في ذكرى مرور عام كامل على "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة الدموية على
غزة يثار التساؤل حول تطورات الدور
المصري طوال العام، وكيف كان مندفعا في بداية الأمر، حتى انحسر ذلك المشهد بشكل ملفت خلال الشهرين الأخيرين.
وفي 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أطلقت المقاومة الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى"، حيث عبر مقاومون من حركة المقاومة الإسلامية "حماس" السياج الحدودي لغزة، وشنوا هُجوما بريا وبحريا وجويا على مستوطنات غلاف غزة، وأسرت "كتائب القسام" من 200 إلى 250 جنديا ومستوطنا إسرائيليا.
في المقابل، أطلقت الآلة العسكرية الإسرائيلية عدوانها المسمى بـ"السيوف الحديدية" مستخدمة جميع الأسلحة والتي ارتكبت على مدار عام جرائم تدمير كامل البنية التحتية للقطاع، وتشريد نحو 2.3 مليون فلسطيني، إلى جانب استشهاد نحو 41 ألفا و689 فلسطينيا وفق بيان وزارة الصحة في غزة، الأربعاء.
"توافق ثم تراجع وتوتر"
الدور الدبلوماسي المصري بدا فاعلا بعد نجاحه ودولة قطر في فرض الهدنة بعد 49 يوما من القتال الدامي، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، حيث تم إطلاق سراح 105 أسرى من قطاع غزة، مقابل إطلاق سراح 240 معتقلا فلسطينيا من السجون الإسرائيلية، مع إدخال المساعدات الإنسانية والطبية والغاز، للقطاع.
حينها أعلنت واشنطن عن تقدير أمريكي لدور القاهرة عبر اتصال هاتفي أجراه الرئيس الأمريكي جو بايدن، برئيس النظام المصري عبدالفتاح
السيسي، 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
وفي أيار/ مايو الماضي، رصدت دراسة لـ"
المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية"، دور مصر في احتضان جولات المفاوضات بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، بمشاركة قطر وأمريكا خلال 6 أشهر من الحرب، واستقبال العديد من رؤساء الدول ورؤساء الوزراء ووزراء الخارجية وممثلي المنظمات الدولية والإقليمية.
وفي الأثناء، حصلت مصر على دعم دولي قال مانحوه إنه "لمعالجة التداعيات المتزايدة الناجمة عن الصراع بين إسرائيل وحماس على حدودها"، وذلك من جهات عديدة أهمها إعلان
الاتحاد الأوروبي في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، دعم مصر بـ9 مليارات يورو (9.8 مليار دولار).
وفي 6 آذار/ مارس الماضي، وافق صندوق النقد الدولي، على زيادة قيمة تمويل مصر من 3 إلى 8 مليارات دولار.
وفي 11 أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، تقديم كامل المساعدات العسكرية لمصر والمقدرة بـ 1.3 مليار دولار، دون اقتطاع لأول مرة منذ العام 2020.
لكن، تقرير لـ"معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، والذي جاء بعنوان "
حرب غزة تقوّض العلاقات المصرية الإسرائيلية"، رصد ما أسماه "تحول كبير في العلاقات الثنائية"، وتراجع الدور المصري من التوافق مع إسرائيل منذ عام 2013، حينما طلبت القاهرة مساعدة تل أبيب في حربها في سيناء، إلى التوتر بسبب حرب غزة وخاصة مع احتلال إسرائيل محور فيلادلفيا في أيار/ مايو الماضي.
قال التقرير إنه "بعد سنوات من العلاقات الودية، دفعت حرب غزة العلاقات المصرية الإسرائيلية مجددا إلى الحضيض"، مشيرا إلى أنه "في 27 أيار/ مايو الماضي، فتحت القوات المصرية المتمركزة على حدود غزة النار على القوات الإسرائيلية المتواجدة في
رفح".
ولفت إلى أنه "شكلت الأنفاق العابرة للحدود سببا آخرا للاحتكاك الثنائي المتزايد"، مشيرا إلى أنه في كانون الثاني/ يناير الماضي، ألمحت إسرائيل إلى أنها ستسيطر على "محور فيلادلفيا"، وهو ما رفضته القاهرة معتبرة أنه انتهاك للالتزامات الأمنية المنصوص عليها في معاهدة السلام 1979.
