في الحقيقة هذا هو موضوع الساعة،
ولكنه موضوع شائك ومتشعب وذو شجون. وإذا كنا نريد أن نبحث بكل صدق وتجرد عن حلول
ناجعة لأزمة
مصر الاقتصادية، فإنه يجب أن نحدد أبعاد المشكلة الحقيقية والاعتراف
بها، وذلك إذا أردنا الحل بطريقة منهجية وعلمية وليست عاطفية.
فمشكلة مصر الآنية والحقيقية هي إذن
مشكلة سياسية في المقام الأول وليست اقتصادية، وإن كانت الأخيرة هي مجرد مظهر ووجه
واحد من الأوجه المتعددة لتلك المشكلة الرئيسية، وكما عبرنا عن ذلك غير مرة.
هب أنك سددت كل ديونك وصار لديك
فائض، لا قدر الله! ثم فجأة استولى عليه أو اغتصبه نظام الحكم -نظام انقلابي
استبدادي فاسد- فإنه سوف يقلب هذا الفائض إلى
عجز، ويحولك من دولة دائنة إلى دولة
مدينة، ومن دولة رائدة إلى دولة تابعة، ومن مجتمع قوي ومتماسك إلى مجتمع متهاو
ومتهالك ضعيف ومفكك ومنقسم حتى أمام أتفه الأمور.
ممارسات هذا النظام قد كشفت لنا بالفعل أنه قد جاء بأجندة خالية تماما من أي نهضة اقتصادية، أو حتى خطة اقتصادية تحافظ على وضعها الذي كان قائما منذ ثورة يناير 2011، ولكن كل الذي رأيناه هو تدمير ممنهج للاقتصاد القومي، وبدلا من تشجيع الاستثمار والمستثمرين تفرّغ تماما لمحاربة وتطفيش المستثمرين المصريين أنفسهم
ومع ذلك، فإن هذا النظام أثبت من أول
يوم تولى فيه حقيقة أنه نظام مفلس بالفعل، ماديا ومعنويا، وليس لديه شيء سوى
الكلام ثم الكلام ثم الكلام، وكله كلام أجوف لا يغني ولا يسمن من جوع، وكما خبرنا
وعاينا وعشنا وعايشنا ذلك جميعا.
ثم من يضمن أنه لو بفرض قد تبرعت
إحدى الدول الشقيقة بسداد هذا العجز، أو الفجوة المالية التي تواجهها مصر في العام
المالي الحالي، والمقدرة بـ10 مليارات دولار، ألّا يعاود باختلاق عجز آخر لابتزاز
أو حلْب هذه الدولة أو تلك، وكما فعل من قبل حينما شبهه مسؤول عربي حينها بما
يستحقه من تشبيه، بعدما تبرعت بلاده بمبلغ ضخم لمعالجة أزمة اقتصادية أيضا، وأعتقد
أن كل مهتم قد اطلع على كل ذلك؟
لقد بُح صوتنا، ومنذ البداية بأولوية
الإنفاق والاستثمار في مشاريع منتجة تبيع وتصدر، وتجلب عملة صعبة وتشغل عمالة بدلا
من بناء الطرق والكباري والقصور الرئاسية، والتي نحن لسنا في حاجة ملحّة إليها
مثلا، ولكنه خرج علينا وقال بكل صلف: "أيوه أنا بنيت قصور رئاسية،
وهبني".
من الظلم البيّن إذن أن يُحمل الشعب نتيجة
أخطاء وصلف وكوارث نظام وليس له يد فيها، ولما اقتربنا من حافة الإفلاس لم يتعلم
النظام من أخطائه وظل سادرا في كوارثه لا يلوي على شيء حتى صارت المعادلة:
"بناء القصور مقابل بيع الأصول".
وممارسات هذا النظام قد كشفت لنا
بالفعل أنه قد جاء بأجندة خالية تماما من أي نهضة اقتصادية، أو حتى خطة اقتصادية
تحافظ على وضعها الذي كان قائما منذ ثورة يناير 2011، ولكن كل الذي رأيناه هو
تدمير ممنهج للاقتصاد القومي، وبدلا من تشجيع الاستثمار والمستثمرين تفرّغ تماما
لمحاربة وتطفيش المستثمرين المصريين أنفسهم، كصاحب شركة جهينة مثلا، ولاحقا
النساجون الشرقيون، وغيرهما، والبعض تحدث عن ساويرس، وكنا قد طالعنا العديد من
تغريدات الأخير فيما يتعلق بالاستثمار وحالة الاقتصاد، فماذا يمكن أن نسمي ذلك؟
ظهور هذا العجز في الموازنة، أو
الفجوة المالية، شيء متوقع، وربما القادم أسوأ إذا استمرينا على هذا النهج والغزل
على ذات المنوال نتيجة هذه الممارسات غير الرشيدة وغير العادلة وغير الأمينة.
