تقارير

فوضوية التحليل السياسي.. كيف تؤثر على الوعي وتشكيل الرأي العام؟

تكمن خطورة تفشي فوضوية التحليل السياسي، واستباحة القول فيه من قبل غير المتخصصين، إلى إخراج التحليل السياسي من دائرة العلم والتخصص، والقول المستند إلى قواعد ومنهجيات وأصول إلى إطلاق الكلام على عواهنه..
مع سخونة الأحداث وتتابعها منذ السابع من أكتوبر، 2023، باتت مواقع التواصل الاجتماعي مسرحا مفتوحا لممارسة التحليل السياسي لكل راغب في ذلك، وتكاثرت الأسماء التي تتم استضافتها كخبراء ومحللين وباحثين ليقدموا تعليقاتهم وتحليلاتهم عبر فضائيات ومنصات عربية عديدة.

ووفقا لمراقبين فإن كثيرا مما يقال ويقدم على أنه تحليلات سياسية، أقرب ما يكون إلى "الكلام الرغائبي"، والذي يصدر في أغلبه عن مواقف أيديولوجية ناجزة، وتتحكم فيه مشاعر الحب والبغض، ويخلو في أكثره من المعلومات الموثقة، ولا يمت إلى علم وأصول التحليل السياسي وفق مناهجه المقررة أكاديميا بأدنى صلة.

ومن اللافت أن غالب تلك الكتابات والأحاديث تنزع إلى تفسير الأحداث باستخدام نظرية المؤامرة، والتي لا تحسن قراءة الأحداث والوقائع إلا من خلالها، وهو ما يفضي إلى تقديم آراء ساذجة في فهم وتحليل ظواهر سياسية متشابكة وبالغة التعقيد، ما يؤثر على الوعي تأثيرا سلبيا، ويساهم في الوقت نفسه في تضليل الرأي العام العربي على نطاق واسع في أوساط شعبية عريضة.

كما تكمن خطورة تفشي فوضوية التحليل السياسي، واستباحة القول فيه من قبل غير المتخصصين، إلى إخراج التحليل السياسي من دائرة العلم والتخصص، والقول المستند إلى قواعد ومنهجيات وأصول إلى إطلاق الكلام على عواهنه، واستسهال القطع في التوصيف والأحكام، والتجرؤ على استخدام المفردات ذات الطبيعة الوثوقية واليقينية فيما هو واقع في دائرة الظنيات والسيناريوهات المفتوحة على كل الاحتمالات.

يُوصف التحليل السياسي في الأوساط الأكاديمية والبحثية بأنه علم وفن ومهارات، فهو "علم لأنه يستخدم المفردات والطرائق المنهجية العلمية في إعداد البحوث العلمية بغية الوصول إلى نتائج ومخرجات ناجعة في التحليل السياسي، وفن لأنه يعتمد على قابلية التصور المسؤول بتطويع الخبرات المتراكمة للقائم بالتحليل، وكونه مهارة متقدمة لأنه يبرمج الجهد الذهني في عمليات التحليل والبحث، وسبر منظومة المعلومات وتصنيفها وتطويعها بغية الوصول إلى الاستنتاجات والاحتمالات الواقعية الموضوعية.." كما يقول الدكتور مهند العزاوي في كتابه "فن ومهارات التحليل السياسي".

ووفقا للعزاوي فإن التحليل السياسي يعد بمثابة الطريقة المثلى التي نحكم بها على الظواهر والأحداث والأزمات السياسية محليا وإقليميا وعالميا، ولذلك يحتاج المحلل السياسي الناجح إلى فهم الواقع السياسي الدولي والإقليمي وعلاقة هذا الواقع بالسياسة الدولية والنسق الدولي والإقليمي حتى يتمكن من معرفة تأثيراته المحتملة على الواقع السياسي الداخلي".

كما تناول المؤلف في فصول كتابه تعريف وتحديد جملة من المصطلحات والمفاهيم السياسية الأساسية التي تستخدم في التحليل السياسي، كمقدمة ومفاتيح لممارسة التحليل، كما تناول تعريف المعلومات وكيفية الحصول على المعلومة الصحيحة، ودراسة الخلفيات والبيانات التي تمكن المحلل من الإلمام بتاريخية الحدث وواقعيته واستعراض الدوافع والمحركات والعوامل ليتمكن من فهم الواقع فهما صحيحا ودقيقا، ومن ثم سبر الأحداث والاجتهاد في تحليلها وفق المعطيات والخلفيات المتوفرة بين يديه.

