كتب

عبد الله حمودي ومحاولة صياغة أنثروبولوجيا عربية

كاتب مغربي يسعى للإسهام في تأسيس علم للأنثروبولوجيا في العالم العربي  (عربي21)
كاتب مغربي يسعى للإسهام في تأسيس علم للأنثروبولوجيا في العالم العربي (عربي21)
الكتاب: المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية
المؤلف: الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي
دار النشر : دار توبقال
الطبعة الأولى، 2019
الدار البيضاء
عدد الصفحات: 156

يكتسي هذا الكتاب أهميته أولا من الخلفية المعرفية لصاحبه، فالأمر يتعلق بالمؤلف عبد الله حمودي، وهو من أبرز علماء الأنثروبولوجيا المغاربة، الذين تركوا بصمات كبيرة في هذا الحقل المعرفي، وترجمت كتبه للغات عديدة، ففضلا عن المكانة التي تبوأها في جامعة برينستون الأمريكية، والتي كان يدرس بها كأستاذ زائر، فقد كانت لأعماله الأنثروبولوجية صدى كبيرا لدى المختصين، حيث استأثر كتابه "موسم الحج إلى مكّة" باهتمام كبير، ونقل إلى لغات عدة، كما حظي من قبل كتابه "الشيخ والمريد" باهتمام بالغ، كونه حاول تفكيك طبيعة النسق السياسي المغربي، كما حظي كتابه "الضحية وأقنعتها" بعناية كبيرة كونه درس طقوس الذبيحة والمسخرة في المغرب. غير أن كتاب "المسافة والتحليل" يختلف اختلافا كثيرا عن الكتب السابقة، كونه اشتغل على قضية صياغة أنثروبولوجيا عربية، مبررا دواعي ذلك ومدى الحاجة إلى توطين هذا العلم في العالم العربي، والشروط التي تجعل هذه الصياغة ممكنة.

من أجل صياغة أنثروبولوجيا عربية

من البدء يقرر عبد الله حمودي أن لفظ "عربية" عنده لا يحيل على أي قومية أو وطنية، وأنه لا يقصد من ورائه أكثر من توطين علم الأنثروبولوجيا في وطن عربي واسع، بحيث تتمكن من أن تسكن أطرافه وتنمو في أحضانه. فهو يقصد من ذلك محاولة توطين الأنثروبولوجيا في العالم العربي. كما يقرر أيضا أن الهدف الرئيس من مشروعه الذي يبسطه هذا الكتاب هو الإنتاج الرفيع لخطاب متميز يتعدى الاقتباس والتبعية. ويشير إلى أنه سبق له في جهوده الأنثروبولوجية السابقة أن قام بوضع أسس هذا التوطين من خلال عملية إعادة صياغة الأنثروبولوجيا ورسم معالم الوساطة بين الخطابات الموروثة عن الأنثروبولوجيا الكلاسيكية والكولونيالية، وبين وضعية وتطلعات الباحثين العرب فيما يخص إعادة تركيب الميدان وتسخير ذلك الرصيد الموروث، بعد التمكن منه، إلى غاية تأزيمه. 

ويعتبر عبد الله حمودي في كتابه أن هذه العملية تختلف عن نقد الأنثروبولوجيا الذي يمارس بقوة في الولايات المتحدة الأمريكية من قبل تيار قوي من الباحثين والمتخصصين، كما تختلف أيضا عن عملية التطوير التي شهدها هذا النقد حتى بلغ أفق طلب التخلي نهائيا عن الأنثروبولوجيا كما ذهب إلى ذلك إدوارد سعيد وأتباعه. 

ومع إقرار عبد الله حمودي بالجهد الضخم الذي قدمه إدوارد سعيد في نقد الاستشراق والخطابات الغربية التي رافقته، إلا أنه يمايز بين ما يصبو إليه وما يطرحه إدوارد سعيد من مقولات، فمشروع حمودي ليس هو التأسيس للتخلي عن الأنثروبولوجيا بدعوى استنادها للخلفيات الكولونيالية، وإنما هو محاولة التأسيس للبديل المعرفي من طرف الباحثين المنتمين إلى المنطقة المغاربية والعربية، وعلى أساس تطلعات شعوبها، والأسئلة العريضة التي يطرحها الناس يوميا على أنفسهم ومجتمعاتهم. 

لا يريد عبد الله حمودي، من هذا النموذج المعرفي أن يكون فعلا اقتباسيا أو إسقاطيا للنماذج الغربية، ولا حتى تبعيا، بقدر ما يريد أنثروبولوجيا عربية، تنطلق من أرضية المجتمعات العربية وتطلعاتها وحاجاتها. ويعترف حمودي أن نقد الخطابات الغربية من زاوية تحيزها وهيمنتها أمر جد حيوي، لكنه لا يحل محل إيجاد بديل بوسيلة إنتاج معرفي لصيق بهموم وانشغالات المنطقة العربية.

