أضحى موضوع الإسلاموفوبيا، اليوم، مادة دسمة يخوض فيها الجميع؛ ساسة وإعلاميون ومثقفون وكتاب وباحثون في علم الاجتماع وعلم النفس والقانون والتاريخ والحضارة والأديان، فضلا عن مدوني الشبكة الاجتماعية التواصلية ومرتاديها.
وقد تحولت في
السنوات الأخيرة إلى أداة سياسية لصناعة
الرأي العام وتوظيفه في الحياة السياسية، من قبل بعض الأحزاب والمنظمات في معظم المجتمعات
الغربية. والملفت اليوم، هو تصاعد
هذه الظاهرة وتوسعها وتكثف ممارساتها وتجلياتها، تزامنا مع صعود الحركات السياسية
اليمينية في أوروبا وأمريكا الشمالية، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الأخيرة، بالإضافة إلى تنامي الوجود الإسلامي في البلدان الغربية، وبروزه كأحد المكونات
الجديدة التي تؤدي دورا مؤثرا في المعادلة السياسية في تلك المجتمعات. كما ساهمت
الأحداث الجارية في الشرق الأوسط، وتحديدا في غزة طيلة العام الجاري، وما حظيت به من
تضامن إنساني عالمي في مناهضة صارخة لموقف الحكومات الغربية، في تفاقم الظاهرة
واحتدام الجدل والنزاع حولها.
فهل الإسلاموفوبيا ظاهرة عرضية أم خطة استراتيجية وأداة جيو سياسية
لإدارة الصراع التاريخي المزمن بين الإسلام والغرب؟ أي هل هي نتيجة طبيعية للأحداث
السياسية والاجتماعية والثقافية ذات العلاقة بالإسلام والتفاعلات التي تنجم عن كل
ذلك؟ أم هي مزيج بين الظاهرة العرضية والخطة الاستراتيجية، بناء على السياق
والظروف المحيطة بها؟
السياق التاريخي للمفهوم
لئن كان مصطلح "الإسلاموفوبيا" بالمعنى المتداول في العالم
الغربي اليوم يعدّ مصطلحا حديثا يعود أساسا إلى بداية القرن الجديد الواحد والعشرين، إثر انهيار المنظومة
الاشتراكية (الخطر الأحمر) والغريم السابق لليبرالية الغربية، وتزامنا مع هجمات
الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، حيث تم ترشيح الإسلام وكل ما يمت إليه بصلة من
مجموعات وأفكار وثقافة وعقيدة، إلى اعتباره
العدو الأول والجديد (الخطر الأخضر) للمنظومة والثقافة الغربية، إلا أن الإسلاموفوبيا (Islamophobia) كمفهوم بالمضمون الفكري الذي يختزنه، يعود إلى بدايات القرن العشرين، حيث تم استخدامه من قبل مؤرخي الحقبة الاستعمارية، ليعبر عن كل سلوك أو تصرف يعكس حالة من الكراهية للإسلام، أو "رُهاب
الإسلام" أو الخوف المرضي من الإسلام. وقد تناول هذا الجانب الفيلسوف المغربي
طه عبد الرحمن في مؤلفه "الإسلاموفوبيا: لماذا يخافون الإسلام؟"، متوخيا
منهج التحليل الفلسفي والثقافي لظاهرة الإسلاموفوبيا في السياق الغربي. ومركزا على
كيفيات تشويه صورة الإسلام في الغرب وتأثيراتها على المسلمين.
هل الإسلاموفوبيا ظاهرة عرضية أم خطة استراتيجية وأداة جيو سياسية لإدارة الصراع التاريخي المزمن بين الإسلام والغرب؟ أي هل هي نتيجة طبيعية للأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية ذات العلاقة بالإسلام والتفاعلات التي تنجم عن كل ذلك؟ أم هي مزيج بين الظاهرة العرضية والخطة الاستراتيجية، بناء على السياق والظروف المحيطة بها؟
كما أن هناك من المؤرخين من يعيد المفهوم إلى أبعد من كل ذلك،
ليستدعي التاريخ الطويل من
العلاقات المتوترة بين المسيحية والإسلام منذ العصور
الوسطى، ونشوب الحروب الصليبية الأولى التي غذّاها الخطاب البابوي المشحون بالعداء
اللاهوتي القديم للدين والعقيدة الإسلامية، في إطار الصراع التاريخي بين الحضارتين
الإسلامية والغربية. بل هناك من يعدّ أن الجذور التاريخية للمفهوم تمتد إلى ما
قبل الإسلام، حيث كان العداء الغربي للشرق والثقافة الشرقية حتى المسيحية منها، وسعي
الغرب لاحتواء الشرق والهيمنة عليه، ونهب ثرواته وتحويله إلى تابع للمركزية
الغربية، كما أشار إلى ذلك الدكتور محمد عمارة في كتابه "ظاهرة
الإسلاموفوبيا: الجذور التاريخية والنهايات المنتظرة".