ولفت المؤلف في سياق بيانه لأهمية التحليل السياسي إلى أنه "أصبح من الضروريات في الحياة السياسية المعاصرة، سواء كان لرجل الدولة المخول بالعمل في مجال السياسة أو المسؤول الأمني المعني بمعالجة الظواهر السياسية والأزمات أو المسؤول السياسي والمهتمين عامة بالشأن السياسي، وكذلك المفكرين من ذوي الدراية وسعة الأفق بما يؤهلهم لفهم ما يدور في العالم من أحداث مختلفة تستحق العناية والبحث والمعالجة..".



ومن أبرز فوائد التحليل السياسي "تكوين قاعدة بيانات منظمة تعتمد في أقسامها معلومات دقيقة تتعلق بالأحداث موضوع التحليل وتربطه بالوقائع التاريخية، وتحدد طرق معالجتها التطبيقية مما يتيح هذه المعلومات في كل وقت وخصوصا عند ظهور أحداث وأزمات مماثلة.. وكذلك البعد عن الأحكام المطلقة، والبحث في كافة الاحتمالات الممكنة، ودرجة القوة في هذه الاحتمالات ومدى تأثيرها، ومعالجة القضايا والمواقف بشكل أكثر وعيا وعمقا، والابتعاد عن الأفكار الفردية والعقائد الشخصية والعاطفة التي لا تستند إلى أدلة واضحة وحقائق منطقية يمكن أن يقتنع بها بقية الأطراف..".

ومما يلزم المحلل السياسي معرفته معرفة جيدة دراسة وإتقان آليات التحليل السياسي، وأهم ما يقترحه المؤلف في هذا الباب "قراءة وتصنيف الواقع السياسي، وفرز المعطيات وتصنيفها وجمع المعلومات، ومراجعة الأخبار السياسية، وتطويع المعلومات والتقارير، وتحديد المشكلة ووضع الفرضيات، وتحديد العامل الرئيسي، وتحديد العوامل الثانوية، والتصور والتنبؤ، وتحرير الاستنتاجات، والتوصيات والمقترحات، والصياغة".

كما خصص المؤلف أحد فصول كتابه لبحث منهجيات التحليل السياسي، واستعراض المهارات العلمية والعملية التي لا بد أن تتوفر في القائم بالتحليل السياسي، وهو ما يقدم منهجية مقترحة للتحليل السياسي والأساس العام الذي من الممكن اعتماده ليستند إليه طلاب العلوم السياسية والباحثين والمعنيين بالتحليل السياسي والعاملين في المجال الوظيفي من ذوي الاختصاص.

من جهته قال الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، المتخصص في شؤون الشرق العربي، والحركات الإسلامية، الدكتور شفيق شقير “يقوم التحليل السياسي ومقوماته إذا أردنا أن نصف ذلك بلغة بسيطة على الاختصاص والخبرة والصلاحية، فالمحلل السياسي يجب أن يكون جزءا من المجتمع السياسي، متصل به، ومطلع على أحداثه ومجرياته، بينما مواقع التواصل الاجتماعي تقوم على النقل والنشر من البيت أو مكان العمل، وغالبا ما يتفاعل الناس مع ما ينقلونه بالتشهي والرغائبية".

وأضاف في تصريحاته لـ "عربي21": "وما أصاب بنية التحليل السياسي ومصداقيته بسبب مواقع التواصل الاجتماعي ينسحب على كافة المجالات والعلوم والفنون، فمواقع التواصل ليست بالأصل منصات للخبراء، بل هي لعموم الجمهور، ومفتوحة لجميع الناس".


                                        د. شفيق شقير.. باحث في مركز الجزيرة للدراسات

وأضاف "فمواقع التواصل تتيح لروادها أن يقولوا كل ما يريدونه، متى شاءوا ذلك، ويسمعوا ما يرغبون بسماعه في أي وقت يناسبهم، وهذا بطبيعته يشكل تحدٍ للتفكير العميق، وضمنا هو تسطيح لكل شيء وأحيانا تزييفه، لهذا نجد الكثير من الأخبار المزيفة، والتحليلات المنحولة، المنشورة والمتداولة على مواقع التواصل، وأحيانا تتم نسبتها لشخصيات لم تصرح بها، أو لمؤسسات لم تصدر عنها".