وذكر المعهد الأمريكي أن "بعض الإجراءات الدبلوماسية التي اتخذتها القاهرة خلال الحرب أدت إلى زيادة الاحتكاك الثنائي"، ضاربا المثل بانضمام القاهرة لجنوب أفريقيا في القضية التي رفعتها ضد إسرائيل بـ"محكمة العدل الدولية"، بتهم ارتكاب "إبادة جماعية" بحق الفلسطينيين.
"الخسارة كبيرة"
وفي قراءته وتقييمه للدور المصري مع مرور عام على طوفان الأقصى، وأسباب توهج دور القاهرة ثم خفوته بشكل دراماتيكي، قال مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير عبدالله الأشعل: "طوفان الأقصى كشف جميع المواقف العربية بما فيها الموقف المصري".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أن "الأمن القومي المصري يقتضي التعاون مع المقاومة، ولكن أمريكا خلقت امتيازات للمنصب الحكومي بنظام الحكم يتناقض تماما مع مصالح مصر القومية، وبالتالي فهذا يعتبر نزيفا للقوة المصرية المتبقية".
وأوضح أن "مصر كانت تستطيع أن توقف إسرائيل عند حدها وبالطرق الدبلوماسية، أيضا؛ ولكن تراجع الدور المصري لدرجة أنه أصبح وسيطا فقط، ثم إن هناك تقارير تقول إن الحكومة المصرية تساعد إسرائيل وتمنحها أدوية وطعاما وغير ذلك".
ويعتقد أنه "إذا تغاضينا عن هذه النقطة فمعنى ذلك أن الحكومة تعمل ضد مصلحة الوطن ولمصلحتها الشخصية مع أمريكا وإسرائيل، وبالتالي فالخسارة كبيرة جدا، والحكومة المفروض أنها جزء من الدولة، ولكنها تجعل من نفسها الدولة".
وختم مؤكدا أن "الدولة هي الشعب والإقليم ثم الحكومة كإدارة، أو النظام السياسي بفروعه الثلاثة التنفيذي والتشريعي والقضائي يدير الدولة وفقا للدستور ووفقا لآمال الشعب".
"غير قادرة وغير راغبة"
وفي رؤيته، قال السياسي والإعلامي المصري الدكتور حمزة زوبع: "لا أعتقد أن دور القاهرة ظل محط أنظار العالم، ولا أظن أن ذلك من باب المدح، بمعنى أنه كان مساندا ومؤيدا".
المتحدث السابق باسم حزب "الحرية والعدالة" المصري الحاكم سابقا، أضاف لـ"عربي21": "فقط ربما كانت بعض الدول تحسن الظن بأن القاهرة قادرة على التدخل لوقف العدوان، أو حتى في المراحل الأخيرة ظن البعض أن مصر ستتدخل لصالح إنهاء الحرب، والتفاوض، كرغبة الغربيين في الوصول لتحرير الأسرى القضية التي تهمهم، حيث لا يهمهم هنا الفلسطينيون ولا الدمار الذي حدث".
ويعتقد زوبع، أنه "لا القاهرة قادرة ولا القاهرة راغبة في القيام بهذا الدور، وللقيام بأي عمل يجب أن يكون لديك الرغبة والقدرة، ومصر فقدت القدرة والرغبة لأنها عبرت عن انحيازها لإسرائيل".
وأوضح أنه "دائما ما كانت القاهرة تنطلق في التفاوض وحتى في عهد حسني مبارك من قاعدة أنها بوابة فلسطين وأن كل العالم العربي يحترم كلمتها، واليوم سمع الجميع قول محمد بن سلمان (ولي العهد السعودي) إن القضية لا تهمني، وبالتالي السعودية لا تدعم أي دور، والإمارات تعتبر نفسها رفيقة درب إسرائيل وتحافظ عليها، والأردن تعتبر نفسها البوابة الشرقية لحماية الكيان".
ومن هنا مضى السياسي المصري يقول: "وبالتالي فأنت أمام متغيرات من الداخل ومعطيات تشير لضعف السياسة المصرية والحكومة المصرية والواقع المصري، ومن الخارج التغير الحاصل في موازين القوى، هذا التغيير يجعل من الصعب أن يكون للدور المصري قيمة بمعنى قيمة تأثير فعلي".