إذن، فالنتيجة الحتمية لكل ذلك هروب
المستثمرين لأسباب عدة منها أيضا انعدام المنافسة عندما يدخل الجيش منافسا لهم، هو
التحول إلى بيع الأصول من أجل الحصول على العملة الصعبة، وأحيانا المال الساخن
يلعب دورا أكثر تخريبا أيضا، من خلال الفوائد المغالى فيها جدا، والتي يفرضها
أصحاب تلك الأموال مستغلين في ذلك ضعف النظام وضعف الاقتصاد، وتهافته على الحصول
على العملة الصعبة بأي طريقة ومن أي طريق.
والمشكلة هنا أنه يلجأ إلى بيع أفضل
ما هو متاح من أصول مربحة "أي وش القفص"، وليست الأصول المتعثرة أو
الخاسرة كما يزعمون.
والمشكلة، أو بالأحرى الكارثة هنا هي
أن ما لدينا من أصول هي محدودة بطبيعتها وليست لا نهائية، فعندما ينتهي من بيعها،
وتظل مع ذلك المشكلة قائمة، وحاجته وتعطشه لمزيد من الأموال لسد فجوات عديدة صارت
أكبر، فإنه سيلجأ إذن إلى بيع الثغور وأفضل مما هو متاح، وربما أيضا أخطر ما هو
موجود من أراضي الدولة، بحيث أي تصرف فيها يشكل خطرا وتهديدا حقيقيا على الأمن
القومي للبلاد، كالتصرف مثلا في رأس بناس على البحر الأحمر ورأس جميلة في جنوب
سيناء، ورأس الحكمة على البحر المتوسط.
وكل تلك الرؤوس بالمناسبة كان يقطنها
مواطنون عاديون، ومعهم عقود تملك رسمية وقانونية، وقد جرى معهم مع ما جرى من قبل
ولا يزال مع سكان جزيرة الوراق ومحاولة تهجيرهم قسريا من أراضيهم، فضلا عن حي
الجميل ببورسعيد، ونزلة السمان في الجيزة، وغيرها، الأمر الذي يشكل تهديدا آخر
وأخطر في حقيقة الأمر للأمن القومي للبلاد، حيث أن أمن وأمان المواطن في أرضه
وبيته من مسلّمات مبادئ أي أمن قومي لأي بلد من البلدان. لكن كل شيء آخر يهون
مقابل أن يحصل هذا النظام على أي مال من أي مصدر.
والمشكلة هنا أيضا أنك لا تعرف من
ستؤول إليهم في نهاية المطاف عملية البيع، الأمر الذي يمكن أن ينتقص من سيادة
البلد عندما يستغل الملاك الجدد ضعف النظام، ويطالبون مثلا باستقلال ذاتي لما صار
تحت أيديهم من أراض، أو تبعيتها لدولهم الأصلية، وكما هو حاصل الآن بالنسبة مثلا
لكل من سبتة ومليلة المغربيتين.
ولكن السؤال الغريب والمثير والمربك
والمحير والمريب هنا هو: لِمَ لم يفكر النظام في بيع أية مشاريع من مشاريع الجيش
لسد فجوة الـ10 مليار دولار تلك، والتي لا تدخل ميزانياتها أصلا ضمن إيرادات
الدولة، وإن كانت الأخيرة تتحمل كل أعبائها ومصاريفها وتكاليفها، وذلك بدلا من بيع
أصول الدولة المملوكة للشعب والتصرف في أراضي وثغور الدولة السابق الإشارة إليها؟
وعلى أية حال، وحتى لا نطيل، فسؤال
المليون دولار هنا هو: ما هي الحلول المثلى للخروج من الأزمة، أو وقف تصاعدها؟
والإجابة هي ببساطة خروج
السيسي من
مصر وبعدئذ سوف يكون لكل حادثة حديث.