أفكَار

كشف حساب الثورة ومعاركها المقبلة.. عن تحديات الربيع العربي

إنها إرادة الأمة استئناف دورها التاريخي وسعيها لتحقيق شروط مناعتها الحضارية والروحية ولشروط قوتها التقنية والمادية أساسا لحريتها وحرية المواطن وكرامتهما.. الأناضول
سبق أن عرفت اغتصاب إرادة الشعب بالانقلاب العسكري العلماني في مصر والانقلاب الأمني العلماني في تونس عرفته بكونه بداية الموجة الثانية من ثورة الربيع العربي الموجة التي مكنت الشعوب العربية من فهم حقيقة الأهداف وشروط تحقيقها.

فهذا الاغتصاب نفي متجدد لشعارها المترجم عن هذه الإرادة والذي تلخصه بيتا شاعرها أبي القاسم الشابي صوغا شعريا لقانون العلاقة القرآنية بين تغيير النفوس وتغير ما بالقوم والعبارة الشعبية الموجزة "الشعب يريد". ومن ثم فهو المناسبة التي تمكن من تنبيه الثوار لشروط تحقيق الإرادة الحرة والكريمة التي من دونها لا تبقى الحياة جديرة بمعاني الإنسانية.

والمخاطب بهذا المسعى هو كل الثوار في الوطن العربي ودار الإسلام وأعني بهم خاصة كل الذين دفعوا سابقا ما بدفعه يثبت المرء أنه من صف الثوار أو مستعدون لدفعه لاحقا جهدا فكريا أو ماديا أو مالا أو شهادة في سبيل مطالب الثورة مطالبها التي هي في الغاية في سبيل الله أعني الحق والعدل وحرية الإنسان وكرامته.

التاريخ الإنساني هو تاريخ التنازع على إرث الأرض بين الأمم لأن الحظ من ثروات الأرض والقدرة على حمياتها هو معين تحررها من التبعية بل هو معنى السيادة ومن ثم فهو شرط كل مقومات الحرية والكرامة أعني أنه هو الهدف الذي يمثل غاية كل المراحل الثورية المتقدمة عليه.
والكلام عن هذه الشروط يقتضي أن نقدم عليه تحديد السلم الذي ترتسم عليه موجات المسار الثوري المتوالية. فهذا التحديد الذي نبدأ به هذه المحاولة هو الذي يمكننا من ترتيب مراحل قطعه.

عندئذ نقوم بجرد الحساب فنقيس مقياس القرب من أهداف الثورة أو البعد عنها ونميز بين المنتسبين إليها من المعادين لها ولقيمها. وحينئذ يصبح من الميسور تحديد معارك الثورة المتوقعة. وأول عوامل هذا التحديد هو تعيين الهدف الأسمى الذي تعد جميع الأهداف الجزئية مراحل ناقلة إليه.

ذلك أن هذا الهدف الأسمى الذي أصبح بوسع فكر الثورة صوغه بفضل الموجة الثانية الصوغ الواضح هو الذي يفهمنا طبيعة المعارك والرهانات التي تفصلنا عنه والتي لا بد من النصر فيها لنكون شعوبا جديرة بالحرية والكرامة.

تصنيف أهداف الثورة

فالمطالب القريبة مثل الخبز والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية تنتسب دون شك إلى شعار إرادة الحياة وهي من الأوليات حتما. لكنها إذا بقيت عند هذا الحد تكون نباتية ويمكن عند حصرها في مدلولها المباشر أن يتواصل سدها بالسؤال كما يحصل الآن في جل أقطار الوطن التي يتسول فقراؤها منها المعونة المعيشية.. ويتسول من يتصورون أنفسهم أغنياء المعونة الأمنية وفي الحقيقة فجميع الأنظمة العربية تتسول الحماية ضد شعوبها من سيدها الذي ولاهم عليها. لذلك كان غازي الأوطان حامي الأنظمة فيجعل راعيها حراميها.

