أفكَار

خطاب نتنياهو أو في دلالة الإبيسيوقراطيا.. عن الطوفان الذي سيصبح "تسونامي" عالميا

ما استطاعته حماس في ما يقرب من سنة يمكن أن يصمد سنوات فينهار كلبا الغرب والشرق ومعهما حماتهما. (الأناضول)
كان خطاب نتنياهو أول أمس في الكونغرس الأمريكي، أحسن فرصة لشرح معنى الإبيسيوقراطيا، أي نظام العجل (الإبيس باليونانية هو العجل)، والنظام وضع مرجعيته الدينية السامرية خلال غياب موسى بحضور أخيه هارون.

وما يحتاج إلى الشرح خمس مسائل، هي التي تمكّن من فهم ثورة الإسلام في تاريخ البشرية، ومعنى كونه الرسالة الخاتمة. ولولا فرضياتي حول هذه المسألة، لما كتبت حرفا حول القرآن، ولما عرفته بكونه رسالة في استراتيجية توحيد البشرية لإتمام نظرية توحيد الربوبية، لتكون الحنيفية المحدثة (المحمدية) تتمة للحنيفية الأصلية (الإبراهيمية)، التي لم تتجاوز المشروع الذي اقتصر عل أسرته لم يتجاوزها.

النقلة من توحيد الرب والتحرر من عبادة الأفلاك (آيات الأفول ومن التضحية بالإنسان في الآيات الطبيعية إلى تكريمه في الرسالة الخاتمة بعد كل التجارب التي بقي الدين فيها غير شامل للبشرية، وآخرها قبل الإسلام، هو دين عيسى الذي جاء للنعاج الضالة من بني إسرائيل _كما جاء على لسانه _  ومقصور على الأمة؛ أمة جاءها النذير خاصا بها، إلى الرسالة الشاملة للبشرية بمنطق (النساء 1) و(الحجرات 13).

وإذا كانت النقلة هي المرحلة الخاتمة، فهي تذكير بالمرحلة الفاتحة؛ أي بالآيتين (النساء 1) أصلا للإنسانية، (والحجرات 13) غاية للتوحيد المتجاوز لكل ما يترتب عن حرب دين العجل الاستعبادي، ضد دين موسى؛ رمز التحرير من العبودية الفرعونية.

 دين العجل كان ترجمة للعبودية بإبداع أداتيها اللتين هما مقوما العجل: معدنه (الذهب المسروق) وخواره (الكلام المغشوش). ويمكن ترجمته من منظور الثورة المحمدية، بكونه يمثل الانقلاب الذي يجعل من ربوا على أخلاق العبييد، قادرين على استعباد غالبية البشر، ما لم يدركوا حقيقة ثورة الإسلام.

وذلك بالاعتماد على أداتي إفساد معاني الإنسانية فيه (ابن خلدون المقدمة الباب السادس الفصل 40 في التربية والحكم)، فمعاني الإنسانية تفسد في الإنسان عندما يربى العنف والخوف، فيكون جبانا ومتوحشا شيمته الغدر.

الخطة التي كانت تشوه الإسلام بخرافة الإرهاب، وتخوف شعوبه بعضها من بعض، لم يبق لها تأثير يذكر، بعد أن تبين لكل المحميات، أن الحماة هم من جنس حاميها حراميها: فهو استعمار بيّن، لا يحسب لهم أدنى حساب، كما هو بيّن من خطاب قيادات إسرائيل وحماتها.
1 ـ الأداة الأولى هي ربا الأموال: معدن العجل،  ورمزه العملة الرببوية.
2 ـ  الأداة الثانية هي ربال الأقوال: خوار العجل المضلل، ورمزة الكلام المخادع.

وبلغتنا الحديثة، فأداتا العبودية العامة، التي يسيطر بها ذوو أخلاق العبيد على كل البشر، هما: البنك بربا الأموال، والإعلام بربا الأقوال. ومن يسيطر عليهما يمكن أن يستعبد كل البشر.

ولهذه العلة، أعلن القرآن أن الله يحارب الربا، ويمقت أشد المقت من يقول ما لا يفعل، والأمر ليس مقصورا على الشعوب، بل هو يشمل خاصة النخب النافذة التي تقودها:

1 ـ  فالنخب هي أولى ضحايا ربا الأموال وربا الأقوال، وهي خدم مطيعة لأصحابهما من اللوبيات.

2  ـ وهي الأذل، وتتوهم أنها الأعز في الظاهرة، كما رأينا في جلسة خطاب نتنياهو، وكثرة المصفقين لمجرم الحرب.