ويمكن إجمالا رصد ثلاث محطات تاريخية مرت بها هذه الظاهرة، التي تقوم
على العداء والكراهية والتحيز ضد الإسلام والمسلمين بشكل عام، وهو ما يتجلى أكثر
اليوم في التهميش الدولي لبلدان العالم الإسلامي ومنع نهضتهم، وفي المعاناة
المتفاقمة التي يعيشها الوجود الإسلامي في الغرب.
ـ المحطة التاريخية الأولى تعود إلى الفترة الممتدة من بداية العصور
الوسطى (ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر)، إلى حدود ما يعرف بعصر النهضة
الذي ساد في أوروبا (من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر): شهد الشق الأول
من هذه الفترة اندلاع الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامي (1095 ـ 1291)، التي
مثّلت ما يمكن عدّه الوجه المادي العسكري للإسلاموفوبيا، وهو ما يعكس أشدّ درجات
العداوة للإسلام، باعتباره الدين الزاحف من الشرق أمام تراجع الكنيسة وهزيمتها في
العديد من مراكزها التاريخية.
أما الشق الثاني؛ أي عصر النهضة، يمكن اعتباره الوجه الفكري الثقافي
للإسلاموفوبيا من خلال الحملات والكتابات الاستشراقية المكثفة، التي ليست في حقيقة
الأمر سوى استمرار للحملات الصليبية الأولى، وزادت من تأجيج الكراهية والعداء
الغربي المسيحي للإسلام والمسلمين، بالرغم من الاهتمام الملحوظ والدقيق لبعض
الكتابات، التي تعمقت في دراسة الإسلام وما يزخر به من ثروة فكرية وفقهية آنذاك
استفاد منها الفكر الغربي لاحقا. إلا أن الكثير من الكتابات الأوروبية ظلت معادية
ومليئة بالأحكام المسبقة، حيث كان يُنظر إلى الإسلام على أنه تهديد للغرب ونسف
للديانة المسيحية.
ـ المحطة الثانية تشمل مرحلة الاستعمار
الأوروبي لمعظم دول العالم الإسلامي ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث
زادت ظاهرة الإسلاموفوبيا بسبب التوسع الأوروبي في البلدان الإسلامية. واتسمت هذه
المرحلة ببسط الهيمنة والنفوذ للقوى الاستعمارية على الصعيدين السياسي والثقافي،
وتم تشويه الإسلام وتصويره كدين رجعي مناهض للتقدم ومعيق للتنوير، وهو ما يبرر
الفكرة الاستعمارية ذاتها. كما تم استغلال التصورات السلبية عن المسلمين لتعزيز
أهداف الاستعمار، حيث تم تصويرهم بأنهم "غير قادرين" على حكم أنفسهم،
مما يتطلب تدخل القوى الغربية.
ـ المحطة الثالثة وتمتد من تاريخ ما بعد
الاستعمار المباشر إلى يومنا هذا: وقد شهدت هذه الفترة مباشرة مع انتهاء الاستعمار
موجات متتالية من هجرة المسلمين إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، مما عزّز الوجود
الإسلامي في الغرب وفرض الاحتكاك المباشر معه معادلة جديدة تحتاج إلى تكيف مع
الواقع، حيث انتقل
المسلمون المقيمون في تلك البلدان من صفة مهاجرين إلى صفة
مواطنين، وإن كانوا لا يزالون مواطنين من درجة ثانية من حيث التمتع بحقوقهم
الاقتصادية والسياسية في أغلب الدول الغربية. وفي العقود الأخيرة، زاد انتشار
الإسلاموفوبيا خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة. التي ساهمت في
تكريس الصور النمطية السلبية تجاه المسلمين، وربط الإسلام بالإرهاب في معظم وسائل
الإعلام الغربية، كما تزايدت كذلك الإسلاموفوبيا بسبب الأحداث السياسية في العالم
الإسلامي، مثل الحروب في الشرق الأوسط وتصاعد التيارات المتطرفة، مما جعل الإسلام
والمسلمين في مرمى العداء في بعض الدول الغربية. في هذا السياق، يرصد سعيد شحاتة في
كتابه "الإسلاموفوبيا والعولمة" انتشار الإسلاموفوبيا في إطار العولمة
وتأثير العلاقات الدولية على تصاعد هذه الظاهرة، وانعكاساتها على الوجود الإسلامي
في الغرب.