تحديات الانتماء وإكراهاته

مع تأكيد عبد الله حمودي على ضرورة انشغال الأنثروبولوجيا العربية بهموم المنطقة، إلا أنه لا ينسى أن هذه المنطقة تتقاذفها أمواج العولمة، وتدفقاتها القوية التي ترد عليها، وتباين انعكاساتها على حياة الناس الملموسة.

ضمن هذا السياق يطرح عبد الله حمودي قضية الانتماء والملابسات التي يطرحها وكذا انعكاساتها على الجانب الموضوعي والعلمي، وينتصر لفكرة اعتماد معادلة المسافة مع الحميمية، ويعترف حمودي أن هذه المعادلة التي جربها في بحوثه الميدانية، هي معادلة مضطربة، لكنها منتجة في الآن ذاته، وأنها تؤسس لوضع منهجي إلى جانب أوضاع أخرى ممكنة يطالب حمودي بالانفتاح عليها ومناقشتها مناقشة بناءة وهادفة. 

ويلفت الانتباه بهذا الخصوص إلى أن ميدان الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية بصفة عامة لا بد وأن تصبح ميدانا تنافسيا بين وضعيات منهجية مختلفة، وأن من شأن ذلك أن يؤسس للتلاقح بين التجارب، وأن ذلك هو الوضع الأفضل، بدل إعادة إنتاج الاقتباس والتبعية، إذ من شأن هذا التنافس أن يؤسس لتراكم معرفي يساهم في بلورة كونية جديدة تتراجع فيها التبعية.

يرى حمودي أن هناك مخرجا يجنب مأزق الانتماء وأثره السلبي على المعرفة الاجتماعية والأنثروبولوجية، وهو الخوض في البحث داخل ثنائية موضوعي/ ذاتي، وقبول صعوبتها ومخاطرها الإيتيكية والسياسية بدلا من الهروب منها إلى "الإنشاء" للتخفيف من حدتها، أو إلى عمليات القراءة اللامتناهية للنصوص.

وحتى يضع محاولته في صياغة أنثروبولوجيا عربية في سياقها التأسيسي يقدم عبد الله حمودي وجهة نظره حول المساهمات السابقة التي حاولت مقاومة التحيز والخروج من التبعية المعرفية، وينتقد مشروع أسلمة علم الاجتماع، متهكما على بعض رموز هذا التيار الذي حاول أن يضع برامج للعلوم الاجتماعية تتماهى مع فصول علوم القرآن والشريعة، كما انتقد محاولات أخرى اتسم أصحابها بعدم الاستيعاب الدقيق للنظرية الأنثروبولوجية، كما انتقد محاولات التلفيق التي تورط فيها عدد معتبر من الباحثين، منتقدا عليهم ضعف إحاطتهم بالميدان، ويعتبر أن هذه المحاولات لا تقدم أي أرضية لبناء وصياغة أنثروبولوجيا عربية، وأن مثل هذه المهمة لا تكفي فيها الحماسة والشعارات، وإنما تتطلب الانطلاق من أرضية منهج معقول وبرنامج قابل للتطبيق، على أساس أن يشترك في تكوين رصيده علماء يدونون ذلك الرصيد باللغة العربية، وينشرون بالموازاة مع ذلك بلغة أجنبية عالمية، هي الإنجليزية في الفترة التاريخية الراهنة. 

ويعتبر حمودي أن التجوال بين اللغات والذهاب والإياب بها، يساعد على إدراك معاني اعتماد هذه اللغة أو تلك حين تتناول هذا الموضوع أو ذاك.

كما يرى أن البديل الذي يقترحه لا يكتفي بإعادة إنتاج ما قدمه النقد ما بعد الكولونيالي الذي تعرض بالنقد لصور الآخر التحقيرية ولإرادة الهيمنة التي تتضمنها خطابات غربية عديدة، وإنما يحاول إنتاج خطابات ومعارف بديلة، تسلط الأضواء على واقع المجتمعات العربية وتأخذ بزمام المبادرة بالمشاركة مع المعنيين بالأمر، وبالدرجة الأولى في استشراف مستقبلها. 

يضم الكتاب أربع مساهمات معرفية تم نشرها في سياقات مختلفة، وضمن تراكم معرفي مطرد عايشه عبد الله حمودي: مساهمة توقف فيها على شروط إعادة صياغة الأنثروبولوجيا، ومساهمة أخرى تعرض فيها للداخلي والخارجي في التنظير للظاهرة القبلية، والتي تناول فيها حالات من المغرب والمشرق، مساهمة ثالثة، ناقش فيها العلوم الاجتماعية بين الاتباس والتوطين وركز فيها بشكل كبير على الأنثروبولوجيا، ومساهمة أخيرة، خصصها لجهود كليفورد غيرتز في الأنثروبولوجيا والمسافة الضرورية لعلم الاجتماع.

ومع أن هذه المساهمات كتبت في سياقات مختلفة، إلا أنها جاءت عقب اشتغال بحثي للدكتور عبد الله حمودي، وجاءت بمثابة التتويج النظري لجهوده السابقة لاسيما في كتبه البحثية الثلاثة السابقة، "موسم الحج إلى مكة"، و"الضحية وأقنتعتها"، و"الشيخ والمريد". 
التعليقات (0)