أفكَار

هل أسقطت سياسات الولايات المتحدة في غزّة النموذج الأمريكي والغربي؟

طوفان الأقصى حدث عظيم، والأحداث الكبرى تسرّع حركة التاريخ. لذلك فإنّ خسائر الولايات المتحدة قد لا تتوقف عند تبديد رصيد النموذج الغربي والأمريكي.. (الأناضول)
رغم أنّ غزة تكاد تتحوّل إلى أثر بعد عين بسبب الدمار الذي ألحقته بها الآلة العسكرية الصهيونية، فإنّ الانكسار الصهيوني حصل بعدُ، ولن يُعيد ركام غزّة وأشلاء شهدائها الماء إلى وجه نتنياهو الشاحب الممتقع.

لقد أصاب حجر طوفان الأقصى "العصفور" الإسرائيلي، ونتنياهو لا يفتأ يردّد أنّ إسرائيل تخوض لأوّل مرّة منذ خمسٍ وسبعين عاما حرب وجود.

يقول بعض قادة حماس إنّ ما تحقّق في 7 أكتوبر أكبر بكثير ممّا خطّطت له المقاومة، وهو قول تؤكده آثار طوفان الأقصى الميدانية وتداعياته الاستراتيجية في فلسطين وفي العالم.

لقد أسهبت التحاليل في تقصّي ما كشفه الطوفان من حقائق عن ضعف إسرائيل، كيانا وجيشا ومجتمعا، كما وفّرت المتابعات الإعلامية التوثيقات الممتعة لإبداعات المقاومة وبسالتها، كما وفّرت صور الألم والصمود لدى الشعب الفلسطيني.

طوفان الأقصى حدث عظيم بلا شكّ، لكننا لن نستعجل الحكم على النتائج العسكرية والسياسية النهائية لمعركة لا تزال دائرة، ولن نخلط بين أمانينا وبين الوقائع الموضوعية. فالهزيمة التي يترتّب عنها تغيير حاسم في ميزان القوة لم تحصل بعدُ. فإسرائيل تخسر لكنّها لا تزال تهاجم، والمقاومة تربح لكنها تدافع، والغرب بقيادة أمريكا، محرَج من الجرائم التي تفتك بالشعب الفلسطيني في غزة، لكنه مُعبّأ سياسيا وعسكريا لمواصلة دعم إسرائيل ومنع تحوّل انكسارها الى هزيمة، بينما يقف العربُ متفرّجين يمنعُهم التواطؤُ والعجزُ، إلّا قلّة قليلة تفعل ما تستطيع شَدّا لعَضُدِ المقاومة.

طوفان الأقصى حدث عظيم بلا شكّ، لكننا لن نستعجل الحكم على النتائج العسكرية والسياسية النهائية لمعركة لا تزال دائرة، ولن نخلط بين أمانينا وبين الوقائع الموضوعية. فالهزيمة التي يترتّب عنها تغيير حاسم في ميزان القوة لم تحصل بعدُ.
 7 أكتوبر في رأينا انكسار تاريخي لإسرائيل، والنتائج السياسية المترتّبة عنه يمكن أن تحوّله إلى هزيمة مكتملة. غير أنّه ما زال بإمكان الولايات المتحدة وحلفائها تخفيف وقع الانكسار عبر التضحية بنتنياهو لإنقاذ الكيان.

لقد أصاب طوفان الأقصى "العصفور" الإسرائيلي، وأبلغ ما في الإصابة أنّ 7 أكتوبر أرشَد الفلسطينيين إلى طريق التحرير.

وبقدر ما أثبتت المقاومة جدارتها بتحقيق الانكسار التاريخي لإسرائيل، فإنّ مهمّة ما بعد الحرب ستكون كسر مسار أوسلو وغلق قوسه نهائيا وذلك هو الاستتباع الضروري لمنجز 7 أكتوبر ممثّلا في الانكسار الإسرائيلي. لكنّ كسرَ مسار أوسلو سيكون عملاً شاقّاً لأنه يقتضي من المقاومة أن تبني مع القوى الوطنية تصوّرا لمستقبلٍ فلسطيني وطني جامع يستثمر في مُنجز طوفان الأقصى، كما أنّ كسرَ مسار أوسلو سيكون اختبارا قاسياً للمقاومة وللقوى الوطنية لأنّ عليها أن توقِف منحدر التطبيع الجارف، وتلك مواجهة أخرى قد تقتضي طوفانا آخر.