"خسارة الدور التاريخي"
وفي إجابته عن السؤال "هل حققت القاهرة نجاحات ذاتية أو استفادة مالية أو تعاظم لدور خارجي من دورها خلال العام، وما الخسائر التي لحقت بها ونظامها خلال عام من طوفان الأقصى؟"، أكد أن "ما فعلته القاهرة أنها باعت الدور أو إمكانياتها بالتدخل الفعال الإيجابي نظير المال؛ وهناك أموال رصدها الاتحاد الأوروبي وأمريكا لمصر، وإشادة من واشنطن وبروكسل".
وأوضح أن "خسارة مصر لدورها جاء لاعتقاد القائمين بالعمل في مصر أن المال أهم من الدور السياسي، وبالطبع هي تجارة رخيصة، وبيع بخس الثمن، لأنه، حتى لو بعت الدور المصري بمئات المليارات فالدور المصري تم بناؤه عبر سنوات وعقود وعهود".
وأكد أنه "لا يستطيع القول إن السلطة في مصر سلطة غبية، وإنما هي سلطة متواطئة، وبالإضافة إلى تواطئها يأتي الغباء، لأنه حتى وهي تطلب الثمن تحصل على مقابل أقل بكثير جدا من دورها، لأن الدور المصري يجلب احترام الشعوب والعالم، ويجعلك كما يقولون لك دور محوري مركزي واليوم ليس كذلك ولن يكون".
وفي نظر زوبع، فقد "خسرت مصر دورها ومكانتها واسمها وسمعتها في العالم العربي، وكان إذا تورطت إسرائيل فلا بد من دور لمصر، وحين أتحدث في برنامجي اليومي عن دور أي دولة متراجع في القضية الفلسطينية، يقال لي وماذا عن مصر؟، فهي وضعت النموذج السيئ لمن يفرط ويبيع".
"فقدان الأدوات والعقيدة"
وتابع: "اليوم مصر تعلن أنها مستعدة للتدخل للتفاوض بين الأطراف، أية أطراف؟، بينما ليس مسموح لك في مصر إلا بالتماهي مع الدور الإسرائيلي، ولا يمكن أن تتحدث عنها، ولا فائدة لك، وإذا كانت أمريكا التي تمد إسرائيل لا تقدر عليها".
وتساءل: "عندما تدخل كوسيط، ما هي أدواتك؟، وعلى أي شيء يستند النظام في إعلان استعداده للتدخل؟، هل لديك دبلوماسيين ناجحين، ووزارة خارجية نشيطة ومكانة وكلمة مسموعة؟، أنت خسرت خسارة تدفعنا إلى الحزن والألم، لأنه ليس الخسائر فقط عسكرية وقد تكون خسائر في الإرث والأصول التي تملكها البلد".
وختم بالقول: "لا يهمني أن يكون لدي وزير خارجية فاشل، ولكن يجب أن يكون هناك تصور استراتيجي لدور الخارجية، ولكن للأسف ليس لدي هذا الشخص وعندي تصور سيء لانسحاب العالم العربي، وأنني لست قادرا ولا كبيرا ولا راغبا، فالمقاتل لا يقاتل عن المعدة العسكرية معه فقط، ولكن بناء على عقيدة، وإذا لم تكن هناك عقيدة الخارجية والدفاع والعمل، بطبيعة الحال ستكون بلا روح ولا دور".
"10 سنوات من التجفيف"
وفي رؤيته، يرى البروفيسور، والسياسي المصري، المقيم في لندن، إبراهيم فهمي، أن تراجع دور مصر الإقليمي ليس وليد هذه الأزمة، ولكنه يعود "لعشر سنوات مضت، ويعود لسبيين، الأول: تجفيف السلطة الحاكمة لمنابع السياسة وتجاهل الكفاءات المهنية المستقلة المهتمة بالعمل السياسي والاقتصادي من أهل العلم والخبرة، بل والتضييق عليهم مقابل فتح الأبواب لأنصاف الكفاءات من أهل الولاء والثقة في الاستحواذ على المناصب القيادية الرسمية في الإدارة والاقتصاد".
الخبير الدولي في إدارة الصناعات البحرية، وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "والسبب الثاني: عدم فهم أنصاف الكفاءات قيمة مصر وحضارتها وثقلها الإقليمي والدولي وقوتها الناعمة وتأثيرها التاريخي والجغرافي في كل قضايا الشرق الأوسط، فقاموا بتقزيم مصر عن طريق تكرار سيناريو الاقتصاد التابع المعتمد علي ديون هائلة جعلت القرار المصري مرهونا برضا الدائنين -وللدقة- أصبحت القاهرة رجل العرب المريض وهو تشبيه لوضع إسطنبول في مطلع القرن العشرين".
