أثار إعلان رئيس
الوزراء
المصري مصطفى مدبولي، عن طرح عالمي أمام المستثمرين المصريين والأجانب
للمنطقة المحيطة بأهرامات الجيزة والمتحف المصري الكبير، وحتى مطار سفنكس شمالا،
ومنطقة دهشور الأثرية جنوبا، المخاوف على المساحة الشاسعة من أراضي مدينة
"
منف" الأثرية وما تحويه من 38 هرم و9 آلاف أثر ظاهر وآلاف أخرى غير
مكتشفة تعود جميعها للتاريخ المصري القديم.
وقال مدبولي إن
منطقة الأهرامات، والمتحف المصري الكبير والمناطق الأثرية المجاورة والمحيطة بها،
والمسجلة باليونسكو يستوجب وضعها على أجندة الاهتمام ورفع كفاءة مستوى الخدمات
المقدمة لزائريها من الأجانب والمصريين، وذلك بما يتناسب مع مكانتها وقيمتها
الأثرية والتاريخية.
ويعيد هذا الطرح
تفجير المخاوف من قبل أثريين وسياسيين حول منطقة الأهرامات الأثرية وصولا حتى
المنطقة الأثرية في دهشور، ومن حضور المستثمرين الأجانب إليها، خاصة مع ما شهدته
مصر بالسنوات الماضية من عمليات تهريب للآثار المصرية والتي كشفت عنها العديد من
القضايا وأفصحت عن تورط دبلوماسيين أجانب وسياسيين مصريين ونواب بالبرلمان ورجال
أعمال بها وشخصيات عامة.
ومدينة منف
الأثرية عاصمة مصر القديمة التي يُعتقد أنها تأسست على يد الملك مينا، موحد مصر
القديمة عام 3100 قبل الميلاد، كانت عاصمة البلاد بين فترة (3100 - 2686 ق م)،
وتمثل حاليا قرية "ميت رهينة"، بمحافظة الجيزة غرب القاهرة.
خبراء تحدثوا
إلى "عربي 21"، حول خطورة المشروع نظرا لأهمية المنطقة وما فوقها وتحتها
من آثار، مؤكدين أنه قرار يغلب عليه الغموض وغياب للشفافية، ويمهد للعبث بالإرث
الحضاري، ويثير مخاوف مشروعة من استباحة الآثار والتفريط في مقدرات المصريين،
متسائلين عن الهدف الحقيقي من إقحام شركات أجنبية في منطقة كهذه، فيما طالب البعض
بوضع معايير وحدود معينة وأخذ رؤية الأثرين والمتخصصين.
"بشروط معلنة ومعروفة"
وفي تعليقه، قال
الأثري المصري الدكتور حسين دقيل: "بشكل عام لو أن الاستثمار يفيد مصر فيكون
أمرا جيدا، وإن كنا نتمنى أن يكون المستثمرين من مصر، لكن لو كانوا أجانب فلابد أن
يتم الأمر بشروط معلنة ومعروفة، وبدور لخبراء الآثار في أي اتفاق".
الأكاديمي
المصري أكد في حديثه لـ"عربي21"، على الأهمية الأثرية والتاريخية
الكبيرة لمنطقة الأهرامات، مبينا أنها "واحدة من ضمن 7 مواقع أثرية مصرية
مسجلة ضمن مواقع التراث العالمي، تحت اسم موقع آثار مدينة منف أو مصر القديمة
والمسجلة في منظمة اليونيسكو عام 1979".
وأشار إلى
"اتساع حجم تلك المنطقة الممتدة من هضبة أهرامات الجيزة وحتى منطقة
دهشور"، موضحا أنه "منطقة متسعة جدا"، ملمحا إلى أن "هذه هي
مشكلة تسجيل المناطق المصرية في التراث العالمي بأن المناطق بها سجلت داخل موقع
واحد، فمثلا القاهرة القديمة أو مصر القديمة سجلت كموقع أثري واحد يشمل القاهرة
التاريخية كاملة بما تضمه من آثار مصرية قديمة وإسلامية".
ووفق دقيل
"المنطقة تشمل أهرامات الجيزة، ودهشور، وسقارة، وميت رهينة، وأبوصير،
والجيزة، وأبو رواش، وزاوية العريان، كمنطقة أثرية مسجلة كقطعة واحدة على اتساعها".