وإذن فالمطالب القريبة مشروطة بمطالب بعيدة تغير هذا الواقع. إنها المطالب البعيدة وغير المباشرة التي من دونها تكون تلك المطالب القريبة سالبة للحرية والكرامة بدلا من أن تكون من شروطها لأنها تتحول إلى مقايضة الشعوب حياتهم النباتية مقابل التخلي عن الحرية والكرامة الإنسانية.

لذلك فلا بد من تحديد الهدف الغاية المطلقة التي تحقق الغايات الجزئية لنعود منها إلى بداية السلم فنتمكن من معرفة معايير التقويم ومن ثم استراتيجية تعديل المسار الثوري عند اللزوم خلال خوض المعارك المتوقعة بمقتضاه.

وهذه الغاية المطلقة حددها الانقلاب على الثورة تحديدا سلبيا عندما عرف نفسه بكونه تصديا لها. وعرفها تعريفا إيجابا الشارع المقاوم للانقلاب والمدافع عن الشرعية الديموقراطية فإذا هي قد أصبحت بصورة واعية التوحيد بين مطلبي الثورة: حتى يصبح فعل التاصيل الحي والتحديث المستقل فعلا واحدا يمكن من عودة الأمة إلى الفاعلية التاريخية التي فقدتها بسبب الانحطاطين الذاتي والمستورد عودة لا مرد لها.

وفي ذلك يكمن فضل الموجة الثانية من الربيع العربي فهي قد ابرزت وحدة المطلبين اللذين كانا يبدوان متناقضين فجعلتهما مطلبا واحدا للثورة وأصبحت المعركة هي معركة التصدي للثورة المضادة الممثلة للتأصيل والتحديث المزيفين وذلك في الداخل والخارج على حد سواء فضلا عن كونها بجنس حلفاء الانقلابيين العرب قد جعلت الأمر متعلقا بمعركة تشمل الأمة كلها وليس مقصورا على مركز الربيع العربي وحده أي تونس ومصر.

فمعركة التأصيل الواصل بحركة الإصلاح والنهوض منذ القرن التاسع عشر والمستأنف لها ومعركة التحديث الواصل بشروط البناء بمقتضى متطلبات العصر والمجذر لها صارتا معركة واحدة وصار ممثلها الوحيد الشعب المتجذر في ذاته والمستعد للتفاعل مع متطلبات العصر بأدوات العصر وثقافته، بعد أن تداركت نخبه الأصيلة تأخرها في فهم العصر والتمكن من منجزاته العلمية والعملية تمكنا حررها من الموقف السلبي من موجبات الحداثة التي لا تنافي قيمها الأصيلة. ذلك أن حركة الإصلاح والنهوض كانت وما تزال تسعى إلى هذا الهدف الذي هو مطلوب الربيع العربي اليوم والذي تأخر تحقيقه بسبب الاستعمار وعملائه الذين ليست الثورة المضادة إلا من خلائفهم.

إنها إرادة الأمة استئناف دورها التاريخي وسعيها لتحقيق شروط مناعتها الحضارية والروحية ولشروط قوتها التقنية والمادية أساسا لحريتها وحرية المواطن وكرامتهما: ذلك ما تم الانقلاب عليه بحلف القوى الممثلة للثورة المضادة بسند أجنبي واضح في مصر وفي تونس خاصة. ذلك أن المناعة الروحية هي الشرط الحقيقي للكرامة والقوة المادية هي الشرط الحقيقي للحرية.

فالتاريخ الإنساني هو تاريخ التنازع على إرث الأرض بين الأمم لأن الحظ من ثروات الأرض والقدرة على حمياتها هو معين تحررها من التبعية بل هو معنى السيادة ومن ثم فهو شرط كل مقومات الحرية والكرامة أعني أنه هو الهدف الذي يمثل غاية كل المراحل الثورية المتقدمة عليه.

ثورة الربيع العربي وغايتها العميقة

يكفي للجواب عن هذا السؤال وإثبات ما لمحنا إليه من غاية أن يعين المرء أعداء الربيع العربي والحلف الحاصل بين نوعي أنظمة الاستبداد والفساد في الأمة أعني الأنظمة التقليدية التي تدعي التأصيل والأنظمة التي تدعي التحديث في النصف الثاني من القرن الماضي ونخبهما ومن وراءهما من الأنظمة الاستعمارية حتى يتيقن من ذلك.

