أفكَار

رأي في العلاقة بين القانون والفقه وشروط الاستعمار والاستخلاف في الأرض

أبو يعرب المرزوقي: الظلم في التبادل والخداع في التواصل، يتعلقان بما يشوب علاقة من ظلم في التبادل وخدع في التواصل، فهما علة الحاجة إلى القانون الجنائي..
اصطلحت على أن القانون هو "نظام التفاعل المتراتب" بين البشر وبينهم وبين شروط قيامهم العضوي (الاستعمار في الأرض) والروحي (الإستخلاف في الأرض) وما يقتضيانه من قواعد تسعى لتحقيق العدل في التبادل وقواعد تسعى لتحقيق الصدق في التواصل بينهم ثم بينهم وبين الطبيعة.

وتلك هي الأحياز الأولية لمعادلة مستويات التحاكم بكل مستوياته وعلاقة البشر بنظام القوامة التي تمثلها الدولة رعاية وحماية للإنسان ولشروط وجوده المتعين جغرافيا أي حصة الجماعة من الأرض وبقائه تاريخيا أي حصة بقاء الجماعة في الزمان وأخيرا علاقة ذلك كله بما يتعالى عليه أي مرجعيته سواء كانت دينية أو طبيعية.

فالوجود تعين مكاني والبقاء تعين زماني وهما من جنسين أولهما في ما يحيط بالكيان العضوي والروحي خارجه وما يتألف منه الكيانان هذين بما هما عينه وجودا وبقاء، ويوحد بين الحصة من المكان والصحة من الزمان مقومين من الكيان الذي هو عين حياة الإنسان الفرد في الجماعة مع الاشرئباب الدائم للامتناهيين الواصلين بالخلود واللقاء بمبدأ كل الوجود ربا كان أو طبيعة مؤلهة.

فيكون لمفهوم القانون عامة خمسة مستويات يحاكي بها الإنسان نظام العالم الشاهد والعالم الغائب اللذين لهما نفس هذه المستويات القانونية التي ليست من صنع الإنسان:

ـ إثنان قبل الشروط التي تعين طبيعته، أي تصله بشروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها استعمارا هو شرط وجود الإنسان لاستمداده مقومات قيامه العضوي من الأرض ماديا ومن ما جهز به من قدرات عضوية وروحية لتحقيقها.

ـ وإثنان بعد الشروط التي تحققها في الوجود الفعلي وذلك هو دور نظام توزيع العمل والتساخر الذي يجعل كل فرد يعمل بفرضين هما فرض العين لقوامة ذاته وفرض الكفاية بوصف  ما يحقق به قوامه الذاتي يمتد لقوام الجماعة كلها.

ـ ووراء هذه المستويات الأربعة المستوى الجامع بينها أصلا لها وهو تلك المرجعية المتعالية التي يحاكيها القانون الإنساني. وذلك هو ما يقتضي دورا هو الناظم للتبادل والتواصل والمؤسس لتحقيق غاياته:

ـ فالمستوى الأول من المفهوم العام للقانون يحدد تراتب مستوياته القانون ووظيفته في تنظيم غايات الاستعمار في الأرض الذي يحقق شروط القيام العضوي شرط وجود وشروط القيام  الروحي شرط بقاء.

وثمرته التأهل  للاتصاف بقيم الاستخلاف أو عدم الاهلية وما تفترضه من تحديد للقيم الحاكمة للتعامل بين البشر وبينهم وبين ما عداهم من المخلوقات عامة والخلقي منها خاصة (والأولى تتعلق بالتبادل المادي وهي نوعان قيمة استعمالية وقيمة تبادلية وهما جوهر المحرك الاقتصادي في كل الجماعات).

ـ والمستوى الثاني في تنظيم غايات سد الحاجات الروحية بالتواصل الروحي وهي  قيمة تواصلية  شارطة للعيش المشترك من جنس الاستعمالية في الاقتصاد وقيمة تواصيلة من جنس التبادلية فيه.

وثمرته ما يصحب المعاملات بين البشر وبينهم وبين شروط وجودهم العضوي وبقائهم الروحي ولهذه العلة ميزها ابن خلدون عن سد العمران البشري فسماها روحيا وخلقيا فلسفيا بالأنس بالعشير ودينيا وسياسيا بالاستخلاف أي إن الجمالي والخلقي في الأنس بالعشير يناظره دينيا وسياسيا الأهلية للاستخلاف أي الصدق الذي يطلب الحقيقة اجتهادا (التواصي بالحق) ويعمل بمقتضى الحق الدال على إرادة حرة وحكمة راجحة جهادا (التواصي بالصبر)  ثمرتي الإرادة الحرة والحكمة الراجحة.