التجليات أو الأحداث البارزة
يمكن القول؛ إن ازدهار ظاهرة الإسلاموفوبيا المعاصرة انطلق مع أحداث
11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، التي شكلت صدمة كبرى للعالم بأسره، وتم توظيفها
إعلاميا على أكبر نطاق، وتوجيه سهام الاتهام ليس إلى من قام بتنفيذها ـ وهو أمر لم
يعد اليوم لغزا ولا طلسما ـ، وإنما إلى
الإسلام برمته وإلى المسلمين أجمعين. وشكلت من ثم شحنة جديدة لتغذية
الإسلاموفوبيا وتأجيج منسوب الحقد والكراهية، ووصمه بكل النعوت الوحشية والبربرية
وما إلى ذلك. ولم تفوت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الفرصة الذهبية لإعلان
الحرب على الإسلام، وتنفيذ هجمات لا تقل بشاعة عما جرى في تلك الاحداث وأبيد
الملايين من شعوب المنطقة، سواء كان في أفغانستان أو العراق، تحت عنوان مقاومة
الإرهاب وملاحقة جماعاته، التي بينت الأحداث اللاحقة تورط الاستخبارات الدولية
والأمريكية تحديدا اختراقها لتلك الجماعات، بل وضلوعها في تكوينها منذ البداية
وتوجيهها، ضمن أجندة لا يمكن إلا أن تندرج في خانة تغذية الإسلاموفوبيا وملاحقة
الإسلام.
في هذا السياق، تتالت الاحداث التي تستهدف الوجود الإسلامي في الغرب
والتضييق عليه ومحاصرة رموزه؛ مثل سن قانون حظر الرموز الدينية في فرنسا عام 2004، الذي
شمل الحجاب الإسلامي ودشّنت مرحلة جديدة من الأحداث الإرهابية، على غرار الهجمات
على النساء المحجبات في فرنسا عام 2013، والهجوم ضد الصحيفة الساخرة من نبي الإسلام
عليه الصلاة و السلام "شارلي إيبدو" في باريس عام 2015، وأحداث القتل في كيبك بكندا عام 2017، وحرق
المركز الإسلامي في تكساس بأمريكا، وهجوم لندن في العام نفسه، وأحداث المسجدين في نيوزلندا
2019، وأحداث ألمانيا عام 2020، والنرويج عام 2022 وغيرها.
وقد أدى الإعلام إلى جانب التحريض دورا مهمّا في تضخيم الأحداث التي
تساعد على تغذية ظاهرة الإسلاموفوبيا، وإلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين بشكل متكرر
كمصدر للتهديد. ويعدّ الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد من الأوائل الذين درسوا هذا
الدور في كتابه "تغطية الإسلام" ( Covering Islam )، حيث قدم تحليلا عميقا لكيفية تغطية
الإعلام الغربي للإسلام، وهو جهد ضروري ومهم لفهم جذور الإسلاموفوبيا في الخطاب
الغربي. كما ساهم صعود الحركات السياسية اليمينية في أوروبا وأمريكا الشمالية،
خاصة بعد الأزمات الاقتصادية، في زيادة الإسلاموفوبيا، حيث أصبحت الهجرة
والمجتمعات الإسلامية هدفا للخطاب السياسي الشعبوي لتلك التيارات.
العرضي والاستراتيجي من الظاهرة
يلحظ الراصد لتطور ظاهرة الإسلاموفوبيا المعاصرة، جمعها بين الطابع
العرضي الذي قد يبدو أحيانا والخط الاستراتيجي على المدى الطويل الذي لا تخطئه
العين البصيرة، الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى ترسيخ كراهية الإسلام في عقول
الناس، وعدم تفويت أي فرصة تتاح أو أي حادث عرضي لتجذير ذلك، وإعادة تدويره بهدف
صناعة رأي عام متحيز ضد الإسلام والمسلمين، ومتوتر إزاء الحظوة المتزايدة التي
يلقاها لدى الجمهور الغربي، ولا سيما الشبابي منه وتنامي الإقبال عليه كدين جاذب
للأفكار والارواح، أمام التراجع الملحوظ للفكر الكنسي وانغلاق الفكر التلمودي.