وأول درس ينبغي أن نتعلمه، هو أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالعملاء من نخبنا، بل هي ظاهرة كونية؛ لأن الإسلام لم يقدم حلولا لما هو خاص كما يتوهم حمقى البحث عن الخصوصيات، فلو كان ذلك كذلك، لما كانت الرسالة الخاتمة.

وثاني درس ينبغي أن نتعلمه، هو أن  هذه الظاهرة ومحركاتها وما تتحرك ضده، هي التي جعلت الرسول الخاتم يقول قولته الشهيرة في هود وأخواتها:

1 ـ  الأولى هود، لوضعها المعوقات التاريخية في معركة تحرير الإنسانية التي حصرت بصورة جامعة مانعة وشاملة للمشترك الإنساني، وليست من خصوصيات أي أمة وأي دين.

2  ـ والثانية الأخوات الأربع، بيان القرآن لحتمية مضاعفة الحياة الدنيا بالحياة الأخرى؛ لأن هذه المعوقات لا يمكن علاجها بما لأجله جعلت السياسة، من حيث هي تربية وحركة يمكّن من الحد منها؛ وقاية بالأولى وعلاجا بالثاني.

وتلك هي علة جعل الدولة الدنيوية ذات مقومين، لا يمكن أن يتحققا من دون تفاعلهما:

فهي بنية ثابتة لا تتحول ولا تتبدل؛ لأن نظامها هو سنن التاريخ الثابتة؛ أي منظومة نسقية وظيفتها علاج شروط الرعاية تكوينا وتموينا وشروط الحماية داخليا وخارجيا، لكنها لا تتعين في التاريخ الفعلي إلا بمن يملأ خاناتها، التي هي عشرة:

1 ـ خمسة للرعاية؛ لأن التكوين مضاعف (المدرسة والمجتمع)، والتموين مضاعف (الثقافة العلمية والاقتصاد)، وأصلها أربعتها البحث العلمي، أو تراكم الخبرة في سد هذه الحاجات.

2 ـ خمسة للحماية؛ لأن الحماية الداخلية مضاعفة (القضاء والأمن)، والحماية الخارجية مضاعفة (الدبلوماسية والدفاع)، وأصلها أربعتها البحث الاستعلامي أو المخابرات؛ للإحاطة بحال البلاد ومن يعاديها ويصادقها.

وما لا يتحقق فيهما دنيويا لغياب حضور الوعي بالأخروي الذي يشبه ما يسمى في القضاء التعقيب، لكنه تعقيب مطلق ليس فيه خداع ولا تحيل، أي الوقوف أمام الحاكم المجلق يوم الدين. غيب هذا المعيار هو فساد معاني الإنسانية الذي يسيطر على ذوي أخلاق العبيد (وقد ضرب ابن خلدون مثال اليهود على فساد معاني الإنسانية وأخلاق العبيد وشيمة الجبن والتوحش والغدر).

فما هي المعوقات التاريخية الكونية الثابتة، التي لا خصوصية فيها؟ إنها تتحدد بمطابقة حال الإنسان لما وصفه القرآن أو نظرية الإنسان في الرسالة الخاتمة: مكلف ومكرم (رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، وهذا هو الفرق الجوهري بين رؤية ابن خلدون ورؤية هيغل: فالتاريخ عند الأول يبدأ بهذا المعنى فيكون علاقة بين الرؤساء بالطبع بمقتضى الاستخلاف، وليس علاقة بين سيد وعبد.
ومعنى ذلك، أن ابن خلدون تجاوز أحوال نفس هيغل إن صح التعبير. فهيغل كان ذليلا وناقما على الأسياد الذين كانوا يحكمون بمنطق الحق الإلهي والتحالف بين الكنيسة (الوسيط الروحي) والشوكة (الوصي المادي)، ليس في الواقع فحسب؛ لأن ابن خلدون كان يعيش في واقع لا يختلف كثيرا عن واقع هيغل، والفرق الوحيد أنه كان من نبلاء الأُسَر، ولم يكن من العامة مثل هيغل.

الفرق في العقيدة، فهو ينتسب إلى دين يعدّ تحرير العبيد عبادة؛ لأنه من أهم المكفرات التي تعدّ تحرير الرقاب مزيلا للذنوب، مثله مثل الصوم والعناية بفاقدي السند من اليتامى والمساكين. فتكون العلاقة بين البشر عين ما حددته سورة الماعون، واعتبار من لا يعمل بها هو الذي لا يؤمن بيوم الدين.

نأتي الآن إلى المعوقات التي تزيل الحريتين اللتين تبدأ سورة هود بأولاهما، وتنتهي بآخراهما في تصنيف الرسالات السبع التي تتضمنها، وما تذكر به من رسالة البداية ورسالة الغاية في تاريخ الأديان المنزلة.