وتابع لـ"عربي21": "فالتحليل السياسي في هذا السياق هو أحد ضحايا مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما حينما نأتي للأحداث التي تجري في غزة حاليا منذ طوفان الأقصى، باعتباره الحدث المتصدر منذ عشرة أشهر، وهو المهيمن ويحظى في الوقت نفسه بأهمية قصوى بسبب تأثيره على حياتنا اليومية".

من جهته أكدّ الكاتب والمحلل السياسي العراقي، الدكتور حيدر سلمان أن "التحليل السياسي لا بد أن تتوفر فيه جملة من المواصفات والشروط، من أبرزها: موثوقية المعلومة ورصانتها، وعدم اعتماد مصادر غير موثوقة، والقدرة على البحث في المعلومات المتوفرة من كافة جوانبها، وليس الاكتفاء بالنظر لها كحدث عابر، والقدرة على تفكيك المعلومة وتحليلها وتأويلها، والتمعن في مآلاتها وعواقبها، واكتساب مهارة ربط الأحداث والوقائع والخروج باستنتاجات وخلاصات جراء ذلك"..

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول "ومن المهم للمحلل السياسي إبعاد مشاعره الخاصة عن التحليل قدر الإمكان، ومحاولة عدم التأثر بالجمهور الداعم أو المعاكس، وهذه النقطة قد تكون صعبة حتى على أفضل الكتاب والمحللين، كوننا في نهاية الأمر بشر، نتأثر بمن حولنا على قدر تأثيرهم بنا، كما يجمل بالمحلل السياسي امتلاك جرأة الإقدام على الاعتذار عن أي خطأ قد يقع فيه، كتقديم معلومة خاطئة، أو تفسير الخبر تفسيرا خاطئا، وأن يتحلى كذلك بالمصداقية والموضوعية في آرائه وتحليلاته".


                                            د. حيدر سلمان.. كاتب ومحلل سياسي عراقي

وعن أبرز سلبيات ومساوىء التحليل الرغائبي الذي ينطلق في كثير من الأحيان من موقف أيديولوجي، ويستند إلى الحب والبغض، ويفتقر إلى المعلومات الموثقة، أكدّ سلمان أن ذلك اللون من التحليل "يعد ظاهرة سلبية في أوساط الباحثين عن المعلومة الصحيحة والمحللين الموضوعيين الجادين، لما ينتج عنه ـ في غالب الأحيان ـ من مشاكل سياسية وأدبية ومجتمعية".

وأردف: "ومن الملاحظ أن مطلقي التحليل المبني على الأيديولوجيا لا ينظرون إلى تبعات ما يطلقونه، وهو ما يستدعي من الباحث الحقيقي الصبر قليلا وعدم التسرع في الحديث حتى تعبر موجة الحدث وما بعد الحدث، ومن ثم التحدث بعقلانية وحيادية تبتعد عن التجريح والتأليب، واجتناب الخوض في أمور هامشية على حساب جوهر القضية محل البحث والتحليل، وتدريب الناس على النظر في حقيقة ما يجري بتجرد، والصبر على البحث والنظر والتحليل مطلوب جدا في هذا المقام".

وختم حديثه بالإشارة إلى أن استباحة التحليل السياسي على مواقع التواصل الاجتماعي، وما يصاحب ذلك من فوضوية التحليل تؤثر تأثيرا سلبيا على الوعي وتساهم في تزييف الرأي العام، وأكثر ما تكون تلك الممارسات في الجانب السياسي، ويمكن إرجاع ذلك في بعض جوانبه إلى الطمع في تحصيل مكاسب سياسية عاجلة، أو السعي لجذب مزيد من الأضواء وتوظيف ذلك كله لصالح أجندات معينة،  على عكس المحلل السياسي والاجتماعي الجاد والموضوعي الذي يسعى لتجلية الحقيقة وخدمتها، ولا يتطلع لمكاسب آنية وعاجلة".