إن ازدهار ظاهرة الإسلاموفوبيا المعاصرة، انطلق مع أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، التي شكلت صدمة كبرى للعالم بأسره، وتم توظيفها إعلاميا على أكبر نطاق، وتوجيه سهام الاتهام ليس إلى من قام بتنفيذها ـ وهو أمر لم يعد اليوم لغزا ولا طلسما ـ، وإنما إلى الإسلام برمته وإلى المسلمين أجمعين.
قد تبدو أحداث العنف المنسوبة حقا أو باطلا لبعض المسلمين، سببا عارضا
لتزايد الإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية، وهي أحداث موسمية طارئة، تبدو وكأنها
نتيجة طبيعية للأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، كتلك التي نجمت إثر صدور
كتاب "الآيات الشيطانية" عام 1988، الذي تطاول فيه كاتبه البريطاني من
أصل هندي سلمان رشدي على نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، أو الرسوم
الكاريكاتورية المسيئة للرسول في الدانمارك عام 2005 أو في فرنسا عام 2015. قد
تكون كل تلك الأحداث وغيرها، ظاهرة عرضية نتجت كردود أفعال عن سلسة الاستفزازات والإساءات
المتكررة عمدا ضد الإسلام ورموزه، ولكن ذلك لا يمكن أن يحجب الخيط الناظم للملاحقة
الإعلامية والفكرية والثقافية التي تنتهجها القوى اليمينية المتطرفة، الرافضة
للوجود الإسلامي، والمتحفزة ضد مقبولية الإسلام في النخب والأوساط الاجتماعية
الغربية. فالإسلاموفوبيا بهذه الصورة، ليست رُهاب الإسلام أو الخوف من الإسلام كما
يروج البعض من المحللين للظاهرة، وإنما هو التخويف من الإسلام وزرع بذور الكراهية
ضده، ضمن خطة استراتيجية محكمة لم تنقطع حلقاتها منذ عهد الاستشراق الأول، وما
أورثته الحروب الصليبية في العصور الوسطى من حقد دفين. فلم تعد هذه الخطة مخفية أو
تدار حلقاتها في الظلام، ولكنها أضحت مكشوفة للعيان وأمام مرأى الجميع. ويكفي
التوقف عند التصريحات المثيرة لرؤساء دول غربية كبرى كالرئيس الفرنسي ماكرون وسلفه
ساركوزي والرئيس الأمريكي السابق ترامب، التي أثارت ضجة إعلامية دولية للتدليل على
هذه الحقيقة.
من حسن حظ الوجود الإسلامي في الغرب، أن هذه التصريحات والمواقف
النشاز، لا تعبر إلا عن جزء من المجتمع الغربي المشحون عبر وسائل الإعلام، ودورها
التضليلي ضد الإسلام والمسلمين، وأن هناك جزءا آخر معتبرا لا يحمل مشاعر الإسلاموفوبيا، ويقف موقفا موضوعيا بعيدا عن التحيز والكراهية. ولا أدل على ذلك من التحركات
التضامنية المشرفة التي قام بها طلاب الجامعات الغربية، مساندة لغزة التي تتعرض
لأكبر إبادة جماعية في التاريخ الحديث على يد الصهيونية العالمية.
كشفت هذه الأحداث الكبرى عن الوجه الحقيقي لظاهرة الإسلاموفوبيا، حيث
كونها تنم عن خطة استراتيجية للأحزاب اليمينية الصاعدة، تستخدم كأداة لتحقيق أهداف
سياسية واقتصادية محددة، وخصوصا في الحملات الانتخابية، حيث تستغل تلك الأحزاب
والحركات السياسية الإسلاموفوبيا لكسب دعم الناخبين، عبر تصوير الإسلام على أنه
تهديد للأمن القومي أو للهوية الوطنية، مما يساعد في تعزيز القاعدة الشعبية لهذه
الأحزاب.