والبعد المضاعف قبل هذا المعنى هو قلب المعادلة القانونية الناظمة لحياة البشر ويتألف من وجهي كل قانون تتراتب به الشؤون البشرية وهما الأساس المبدئي لنظام القانون في أي جماعة وهو إما فلسفي أو ديني أو جامع بينهما:

1 ـ الدستور ببعديه الذي يعبر عن الإرادة الحرة سياسيا في العمل والشرع وعن الحكمة الراجحة في النظر والعقد خلال التعاملين التبادلي والتواصلي.

2 ـ وأخلاق الجماعة التي تتجلى في المرجعية الخلقية التي يستند إليها الدستور سواء كانت ذات تأسيس ديني أو فلسفي وهي في الحالتين من المتعاليات المثالية التي تعد الأساس الروحي والقيمي الذي يوحد الجماعة.

3  ـ البعد المضاعف بعد هذا المعنى وهو ناقل المفهوم إلى التعين التاريخي الفعلي تجاوز للمستوى المبدئي إلى التعين الفعلي ويتألف من وجهي كل قانون وهو جوهر تعين وظائف الدولة الفعلية وأساس النظام التطبيقي لنظام القانون في أي جماعة وهو إما فلسفي أو ديني 3 ـ التشريع 4 والتنفيذ.

وتعيير البعدين يعتمد على تحقيق شروط العدل في التبادل والصدق في التواصل شرطي التساخر الناجح وعكسهما ينتج عكسه وهو علة الحاجة إلى القانون.

الابتعاد عن العدل في التبادل وعن الصدق في التواصل يمثلان العلة الرئيسية للحاجة إلى تجاوز القانون المدني إلى القانون الجنائي لأن من يشعر بالظلم الناتج عن فساده يطلب ما يعتبره حقه بنفسه يأسا من القانون السائد سواء كان الحكم عرفيا أو بنص قانوني أو حتى فقهي.
4 ـ وبذلك يصبح النظام القانوني في كل ما يتجاوز مسألة العدل في التبادل وبه ينتظم سد الحاجات المادية خاصة والصدق في التواصل وبه ينتظم سد الحاجات الروحية خاصة علاجا لما يترتب عما يشوب العدل في التبادل والصدق في التواصل من فساد يحول دون فاعلية النظام القانوني في أي جماعة بشرية.

وطبعا فالابتعاد عن العدل في التبادل وعن الصدق في التواصل يمثلان العلة الرئيسية للحاجة إلى تجاوز القانون المدني إلى القانون الجنائي لأن من يشعر بالظلم الناتج عن فساده يطلب ما يعتبره حقه بنفسه يأسا من القانون السائد سواء كان الحكم عرفيا أو بنص قانوني أو حتى فقهي.

والظلم في التبادل والخداع في التواصل ـ يتعلقان بما يشوب علاقة من ظلم في التبادل وخدع في التواصل، فهما علة الحاجة إلى القانون الجنائي، وهو ينتج عن فساد القانون المدني الذي يدفع المتساخرين إلى الجرائم لفشل القضاء حكما وتنفيذا في التبادل الظالم والتواصل المخادع .

فلذلك لا ينبغي أن يبقى وكأنه جزء من القانون المدني المقصور على التعاقد بين طرفيه بل لا بد أن يكون للقاضي فيه حق التدخل في التعاقد كالحال في القانون الجنائي من جهة احترامه لمستويات القانون السابقة فهو أهم من القانون المدني لتعلقه بركني قيام الحياة العضوية والروحية.

5  ـ أما المستوى الأخير فهو ما يتعلق بما بين المواطن وممثلي إرادته أي بسلطة التشريع وسلطة التنفيذ، أي بمن يختارهم الشعب ليكونوا نوابه في القوامة لأن سياسة الجماعة لها مستويان أحدهما فرض عين وهو معنى دور الفرد في حكم الجماعة الحرة لنفسها ولكن بتوسط فرض الكفاية الناتج عن الحاجة لتوزيع كل عمل في الجماعة والقوامة النيابية هي هذا الفرض.