لكننا سنعتمد دليلا أشد متانة أساسه تحليل مقومات الربيع العربي كما حدث بما يشبه الوصف الفينومينولوجي. وسأنطلق في هذا الوصف من دحضي لأطروحة الأستاذ طارق رمضان خلال حوار دار بينه وبيني في ندوة انعدقت بجينيف سنة 2012 أطروحته التي يعتبر فيها الربيع العربي مؤامرة غربية قيسا لفعل الشعوب الثوري في الربيع العربي على فعل الانقلابات الجهازية التي قام بها العسكر في خمسينات القرن الماضي.

إنها إرادة الأمة استئناف دورها التاريخي وسعيها لتحقيق شروط مناعتها الحضارية والروحية ولشروط قوتها التقنية والمادية أساسا لحريتها وحرية المواطن وكرامتهما: ذلك ما تم الانقلاب عليه بحلف القوى الممثلة للثورة المضادة بسند أجنبي واضح في مصر وفي تونس خاصة. ذلك أن المناعة الروحية هي الشرط الحقيقي للكرامة والقوة المادية هي الشرط الحقيقي للحرية.
وقد بينت للحضور حينها أن قياسه لا يستقيم لعلتين فضلا عن كون أطروحته هي عينها تهمة أنظمة الاستبداد والفساد بجنسيها ونخبهما ضد الربيع العربي على الأقل إلى أن افتح أمرهم بعد الانقلابين وما يسندهما من تدخل سافر لمن يعتبرونه اصل الربيع العربي باعتباره مؤامرة غربية وليس ثورة شعبية:

أولاهما استنتجتها منطقيا من تحليل طبيعة الأحداث التاريخية في المجال السياسي سواء قبل عصر العولمة أو خاصة بعده أعني طبيعتها الشاملة للمعمورة دائما بمقتضى قانون الجوار والتنافس على إرث الأرض وثرواتها والدور فيها. فالطابع الدولي لكل أحداث التاريخ الكبرى يجعل التلازم بين المؤثر الذاتي والمؤثر الأجنبي أمرا بدهيا ومن ثم  فأصالة الثورة لا ينفيها وجود المؤامرات والتدخل الأجنبي الهادف لتحريفها.

لذلك فالمفيد ليس وجوده بل مدى قدرته على تحقيق ما يسعى إليه أعني جعل الثورة مجرد مناسبة ينصب فيها عملاء جددا بديلا من عملائه الذين فقدوا الفاعلية في خدمة أجندته عملاء جددا يمكن أن يحققوا هذه الخدمة بشعارات مقبولة شعبيا بعد أن فقدت شعارات الانقلابات القومية فاعليتها.

والثانية مستقرأة مما جرى في الانتخابات التونسية على الأقل. وهذه العلة الثانية ـ وهي الأهم ـ تتمثل في دلالة حكم الشعب الصريحة خلال الانتخابات الأولى حكمه المتمثل في نبذه لمن أعدهم الغرب للقيام بهذا الدور أعني المجتمع المدني المستورد والممول من المنظمات الأمريكية والغربية بل ومن أجهزة الحكم الغربي.

فهذه الانتخابات بينت والذي طابع هؤلاء العملاء الهامشي ومن ثم فهي قد أثبتت بعديا أنهم ليسوا من أطاح بالأنظمة الفاسدة والمستبدة  فضلا عن أن يكونوا قادرين على قيادة ثورة بحجم ما يعتمل الآن في كل الوطن العربي كله. لذلك فأحداث الثورة وما برهنت عنه من خيارات شعبية خلال موجتها الأولى فرضت عليهم الظهور على  حقيقتهم الفعلية وراء دعواهم الثورية: الحلف مع الثورة المضادة في تونس وفي مصر على حد سواء. وتلك هي أهمية ما بينته الموجة الثانية من الربيع العربي.