وتابع الأثري
المصري شرح الأهمية الأثرية والسياحية لتلك المنطقة، مؤكدا أن "منطقة
الأهرامات وما حولها منطقة اكتشافات أثرية لا تنضب، وبها 38 هرما المعروفين في
الجيزة وفي سقارة وأبوصير ودهشور، بجانب 9 آلاف أثر تشمل آثار ظاهرة أو مقابر تحت
الأرض تعود لأصول مختلفة من الفرعوني إلى البطلمي أو الروماني بالمنطقة الممتدة من
الأهرامات إلى دهشور".
ولفت إلى أنه
"بالفترة الماضية جرى بعض التطوير لمناطق أثرية، أراه معقولا، حيث تم عمل
مماشي للسائحين وحمامات وأماكن ترفيهية بعض الشيء؛ لكن يجب أن تكون مثل هذه الأمور
مدروسة بشكل جيد حتى لا تؤثر على الآثار".
وأكد أن
"الاستثمار في هذه المناطق عندما يتم طرحه لابد أن يكون هناك دور للخبراء من
الأثريين حتى يتم وضع رؤيتهم وحتى لا يكون الاتفاق بين مستثمر مع الدولة فقط،
فيكون للمتخصصين دور على طاولة مفاوضات الاستثمار، حول كيفية العمل، وطرق التطوير،
وحتى لانفاجأ لاحقا بتملك المستثمرين لتلك المناطق أو مطالبتهم بذلك".
وشدد على أن
"كل عمل يتم بهذه المنطقة يجب أن يكون بحذر، لأنه بها 9 آلاف أثر ظاهر، فما
بلك بما تحت الأرض من آثار غير مكتشفة، بالتأكيد بها عشرات آف لم تكتشف بعد
بالمنطقة المهمة جدا، والتي إن لم يكن الاستثمار يسيء لها أو يضر بها فلا مانع مع
وضع معايير وحدود معينة"، ملمحا لوجود "لجان متخصصة بوزارة الآثار
وإدارات بهذا الشأن يمكن الاستفادة منها في وضع الشروط والتفاهمات حول الاستثمار
بالمنطقة".
"عبث بالإرث الحضاري"
وفي رؤيته قال
الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الدكتور ممدوح المنير،
لـ"عربي21"، إن "طرح منطقة الأهرامات للاستثمار العالمي هو فصل
جديد من مسلسل العبث بالإرث الحضاري لمصر في عهد النظام العسكري بقيادة السيسي".
وأكد أن
"الأهرامات، التي تعد من عجائب الدنيا السبع، أحد رموز الهوية المصرية وذاكرة
حضارية ممتدة لآلاف السنين، وتحويل المنطقة التاريخية لمشروع استثماري مفتوح
للمستثمرين الأجانب، في ظل سجل النظام الحافل بالإهمال والفساد، يثير مخاوف مشروعة
من استباحة الآثار وتفريط آخر في مقدرات الشعب المصري".
ويعتقد المنير،
أن "هذا ما يثير المخاوف من أن هذه المشروع قد يكون له آثار مستقبلية مدمرة
على المنطقة حضاريا وحتى كأمن قومي لعدة أسباب.
وذكر أنه
"في عهد السيسي، شهدت مصر واحدة من أسوأ فترات النهب المنظم للآثار، وفقا
لتقارير دولية ومحلية، إذ تصاعدت عمليات تهريب الآثار بشكل غير مسبوق، فقد تم
الكشف عن تورط مسؤولين كبار في عمليات بيع وتهريب آلاف القطع الأثرية إلى إيطاليا
عام 2020، والتي تضمنت قطعا من حقب تاريخية مختلفة، وهذه قضية واحدة تم الكشف عنها
فما بالكم بما لم يكشف؟".
ويرى أنه
"في ظل هذه الأجواء، كيف يمكن أن نثق في إدارة النظام الحالي لمنطقة تاريخية
بحجم الأهرامات أو منطقة دهشور؟، وكيف نضمن ألا تتحول هذه المناطق إلى بوابة جديدة
لتهريب الكنوز المصرية؟".
ومضى يوضح أنه
"إذا كان النظام قد عجز عن حماية آثار مصر التي خرجت من البلاد بطرق غير
مشروعة، فما الضامن ألا تتكرر هذه المأساة في إطار مشاريع استثمارية مشبوهة؟".
"ليست مخاوف عبثية"
وتابع:
"أيضا لا يمكن التغافل عن احتمالية منح هذه المناطق الاستثمارية لشركات
أجنبية ذات صلات بالكيان الصهيوني، وهو ما يفتح الباب أمام محاولات الصهاينة
لتزوير التاريخ وإثبات مزاعم واهية حول دور اليهود في بناء الأهرامات".