1 ـ  الحربة الأولى: كيف يتحرر الإنسان من طغيان الطبيعة؟ رسالة نوح.

2 ـ الحرية الثانية: كيف يتحرر الإنسان من طغيان الدولة؟ رسالة موسى.

 3 ـ ما بين الأولى والأخيرة التحرر من طغيان الطبيعة والتحرر من طغيان الدولة، أربع رسالات تتكلم على المعوقات، ورسالة تتوسط بين الاثنين الأوليين والاثنين الأخريين.

4 ـ الأوليان: هود وطغيان المسيطرين على الثروة، وصالح وطغيان المسيطرين على الماء أصل وجود الحياة .

5 ـ الثانيتان: لوط وطغيان المثلية الجنسية العامة شرط بقاء النوع، وشعيب وطغيان المسيطرين على قواعد التبادل الاقتصادي.

لكن ما يفصل الثلاثة الأولى (نوح وهود وصالح)، والثلاثة الأخيرة (لوط وشعيب وموسى)، نجد إبراهيم الذي جاءته الملائكة لتخبره بالخلفة وبمصير اللوطيين، وتعلمه بأن محاولة الشفافية فيهم غير مقبولة.

وما كنت لأقص هذه القصة كلها، لو لم يكن الهدف بيان علة الختم، وحتمية أن تكون نجاة البشرية على يد المسلمين، بفضل هذا الوعي بالسنن التاريخية، التي تعوق التحرر من أخلاق العبودية للطبيعة وللدولة، وهو معنى تبين الرشد يكون بالكفر بالطاغوت شرطا في الإيمان بالله.

لذلك، فما حدث في خطبة نتنياهو، دليل قاطع على نهاية دين العجل؛ لأن الوعي بأداتيه صار الفضل فيه للتضحية التي قدمتها الأمة منذ أكثر من خمسة قرون من مقاومة الوحشية، التي يمثلها عبيده، وتركز الأمر في الأرض التي مكنت من:

أولا ـ هزيمة الصليبية
ثانيا ـ هزيمة المغول
ثالثا ـ هزيمة الاسترداديين
رابعا ـ هزيمة الاستعمار
خامسا ـ والآن نحن في لحظة الإجهاز على أداتيه وحماتهما؛ أي الصهيونية بربح شباب الغرب لصفنا، وهزيمة الصفوية بانكشاف صورتها الحقيقة التي هي النوع الثاني من إخفاء دين العجل:

الأول ـ حاليا هو ديمقراطية عبيد دين العجل
والثاني ـ حاليا هو  ثيقوقراطية عبيد دين العجل.

وكلاهما يجمعان بين الإخفاءين: فإسرائيل وأمريكا غربيا وإيران وروسيا شرقيا، كلهم يجمعون بين الأساس الديني المحرف، والأساس الشعبي المحرف.

من الطوفان إلى التسونامي

لا شيء مما قصه نتنياهو في خطابه يستحق الذكر، يتجاوز أمرين، هما ما اعتبره دليل المقتل الذي ينتظر إسرائيل وإيران في آن. وقبل بيان ذلك لا بد من بيان علة الجمع بينهما.

فما يشتركان فيه وسيكون مقتلها ـ فضلا عن تاريخ علاقتهما بالإسلام أولا وتاريخ سياستهما المعتمدة على دين العجل ببعديه ـ، هو ما يوهمون به من اطمئنان لموت الشعوب قياسا على موت عملائهما في الأقليم.

فلا يكفي ادعاء اطمئنان إسرائيل لمن طبّع معها من النخب التي نصبتها هي وحاميتها الأمريكية بقواعدها، واطمئنان إيران لمن زرعتهم من المليشيات التي نصبتها هي وحاميتها الروسية.

ومن يريد أن يفهم دوريهما، فلينظر إلى موقف أوروبا التي تلعب على الحبلين. فهي تظهر ما تخفيانه من الاتفاق على حماية إسرائيل وإيران؛ لأن الغرب كله أخوف من الإسلام منها من الصين.

والخوف في كل هذه الحالات مضاعف: الخوف العاجل من فقدان ما يستمدانه من الإقليم، والآجل من الاستئناف الذي قد يجعل الإقليم يصبح قوة يُحسب لها ألف حساب.

لذلك، فقد حرص نتنياهو على الكلام على الحلف الذي سماه "حلف إبراهيم"، يسنده إلى حجتين: الأولى رد الطوفان إلى:

  - اعتبار حماس ـ كما يزعم المطبعون مع إسرائيل ـ، مجرد مليشيا إيرانية من جنس مليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

- والكلام على حصر السيطرة على الإقليم في إسرائيل والغرب، دون كلام على العرب الذين يظنهم الشعوب من جنس عملائهم.

