الأزمات
 
يرى علي هنيد، باحث في علم الاجتماع ومختص في الاقتصاد التضامني، أنّه في ظل تفشّي الأوبئة والأمراض وما تفرضه من متغيّرات متسارعة، فإنّه من الأهميّة بمكان التفكير في إيجاد رؤية إستراتيجية واضحة تستثمر في جمعيّات العمل الخيري والمبادرات التطوعيّة، بعيدا عن جحيم  التضييق الإداري أو التوظيف الحزبي والانتخابي.

من جهته يؤكّد سليمان الأمين، باحث سوسيولوجي مختص في شؤون الجمعيّات، على أنّه من الدّروس الواجب استخلاصها بعد انقشاع غبار أزمة وباء كورونا، هو توجّه الدّولة الوطنيّة للقطع مع عقليّة الشّيطنة وروح الارتياب والحذر المبالغ فيه، تجاه الجمعيّات الخيريّة والاستعاضة عنها بروح التّحالف والرهان على الدّور الفعّال لهذه الجمعيّات والرّهان على دورها الفعّال في التّاطير وقدرتها على الاستجابة الفوريّة للاحتياجات المادّية الملحّة، على وجه الخصوص في مستوى المحليّات، بعيدا عن المواقف العدائيّة المبيّتة والانفعاليّة. وهو ما يشكّل التحدّي الحقيقي لحكومة وليدة، افتتحت عملها بمجابهة محنة وبائيّة غير مسبوقة، في تثمين الأدوار المهمّة لهذا الطّيف الواسع من الجمعيّات، والعمل على تكييف مشروع قانون الجمعيّات، الجاري صياغته، طبقا لمعطيات السياق الجديد، نحو تكامليّة منسابة لدوري الدّولة والمجتمع في مجابهة الأزمات، وفق تعبيره.

التعليقات (0)