ولكل منهما قضاء مختلف لكنهما يشتركان في مراجعة التنفيذ انطلاقا من التشريع ومرجعيته أو في التشريع انطلاقا من التنفيذ ومرجعيته: لذلك يختلف القانون الإداري عن القانون الدستوري لأن الأول عقد بين الجماعة والقيمين ينظم التبادل والتواصل والحقوق والواجبات بوصفهما علاقات بين الأفراد وبينهم وبين من اختاروهم قيمين عليها في التعبير عن إرادتهم الحرة وحكمتهم الراجحة التي تتعين في اختيار القيمين.

وسأفتح هنا قوسيين لدحض خرافة علم المقاصد بإثبات استحالته لافتراضه أمرين ينافيان الصريح من الأحكام القرآنية التي هي مثل عليا تتعلق بالأساس الخلقي للتشريع والتي تمثل الغاية التي لا يشوبها نقص يحتاج إلى الاستكمال بدعوى علم مقاصد الله في تأسيس تشريعه.

ولولا حاجتي لفهم ذلك لما درست القانون وفلسفته ولما تمكنت من بيان هذه المستويات المشتركة بين الفقه والقانون والتي تعد المثل العليا الخلقية الكونية والسرمدية في تحديد شروط وجود الإنسان مستعمرا في الأرض وبقائه خليفة فيها وهي شروط مرسومة في كيان الإنسان العضوي والروحي تجهيزا له من أجل تحقيق مقوميه أي الاستعمار والاستخلاف .

وذلك هو أصل الجهاد في العمل والشرع (سياسة الحصة من المكان في الطبيعة وأخلاقها والمعمورة كلها: وتلك هي فلسفة العمل) والاجتهاد في النظر والعقد (رؤية الحصة من التاريخ واخلاقها والتاريخ كله: وتلك هي فلسفة النظر).

وعدم فهم هذه العلاقة هي التي جعلت علوم الملة كلها قد عكست الرؤية القرآنية. فقد توهم مؤسسوها أن الفلسفة العملية إجتهادية في العمل والشرع وليست جهادية والفلسفة النظرية جهادية في النظر والعقد ولم ينتبهوا إلى أن  الأولى ثمرتها هي دليلها لأنها تنتسب إلى عالم الشهادة  والثانية ثمرتها ليست دليلها لأنها تنتسب إلى عالم الغيب.

وذلك هو معنى غيب السرائر أولا ومعنى استحالة معرفة ما هو خير مطلق أو شر مطلق إذ قد نظن الشر خيرا والخير شرا وعلم الإنسان لهما ليس مطابقا أبدا.

فتكون المسائل سبعا قلبها المسألة الرابعة التي تعالج الواحد المشترك في القانون وفي الفقه وإن اختلف الاسم لذلك هو قلب المحاولة كلها  قلبها الذي يتبين بوضوح في درس تناظراتها موضوع تناظرات المسائل السبع الزوجية على النحو التالي :

التناظر الأول:  بين المسألة الأولى والمسألة السابعة (الأخيرة).

التناظر الثاني: بين المسألة الثانية والمسألة السادسة.

التناظر الثالث بين المسألة الثالثة والمسألة الخامسة.

التناظر الرابع له خاصية الازدواج الانعطافي أي العائد على ذاته  وتلك هي خاصية المسألة الرابعة وعلة اعتبارها قلب المعادلة لأن القانون والفقه كلاهما يتميز بكونه جوهر الأخلاق، لأنهما يعنيان كون الإنسان له بعد  التشريع الذاتي الحر بالإضافة إلى التشريع المضطر في كيانيه العضوي والروحي في شروط وجوده وشروط بقائه، ومن ثم فالقانونية من حيث هي هذه الخاصية المميزة للإنسان هي جوهر "معاني الإنسانية" بلغة ابن خلدون في كلامه عن التربية والحكم الدالين على حرية الإرادة ورجاحة الحكمة.

فيكون التناظر الخامس هذا الانعطاف على الذات الذي يمتنع من دون افتراض ما للإنسان من قدرة على التشريع الذاتي المشروط بالإرادة الحرة والحكمة الراجحة بالإضافة إلى قوانين الطبيعة والحياة في الوجود والبقاء.

فيكون لب المعادلة القانونية التي تمثل قلب المعادلة أي المسألة الرابعة تتضمن تعليل التناظرات المتقددة عليها والمتأخرة عنها، وهي إذن تعلل التناظرات الثلاثة المتقدمة عليها في المحاولة قبلها والثلاثة التالية لها. فتكون مزدوجة بكونها واحدة من المسائل وحصيلتها وكأنها هي كلها مجتمعة.

*أستاذ الفلسفة العربية واليونانية بجامعة تونس الأولى