وأكد الباحث المصري،
أن "هذه ليست مخاوف عبثية؛ فالكيان الصهيوني استغل في السابق ضعف بعض الأنظمة
العربية لاختراق مجالات الثقافة والسياحة، ومنح شركاته موطئ قدم في مشاريع
استثمارية كبرى".
ولذا خلص المنير
للقول إن "السماح بحدوث ذلك في منطقة بحجم الأهرامات سيكون بمثابة طعنة في
قلب التاريخ المصري، خصوصا أنهم يدعون أن لهم علاقة مكذوبة ببناء الأهرامات".
وأضاف:
"تحت مظلة شركة أجنبية قد يتم التلاعب بآثار المنطقة لصالح الترويج لروايتهم،
وما يفعلونه تحت المسجد الأقصى لإثبات فرضية مضللة حول وجود هيكلهم المزعوم أسفله
لا تخف على أحد".
"الإرث مقابل المال: معادلة خاسرة"
وقال إن
"الترويج لمشاريع استثمارية في الأهرامات بدعوى تنشيط السياحة ورفع الدخل
القومي هو محاولة للتغطية على فشل اقتصادي ذريع"، مضيفا: "صحيح أن قطاع
السياحة يعاني، لكنه ليس بسبب ضعف الخدمات بل بسبب سياسات النظام القمعية التي
جعلت مصر وجهة غير آمنة".
وأوضح أنه
"في عام 2023، بلغت إيرادات السياحة نحو 13 مليار دولار، وهو رقم متواضع
مقارنة بما يمكن تحقيقه إذا تمت إدارة هذا القطاع بشكل مهني وشفاف".
وتابع تساؤلاته:
"هل مصر التي تبني عاصمة إدارية حديثة ولديها ساحل شمالي ومناطق سياحية
متميزة كشرم الشيخ ودهب ونويبع وأماكن أخرى؛ عاجزة عن تطوير هذه المناطق بعيدا عن
الشركات الأجنبية؟".
وأكد أن
"هذا تساؤل منطقي وموضوعي ويطرح علامة استفهام كبيرة عن الهدف الحقيقي من
إقحام شركات أجنبية في مشروع حيوي كهذا، في حين لدينا خبرات هائلة في ذات المجال
إن حسنت النوايا".
وأضاف: "قد
يكون مثيرا للسخرية والغضب أن نتذكر أن ما يريدون فعله في الأهرامات هو ما كانوا
يتهمون به الرئيس الشهيد محمد مرسي، لتأليب الناس عليه، وها هم يفعلونه دون حمرة
خجل أو لمحة من حياء".
وختم بالقول:
"تاريخنا وحضارتنا ليستا للبيع؛ وهذه المعالم التي قاومت الزمن والغزاة، لا
يجب أن تتحول إلى سلعة تُعرض في المزادات العالمية، وإذا فقد الشعب إرثه الحضاري،
فإنه يفقد جزءا من روحه وهويته".
وأكد على أن
"الشعب المصري الذي شيد هذه الحضارة العظيمة يستحق أن تكون هذه الآثار تحت
إدارته وحمايته، لا أن تُباع في صفقات مشبوهة تغذي الفساد وتعمق الفقر، وعليه أن
يعي أن مقاومة هذه السياسات ليست فقط دفاعا عن التاريخ، بل عن كرامته وحقه في
مستقبل يحترم ماضيه".
"غموض وغياب للشفافية"
وفي رؤية
اقتصادية، قال الباحث المصري في الملف الاقتصادي حسن بربري، إن "مسألة تطوير
هذه المنطقة مشروع قديم منذ العام 2009، في عهد الرئيس حسني مبارك، وكان التطوير
قائما على فكرة الاستثمار في المناطق الأثرية من زاوية سياحية وزيادة الدخل السياحي".
القيادي في حزب
"التحالف الشعبي"،أضاف في حديثه لـ"عربي21"، أنه "بعد
ثورة يناير 2011، توقف المشروع، وتم إحياء فكرته عام 2015، وكانت هناك خطة موضوعة
للتطوير بالشكل الذي نراه لكن تطورت خلال السنوات الماضية".
ويرى أن
"التطوير في حد ذاته مفيد جدا اقتصاديا، لكن القضية في غياب شفافية
المعلومات، ليس فقط في ملف تطوير المنطقة الأثرية ولكن على كافة المشروعات
والصفقات والاستحواذات والطروحات الجارية طبقا لوثيقة ملكية الدولة أو غيرها، حيث
تغيب الشفافية والمعلومات".
وأكد أنه
"وفي طرح عالمي في هذه المنطقة الأثرية بالذات مفروض أن يكون هناك إعلان عن
تكلفة التطوير والعائد منه، وتقدم إعلانا واضحا ووصف تفصيلي عن المشروع وتفاصيله
وطرق تحصيله والاستثمارات فيه والعائد المتوقع، لكي تقطع الشكوك تنهي أي تخوفات".