كما أن بعض الدراسات تشير إلى وجود صناعة قائمة حول الإسلاموفوبيا،
حيث يوجد مؤسسات إعلامية ومنظمات تنشر عن عمد معلومات مضللة أو مشوهة حول الإسلام، لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية. وهذا يشمل تمويل بعض مراكز الأبحاث والمنظمات
التي تتبنى خطابا معاديا للإسلام وتروج لسياسات تمييزية. وتستخدم الإسلاموفوبيا
كذلك كأداة استراتيجية في السياسات الخارجية لبعض الدول، حيث يُوظف الخوف من
الإسلام لتبرير التدخل العسكري أو السيطرة الاقتصادية على دول إسلامية، وهو ما يمكن
من خلاله تبرير الحروب أو التدخلات العسكرية ضد تلك الدول ذات الأغلبية المسلمة، على أساس محاربة "التطرف" أو "الإرهاب"، مما يعزز أجندات
استراتيجية معينة.
خاتمة
يحيلنا الربط بين العرضي والاستراتيجي في فهم ظاهرة الإسلاموفوبيا
وتطورها التاريخي، إلى بعض الخلاصات والاستنتاجات المهمة:
ـ أولها؛ أن الإسلاموفوبيا باعتبارها
مسارا وخطة استراتيجية يشتغل عليها أصحابها منذ زمن بعيد، ليست بمعزل عن مقولة صدام
الحضارات التي طرحها الأمريكي صامويل هنتغتون، في نظرته لإعادة تشكيل النظام
العالمي الجديد؛ هذا النظام الذي أصبح مطلبا لا مفر منه لإنقاذ العالم والبشرية من
براثن الليبرالية الجديدة الأكثر توحشا في التاريخ. فالعلاقة بين الظاهرة والمقولة
علاقة جدلية مترابطة يخدم كل منهما الآخر؛ فالاستثمار في الإسلاموفوبيا يفضي إلى إسعاف نظرية صدام الحضارات، خصوصا أن صاحبها بوّأ الإسلام والحضارة الإسلامية
مكانة الصدارة في هذا الصدام المنتظر، كما أن تحقق التنبؤ بصدام الحضارات، يحتاج إلى
أدوات لتهيئة المناخات التي تمهد لهذا الصدام، ولا شك أن الإسلاموفوبيا هي إحدى
تلك الأدوات.
ـ الثاني؛ العلاقة بين العرضي
والاستراتيجي هي أيضا علاقة جدلية، يصب كل منهما في رصيد الآخر، حيث إن الأحداث
العارضة والطارئة التي تفرزها التوترات الإقليمية والدولية، وتقود إلى سلوكيات
عدائية ضد الإسلام والمسلمين، تخدم الأهداف الاستراتيجية للإسلاموفوبيا، التي تراهن
على الفعل التراكمي. كما أن تلك الأهداف الاستراتيجية لا يمكن تحقيقها مرة واحدة، وإنما
من خلال توظيف الأحداث والظواهر العرضية، من أجل بناء نسق استراتيجي يعزز المسار، ويخدم الخطة على المديين المتوسط والطويل.
ـ الثالث؛ يتعلق بمستقبل هذه الظاهرة، في
ظل الصراع الدولي الدائر على قيادة النظام الدولي الجديد، الذي دشن مرحلته الأولى
بالتعددية القطبية، مع بروز مجموعة البريكس وتوسعها إلى البريكس+ لتضم دولا من
العالم الإسلامي كإيران ومصر والسعودية والإمارات، وهو ما يعكس نزوعا ضمنيا من هذه
الدول إلى تنويع علاقاتها الخارجية، وعدم الارتهان إلى المنظومة الغربية التقليدية
التي تعدّ الوعاء الثقافي والحضاري للإسلاموفوبيا.
ـ الرابع؛ يتعلق بمستقبل الوجود الإسلامي في الغرب، في ظل تصاعد
الإسلاموفوبيا على يد الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي ما فتئت تكتسح الركح في معظم
البلدان الغربية، وبالخصوص الأوروبية منها، حيث تستخدم هذه الأحزاب الإسلاموفوبيا
كأداة سياسية للصعود إلى الحكم من جهة وتمرير سياسات تمييزية أكثر ضد الوجود
الإسلامي، عندما تكون في الحكم من جهة أخرى بما في ذلك ممارسة المزيد من المضايقات
على المساجد والمراكز والمؤسسات الإسلامية، واستهداف الرموز الدينية وفرض المزيد من
القيود على الهجرة.
لكن من يدري، فالشيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده. ربما يدفع تصاعد
الإسلاموفوبيا بشكل غير مسبوق إلى ردة فعل غير محسوبة من قبل الشعوب والمجتمعات
الغربية، التي بدأ جزء مهم منها يستفيق على وقع طوفان الأقصى.