قضايا وآراء

هل يمكن معرفة رئيس تونس القادم "الآن-وهنا"؟

هل يمكن الجزم الآن فيما يخص هوية الرئيس القادم لتونس؟- الأناضول
مع بلوغ الانتخابات في تونس مرحلة تقديم ملفات الترشيحات، ومع ارتفاع وتيرة النقد للمسار الانتخابي برمته، سواء من جهة الشفافية والحيادية والاستقلالية أو من جهة التضييق على المترشحين في مسألة جمع التزكيات أو الحصول على البطاقة رقم 3 أو القيام بتوكيل خاص، أو من جهة الاتهامات الموجهة للرئيس بتوظيف موارد الدولة في حملته الانتخابية وتعديل القانون الانتخابي خلال السنة الانتخابية، يبدو أنّ المقاربة الجزئية أو الموضعية لهذا المشهد الملتبس ستكون قاصرة عن فهمه ما لم نربطها بالفلسفة السياسية لـ"تصحيح المسار" من جهة أولى، وبعلاقة التعامد الوظيفي -الاعتماد المتبادل- بين الرئيس ومشروعه وبين النواة الصلبة لمنظومة الحكم من جهة ثانية. فهذان المعطيان يلقيان بظلال كثيفة على المناخ السياسي العام، ويشرطان بصورة كبيرة المخرجات المتوقعة للانتخابات الرئاسية المقررة يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر القادم.

كنا في مقالنا السابق قد بسطنا القول في حجج الفريق القائل بضرورة المشاركة في الانتخابات، سواء لتغيير النظام وإنهاء "تصحيح المسار" من داخل محطته التأسيسية النهائية أو لتعديل سياساته دون وضع شرعية 25 تموز/ يوليو 2021 موضع التشكيك، ولذلك مثّلت المشاركة في الانتخابات الرئاسية خيارا مشتركا لطيف واسع من الشخصيات ذات الخلفيات الأيديولوجية المختلفة وذات المواقف المتباينة من الرئيس ومشروعه السياسي. وإذا ما قرأنا البيان الذي أصدره 11 مترشحا رئاسيا يوم 31 تموز/ يوليو المنصرم، فإننا سنجد أنفسنا أمام حقيقتين:
حديث المعارضة عن عدم حيادية الإدارة وانحيازها للرئيس هو أمر لا يجد صداه في خطاب الرئيس. ونحن لا نعني بذلك أن الرئيس المنتهية ولايته ينكر عدم استقلالية الإدارة، بل إننا نعني أن الرئيس نفسه يعتبر أن تلك الإدارة هي جزء من منظومة الفساد التي تعمل لإفشال مشروعه السياسي وتحريض عموم المواطنين ضده
أولا، حصول نوع من التقارب بين شخصيات سياسية متباينة بحكم اشتراكهم في التضييقات المُمنهجة التي تمارسها منظومة الحكم عليهم بصرف النظر عن مواقفهم/مواقعهم في المعارضة الجذرية أو الموالاة النقدية؛ ثانيا، غياب أغلب الشخصيات المترشحة عن هذا البيان، وهو ما يعكس واقع التشتت وغياب التنسيق -أو استحالته- خاصة مع أغلب مكونات اليسار الوظيفي التي ما زالت تصرّ على عدم قطع الحبل السري مع الرئيس ومشروعه (حركة الشعب ومكونات "العائلة الوطنية الديمقراطية" المعروفة اختصارا بـ"الوطد").

يلاحظ أي متابع جيد للشأن التونسي أن حديث المعارضة عن عدم حيادية الإدارة وانحيازها للرئيس هو أمر لا يجد صداه في خطاب الرئيس. ونحن لا نعني بذلك أن الرئيس المنتهية ولايته ينكر عدم استقلالية الإدارة، بل إننا نعني أن الرئيس نفسه يعتبر أن تلك الإدارة هي جزء من منظومة الفساد التي تعمل لإفشال مشروعه السياسي وتحريض عموم المواطنين ضده، وهو ما مثّل -في الفترة الأخيرة- محورا أساسيا من محاور الجملة السياسية للرئيس، فتحدث أكثر من مرة عمن خانوا الأمانة وعن عودة المنظومة القديمة، وعن غربته "كصالح في ثمود".

ونحن لا يعنينا في هذا المقال أن نفكك خطاب الغربة ولا أن نبحث في بنيته الدينية العميقة وعلاقتها الملتبسة بما يؤسس الاجتماعي السياسي الحديث، كما لا يعنينا أن نصف هذا الخطاب وصفا نقديا (باعتباره تملصا من المسؤولية وإلقاء لها على هويات هلامية لا نعرف عنها إلا انتماءها لأجهزة الدولة التنفيذية)، فكل ما يعنينا هو أن نشير إلى أن خطابات عدم استقلالية الأجهزة التنفيذية (وهو خطاب أغلب الشخصيات المترشحة)؛ يقابله عند الرئيس خطاب تآمر بعض مكونات تلك الأجهزة وانتمائها إلى "الغرف المظلمة" التي تشتغل لفائدة بعض المترشحين.