ويرى أنه "نتيجة لذلك أصبحت مصر غير قادرة على بسط قوتها الناعمة التي انحسرت بشكل دراماتيكي حتى تمت محاصرتها بالعديد من المشكلات الإقليمية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، فضلا عن المشكلات الاقتصادية الداخلية الناتجة عن الإدارة غير الرشيدة لملفات التعليم والصحة والصناعة والنيل والثروات من البترول والغاز والمعادن".
"حتى تجرأ عليها صغار الدائنين وفرضوا نفوذهم على العديد من الشركات والمؤسسات والملفات الاستراتيجية محاولين سلب دور الأخ الكبير الذي كانت تقوم به مصر سابقا وتهميشها في موازين القوى المؤثرة"، وفق قوله.
في نهاية حديثه أكد أن "مصر تستطيع القيام من عثرتها واستعادة دورها الإقليمي وحل مشكلاتها الاقتصادية بفتح الأبواب لعودة الكفاءات المستقلة من أهل العلم والخبرة، وهم بالآلاف واستدعاؤهم للمشاركة الفعالة في إدارة البلاد بتمرير فيضان في نهر السياسة الجاف".
"معدومة الثقل والمكانة"
ويعتقد الباحث الفلسطيني في الشأن الإسرائيلي صلاح الدين العواودة، أن "دور مصر ارتبط بسخونة المشهد بقطاع غزة؛ فعندما كانت المعارك على أشدها ومسألة الأسرى على رأس سلم الأولويات برز الدور المصري كوسيط، إضافة إلى أهمية الدور المصري في مسألة الحدود من حيث منع التهجير من جهة وإدخال المساعدات الإنسانية من جهة أخرى، إضافة إلى قضية التهريب في خلفية المشهد".
الباحث بمركز "رؤية للتنمية السياسية"، بإسطنبول، أضاف في حديثه لـ"عربي21"، "واليوم وقد انتقلت الأنظار بشكل كبير إلى لبنان وإيران خفت الحضور المصري".
وفي تقييمه لحجم مكاسب أو خسائر مصر من موقفها إزاء حرب غزة، يرى أنها "خسرت كثيرا رغم بروزها كوسيط؛ فهي لا هي مع ستي بخير ولا مع خالتي بعافية، وإسرائيل اتهمتها بتهريب السلاح لغزة، واتهمتها بمنع إدخال المساعدات الإنسانية، وجمهور المقاومة أيضا اتهمها بالتعاون مع الاحتلال، وقناة السويس خسرت كثيرا بسبب إغلاق باب المندب".
وختم بالقول: "ورغم ما أخذته من أموال من مغادري قطاع غزة، إلا أنه لم يعوض ما كانت تربحه من البضائع التي كانت تدخل إلى غزة قبل الحرب؛ وفوق هذا كله فإن مصر العمق العربي والثقل العربي بدت معدومة الثقل والمكانة في أهم قضية للعرب وعلى حدودها".
"المسكوت عنه أهم وأخطر"
وفي رؤيتها السياسية، قالت الكاتبة الصحفية مي عزام: "في الحقيقة صعب التكهن بما يدور وراء الأبواب المغلقة، والمسكوت عنه أهم وأخطر مما يعلن عنه".
وفي حديثها لـ"عربي21"، أضافت: "ليس لدي إجابات شافية لأنه ليس هناك معطيات متاحة"، مشيرة إلى أنه "وبالنسبة لخسائر مصر فقد تحدث عنها السيسي، حين ذكر نقص إيرادات قناة السويس، بسبب تهديدات الحوثيين".
وفي 29 أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلن السيسي، أن خسائر مصر من دخل قناة السويس خلال عام من حرب غزة تتجاوز الستة مليارات دولار، بفقدان ما يصل إلى 60 بالمئة من دخلها.
لكن مي عزام، أكدت على وجود خسارة أخرى قائلة: "هناك خسارة لمكانة مصر كوسيط مهم، بسبب توقف المفاوضات نتيجة تعنت نتنياهو، وأيضا بسبب التواجد الإسرائيلي في محور صلاح الدين ومعبر رفح"، خاتمة بقولها عن مكاسب القاهرة: "لا أجد مكاسب ظاهرة".