 عندما ورثت أمريكا قيادة العالم

ربما كان كيسنجر على حقّ عندما قال إنّ القرن التاسع عشر هو "قرنُ كلّ العِبر"، وهي في رأينا العِبر التي استفادت منها الولايات المتحدة الأمريكية لتتسلّل إلى قمرة قيادة العالم وتحلّ محلّ القوى الاستعمارية التي حكمت العالم الى حدود الحرب العالمية الثانية. لكنّ العالم في تحوّل دائم والعِبر لا تنتهي، ولعلّ عِبر النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين أكبر وأهمّ. فخلال ثلاثة أرباع قرن صاغت الولايات المتحدة النظام الدولي بما يؤبّد تفوّقها ويثبّت هيمنتَها طبقا لإرث الحرب العالمية الثانية ثم إرث ما بعد الحرب الباردة.

لقد كان وجود "إسرائيل" أحد الأعمدة الأساسية التي انبنى عليها النظام الدولي، بل إنّ زرع هذا الكيان في فلسطين، في قلب المنطقة العربية، وضمان تفوّقه الأبدي على العرب والمسلمين، متفرّقين ومجتمعين، إنّ زرعه يمثّل أبرز ما في معادلة توزيع أنصبة الهيمنة والخضوع التي قام عليها النظام الدولي الذي منح الغرب التفوّق والهيمنة وأعطى العرب والمسلمين التبعيّة والخضوع.

كانت الولايات المتحدة قوّة صاعدة منزوية خلف المحيط الأطلسي، ولمّا دخلت الحلبة الدولية عرضت نفسها بطريقة جذّابة جعلتها لاحقا زعيمة العالم الحرّ. كان ذلك عندما أطلق الرئيس ويلسن سنة 1914 مبادئه الأربعة عشر، وفي مقدّمتها مبدأ حقّ تقرير المصير الذي أصبح لاحقا أحد الأسس القانونية لتصفية الاستعمار، كما كان دخولها  الحرب العالمية الثانية حاسما في هزيمة النازية، وكان دورها رئيسيا في إعادة بناء أوروبا المدمّرة، كما دعّمت عددا من حركات التحرّر الوطني، وكان موقفها حاسما لوقف العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وقادت الليبرالية العالمية التي واجهت الاتحاد السوفيتي ومنظومته الحديدية وأنهكته وحتّمت انهياره.

الأكيد أنّ كلّ "أفعال الخير" التي قامت بها الولايات المتحدة للعالم منذ إعلان مبادىء ويلسون، كان عائدها لحساب أمريكا.

ولا شك أن كيسنجر،  المتوفي مؤخرا، قد لاحظ، وهو من رموز الهيمنة الأمريكية، أنّ الولايات المتحدة لم تتّعظ بما يكفي من عِبر القرن التاسع عشر، وأنّها كرّرت سياسات القوى الاستعمارية في الهيمنة والإخضاع، وأنّها تقود بمفردها نظاما عالميا ظالما بأدوات أكثر بطشا وبشاعة.

بعد الطوفان، هل تخسر أمريكا قيادة العالم؟

لا تفكر الصين في تغيير خارطة الشرق الأوسط، وليست مهتمّة بمصير الشعب الفلسطيني، عدا المواقف التي تقتضيها العلاقات العامّة عند احتداد الأزمات، وكلّ جهدها منصبّ منذ 2013 على تنفيذ مشروع "الحزام والطريق" الذي تريد أن تجعل منه مشروع قرن الصين الذي ينتهي سنة 2049.

لقد كان وجود "إسرائيل" أحد الأعمدة الأساسية التي انبنى عليها النظام الدولي، بل إنّ زرع هذا الكيان في فلسطين، في قلب المنطقة العربية، وضمان تفوّقه الأبدي على العرب والمسلمين، متفرّقين ومجتمعين، إنّ زرعه يمثّل أبرز ما في معادلة توزيع أنصبة الهيمنة والخضوع التي قام عليها النظام الدولي الذي منح الغرب التفوّق والهيمنة وأعطى العرب والمسلمين التبعيّة والخضوع.
لكنّ الاستراتيجية الأمريكية تعتبر أنّ الصين "تعمل على تغيير النظام الدولي" ولذلك فهي تمثّل الخطر الاستراتيجي الأكبر الذي يهدّد المصالح الأمريكية ممّا يحتّم التصدّي له واعتباره أهمّ من الخطر الروسي رغم أن روسيا تحارب فعليا الناتو في أوكرانيا. وتنفيذا للاستراتيجية الأمريكية تركزت سياسة واشنطن منذ عقد ونصف على محاصرة الصين وعرقلة تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي واستفزازها في ملف تايوان.

 لكن يبدو أنّ طوفان الأقصى أدخل اضطرابا حادّا على الاستراتيجيات الأمريكية. إنّه الحدث القادم من غزّة، والذي مثّل لأوّل مرّة تهديدا وجوديا لإسرائيل، وأرغم الولايات المتحدة على مراجعة أولوياتها واستراتيجياتها، وهو بذلك هديّة للصين وروسيا ولكلّ القوى المتضرّرة من الهيمنة الأمريكية.