إذا كان الواقع يشهد لصحة دعاوى الشخصيات المعارضة، فإن الواقع أيضا يشهد لوجود شيء من الصحة في كلام الرئيس قيس سعيد. فلا شيء يثبت أن تجاوزات بعض "الوظائف" -إذا ما استعملنا معجم الرئيس- هي تجاوزات مُمنهجة وخاضعة لتعليمات عليا، أي لا شيء يثبت مسؤولية الرئيس المباشرة عنها. كما أن القول بأن كل أجهزة الدولة (الدعائية والأمنية) مُجيّرة لخدمة الرئيس المنتهية ولايته هو قول يحتاج إلى بعض التعديل. فكيف يمكن أن تكون المنظومة على قلب رجل واحد وهي التي لم تعمل على إنجاح احتفالية 25 تموز/ يوليو، بل سمحت بأن تكون الصورة الإعلامية لها مرتبطة بنماذج فاسدة من نظام المخلوع؟ وكيف يمكن أن تكون المنظومة كلها في خدمة الرئيس وهي التي سمحت لمنظمة "أنا يقظ" بنشر تقرير يرصد الحصيلة السلبية لخمس سنوات من حكم الرئيس بعنوان "سعيد ميتر"، مع ما يعنيه ذلك من نقض لسردية السلطة وادعاءاتها الإصلاحية؟

في انتظار القائمة النهائية للمترشحين المقبولين من لدن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (المعينة من رئيس الدولة)، يبدو أن علاقة الاعتماد المتبادل بين الرئيس والدولة العميقة (منظومة الاستعمار الداخلي) يمكن أن تُقرأ في السياق الحالي بطريقتين متناقضتين؛ فالواضح أن المنظومة لا تقدم دعما مطلقا مشروطا للرئيس ولمشروعه السياسي، بل يبدو أنها تحرص على إضعافه أحيانا، كما ظهر في احتفاليات 25 تموز/ يوليو التي نسفت سردية الدعم الشعبي للرئيس.
إذا ما انطلقنا من المعطيات الحالية، فإن التكهن بفوز الرئيس قيس سعيد يبدو أمرا راجحا، ولكنّ هذا الرجحان يحتاج إلى قرينة مستقلة هي القائمة النهائية للمترشحين المقبولين من هيئة الانتخابات، تلك الهيئة التي تمتلك الولاية العامة على المسار الانتخابي برمته. وبحكم خضوع هذه الهيئة واقعيا لسلطة الرئيس المنتهية ولايته، فإن قبول بعض المترشحين الجديّين لن يكون دليلا على استقلالية هيئة الانتخابات وحياديتها؛ بقدر ما سيكون دليلا على وجود "صراع إرادات" داخل السلطة
وإذا كان الرئيس يصرّ على ربط هذا الواقع بـ"الغرف المظلمة" وبالمعارضة، فإننا نميل إلى اعتباره استراتيجية من استراتيجيات مراكز القوى داخل السلطة ذاتها، ولكنّ المقصود منها لا يمكن أن يستبين إلا بعد ظهور القائمة النهائية للمترشحين.

فقد يكون المقصود من إضعاف الرئيس هو ابتزازه وتغيير موازين القوة بينه وبين الدولة العميقة، أي قد يكون فقط لفرض واقع سياسي واقتصادي جديد دون تغيير الرئيس الحالي، وقد يكون هذا الإضعاف للرئيس تمهيدا لمترشح من مترشحي المنظومة إذا ما قررت انتفاء الحاجة للرئيس ومشروعه السياسي. وفي الحالتين، سيكون الجزم فيما يخص هوية الرئيس القادم لتونس أمرا غير علمي بحكم ندرة المعلومات المتعلقة بمكونات المنظومة وتوجهاتها، وكذلك بحكم غياب أي يقين فيما يخص مواقف القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الشأن التونسي.

إذا ما انطلقنا من المعطيات الحالية، فإن التكهن بفوز الرئيس قيس سعيد يبدو أمرا راجحا، ولكنّ هذا الرجحان يحتاج إلى قرينة مستقلة هي القائمة النهائية للمترشحين المقبولين من هيئة الانتخابات، تلك الهيئة التي تمتلك الولاية العامة على المسار الانتخابي برمته. وبحكم خضوع هذه الهيئة واقعيا لسلطة الرئيس المنتهية ولايته، فإن قبول بعض المترشحين الجديّين لن يكون دليلا على استقلالية هيئة الانتخابات وحياديتها؛ بقدر ما سيكون دليلا على وجود "صراع إرادات" داخل السلطة نفسها. وفي هذه الفرضية، لن تمثل إرادة الرئيس إلا جزءا من سلطة القرار الذي سيحدد المشهد السياسي القادم. أما إذا أسقطت الهيئة الترشيحات الجدية فإن ذلك سيكون دليلا على وجود قرار محلي وخارجي ببقاء الرئيس قيس سعيد وعدم انتهاء الحاجة إليه، سواء في عملية استكمال الهندسة الجديدة للمشهد السياسي الداخلي أو في مستوى صناعة القرار السيادي التونسي فيما يخص القضايا الإقليمية والدولية.

x.com/adel_arabi21