واستدرك:
"لكن في ظل الوضع الذي نتحدث فيه منذ سنوات عن غياب الشفافية وصعوبة انتقال
المعلومات فالحكومة تتعامل مع المشروعات والصفقات كأنها أسرار عسكرية لنفاجأ لاحقا
بالتزامات على الدولة أو أن المشروعات لم تف بالغرض منها".
ويعتقد بربري،
أن "الخوف من وجود مستثمرين تابعين للكيان الصهيوني في منطقة الأهرامات
الأثرية فكرة منطقية، خاصة في ظل وجود اتفاق سلام وصفقات وتعامل الدولة بشكل عادي".
وتساءل:
"هل سيتم التعامل مع تلك المنطقة الهامة جدا بمنحها كحق انتفاع أو عبر بيع
مناطق محددة حول حرم المناطق الأثرية؟، وهل هناك شروط موضوعة أو امتيازات
ممنوحة؟"، مؤكدا أن "كل هذه الأمور لابد من توضيحها، وتوضيح المخطط
المحتمل للمنطقة نفسها، وهل ستشمل مناطق خدمية ومطاعم وفنادق مثلا؟".
وألمح إلى أن
"الجانب الخدمي هام؛ ويقلل حجم المعاناة والمعوقات التي يتعرض لها السائح من
القائمين على الخدمة من مواطنين أو مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر حول المنطقة
الأثرية".
وخلص للقول:
"في العموم هذا الطرح العالمي يأتي في إطار حاجة الدولة للأموال لحل أزماتها
المالية وضمن تفكيرها في وسائل لدعم موازنتها العامة وللوفاء بالتزاماتها الخارجية".
وأشار إلى وجود
"تجربتين في السنوات الماضية لشركة (أوراسكوم بيراميدز) المملوكة لعائلة ساويرس،
والتي أخذت أماكن في محيط منطقة الأهرامات بشراكة مع الحكومة لعمل خدمات معينة
بالمنطقة الأثرية من مطاعم وخدمات للسياح، تم الإعلان عن تقاسم الإيرادات بين
الحكومة والشركة، لكن هذا الطرح العالمي يظل غامضا وليس لدينا معلومات".
"تهريب الآثار"
وتظل مخاوف
المصريين من تهريب آثارهم منطقية في ظل ما يجري إعلانه رسميا حول عدد القطع
المهربة والتي قدرتها وزارة الآثار في كانون الثاني/ يناير 2019، 32 ألفا و638
قطعة أثرية مختفية من مخازن الوزارة على مدار 5 عقود.
وعلى سبيل
المثال لا الحصر، وفي عام 2014، تم إحباط تهريب 98 قطعة أثرية ضمن حاويتين من
الأثاث إلى أمريكا عبر ميناء دمياط البحري، ليجري في ذات العام محاكمة مسؤولين
بمتحف الفن الإسلامي، لاتهامهم بسرقة 7 قطع أثرية نادرة من المتحف.
وفي آذار/ مارس
2018، ضبطت الجمارك الكويتية غطاء تابوت داخل كنبة واردة من مصر عن طريق الشحن
الجوي، ليتم الكشف في العام نفسه، عن سرقة قطعة أثرية تزن 22 جراما من الذهب
الخالص من المتحف المصري.
وعام 2019،
تفجرت قضية "تهريب الآثار الكبرى"، داخل "حاوية دبلوماسية"،
بعد ضبطها في ميناء ساليرنو في إيطاليا قادمة من ميناء الإسكندرية، والتي تورط
فيها قنصل فخري لروما في مصر، ورؤوف غالي شقيق وزير المالية المصري الأسبق يوسف
غالي.
وفي أيلول/
سبتمبر 2020، جرى الكشف عن اختفاء 73 نجفة أثرية من مسجد الحسين بالقاهرة.
وفي أيار/ مايو
2020، تم القبض على عالم الآثار الفرنسي جان لوك مارتينيز، مدير متحف اللوفر
السابق، بتهم إخفاء أصول قطع أثرية مصرية سُرقت من القاهرة، ثم بيعت لمتحف اللوفر
أبو ظبي في الإمارات.
وفي نيسان/
أبريل 2022، عاقبت "جنايات القاهرة"، البرلماني السابق علاء حسانين و5
آخرين بالسجن المشدد 10 سنوات، ورجل الأعمال حسن راتب بالسجن 5 سنوات بقضية الآثار
الكبرى.