لقد وضع طوفان الأقصى وجود إسرائيل في الميزان ممّا يعني أنّ أهمّ أسس النظام الدولي الذي ترعاه الولايات المتحدة يتعرّض إلى خلخلة عظيمة.

وإذا كانت الولايات المتحدة تعتبر أن مشروع الحزام والطريق يمثل خطرا على النظام الدولي، فإنّ طوفان الأقصى في نظرها أشدّ خطرا، ولذلك تعبّىء واشنطن كل إمكانياتها العسكرية والاقتصادية والسياسية لدعم إسرائيل وتجد كل التبريرات لإبادة الشعب الفلسطيني.

طوفان الأقصى وسقوط النموذج الأمريكي والغربي

علينا أن نؤكّد ابتداء أنّ التفوّق الأمريكي، اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا، سيستمرّ، وهو يمتلك مقوّمات استمراره. ولكنّ تواصل التفوّق لا يعني ضرورة استمرار الهيمنة. ويبدو أنّ تصميم الصين على منافسة الولايات المتحدة اقتصاديا هو ما سيعجّل بإنهاء الهيمنة الأمريكية وإن لم يُنهِ تفوّقَها، كما يمكن لانتصار روسيا في حربها على أوكرانيا أن يستحثّ خطى العالم نحو هذا المآل الذي تخشاه واشنطن، وذلك في انتظار أن تصبح للقوى الإقليمية البارزة أدوارا أكثر أهميّة وأقلّ تبعيّة.

الأكيد أنّ حجر طوفان الأقصى لم يصب العصفور الإسرائيلي وحده. لقد أصاب "العصفور" الأمريكي أيضا. فمنذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على غزّة، انخرطت الولايات المتحدة، روحا وجسدا، في حرب إبادة الشعب الفلسطيني. ولم تنفرد بموقفها ذاك، فقد تبعتها القوى الدولية التي لم تتخلّص من روحها الاستعمارية. لقد أسقطت غزّة الغربَ، نموذجاً وقِيماً وأخلاقاً دفعةً واحدةً. وإنّ الذين قرأوا لفوكوياما، عندما يحدّقون فيما يجري في غزة، سيزدَرون النرجسية الغربية حول "نهاية التاريخ" واستقرار الديمقراطية وانتشار الليبرالية، بل إنّهم سيعودون لقراءة هنتغتون وصراع الحضارات الذي يفسّر اليوم سلوك الولايات المتحدة تجاه الصين، كما يفسّر ما يقوم به التحالف المسيحي الصهيوني في مواجهة العرب والمسلمين.

لقد أسقطت سياساتُ الولايات المتحدة في غزّة النموذجَ الأمريكي والغربي ليس فقط في نظر الشعوب المغلوبة "المُولَعَة  بتقليد الغالب" بالمعنى الخلدوني، وإنما خسرت نموذجها وأخلاقَها وقيمَها أيضا حتى لدى شباب جامعاتها الذي يخوض حركة دعم مشرّفة للقضية الفلسطينية.

إنّنا نرى اليوم القوى الدولية المتغلّبة وقد عَرّتها غزّة وأفقدَتها جاذبيتَها، وهي منذ 7 أكتوبر، تغادر المدنيّة لتستَوطن الغابة. لقد تبدّدت صورة دولة ويلسن، التي أقبل بها على العالم في بدايات صعود الولايات المتحدة وأعلن نفسه مدافعا عن حق تقرير المصير، ونحن اليوم إزاء دولةِ التحالف المسيحي الصهيوني التي تحمي كيانا يُبيد الشعب الفلسطيني، بل وتشارك في عمليّة الإبادة.

طوفان الأقصى حدث عظيم،  والأحداث الكبرى تسرّع حركة التاريخ. لذلك فإنّ خسائر الولايات المتحدة قد لا تتوقف عند تبديد رصيد النموذج الغربي والأمريكي. فبعد أن تُخرِس المقاومةُ السلاح الإسرائيلي في غزة، ستكون هزيمة أوكرانيا ثأرا تأخذه روسيا لسلفها الاتحاد السوفيتي من الولايات المتحدة، وقد تدفع هزيمة أوكرانيا الدول الأروبية نحو انتهاج سياسات أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة. وفي انتظار حسم المنافسة على الريادة الاقتصادية والتكنولوجية، فإنّ الصين تشقّ طريقا من الحرير إلى الأسواق العالمية، ولا تريد أن يحدث تشويش يعطّل غزوها الناعم للعالم، بما في ذلك استعجال استعادة تايوان.

أمّا طوفان الأقصى فهو رسالة بأنّ الشعب الفلسطيني قد عرف الطريق إلى التحرير، وأنّ من حقّ شعوبنا التطلّع بعد ذلك إلى مقعد في قمرة القيادة العالمية.

* ناشط سياسي