لذلك، فما أريد بيانه الآن، هو أن هذه اللامبالاة بما يجري في الأعماق، وما حصل بعض أثره في شباب  الغرب في التحرر من سردياتها كلها، وتحرر شباب الإقليم من الخوف من قوة إسرائيل والغرب، هو ما سيحصل حتما.

تكرار مفاجأة الطوفان، ولكن هذه المرة في كل الأقليم، مما سيلغي علتي الضعف الذي في بلاد الإقليم كلها، قد صارت مثل الضفة المستسلمة.

العلة الأولى، هي تفتيت جغرافية الإقليم الإسلامية؛ أي فشل سايكس بيكو، وقد بدأ بعد الربيع الذي عمم الثورة، وإن لم يوحدها واكتفى بتوحيد الثورة المضادة ضدها.

والعلة الثانية، وهي أهم من الأولى، هي تشتيت تاريخ الإقليم؛ أي فشل محميات الفتات الساكسبيكي في تحقيق شرعية تاريخية تتغلب على الإسلامية، سواء بحثوا عنها في ما قبلها أو في ما بعدها.

ما أريد بيانه الآن، هو أن هذه اللامبالاة بما يجري في الأعماق، وما حصل بعض أثره في شباب الغرب في التحرر من سردياتها كلها، وتحرر شباب الإقليم من الخوف من قوة إسرائيل والغرب، هو ما سيحصل حتما.
لذلك، فما أتوقعه، هو أن استراتيجية الغرب وخاصة الأوروبيين والأمريكيين والروس، سيشرعون في التعامل مع الإقليم على هذا الأساس، خاصة والخطة التي كانت تشوه الإسلام بخرافة الإرهاب وتخوف شعوبه بعضها من بعض، لم يبق لها تأثير يذكر، بعد أن تبين لكل المحميات أن الحماة هم من جنس حاميها حراميها: فهو استعمار بيّن لا يحسب لهم أدنى حساب، كما هو بيّن من خطاب قيادات إسرائيل وحماتها وإيران وحماتها باسم كل الإقليم، لكأن أصحابه لم يعد لهم إرادة حرة ولا حكمة راجحة.

فما فهمه شباب الغرب، من باب أولى أن يفهمه شباب الإقليم: افتضاح التخويف من الغولين إسرائيل وإيران لم يعد أحد يهابه ولا يرتهب من قوتهما، بل تبين أن العزم، وخاصة تعدد الطوفانات، سينهي سيطرتهما، وما استطاعته حماس في ما يقرب من سنة، يمكن أن يصمد سنوات، فينهار كلبا الغرب والشرق ومعهما حماتهما.

ولا أقول ذلك من باب التوهم والتفاؤل أو الحلم، فلا أحد كان يصدق أن النشأة الأولى لامبراطورية الإسلام كانت مما يعد قابلا للتوقع المعقول: كيف للعرب وهم قلة عددا وضعاف عتادا أن يقضوا على أكبر  امبراطورتين في ملتقى القارات القديمة الثلاث؟

ذلك ما هو قادم. وستكون المفاجأة الطوفانية في الاستئناف كما كانت في النشأة الأولى. طبعا لن يكون ذلك بالعملاء طوعا، بل سيكون بهم كرها؛ لأنهم لم يعودوا قادرين للاطمئنان لحماية إسرائيل وإيران ومَنْ وراءهما، ولأن الشعوب لم تعد تخشى ما كانت تخشاه في الطوفان.

والبداية ستكون من الأردن ومصر، ثم من سنة العراق وسنة الخليج، وإذا وصل الأمر إلومصر، فسيعم الجغرافيا الأفريقية كلها على الأقل من شمالها إلى ساحلها، وبذلك فهي ستكون ثورة عارمة لن يستطع أحد إيقافها، وسيرى كلا القطبين الوصول إلى حل معهم؛ لأن الوصل بين المشرقين والمغربين مقامه في جغرافيتنا وفي تاريخنا، وفي قيمنا وخاصة في ديموغرافيتنا.

ما أتمناه، هو أن يواصل نتنياهو إسرائيليا وأمثاله إيرانيا ومن وراء الأولى والثانية هذا الصلف، الذي يجعلهم يعتقدون أن السنة "حريبشة للبلعان". التحول الذي يجري في الغرب بين شبابه، سيكون من أهم العوامل المساعدة على تحرير النخب التي كانت تتوهم الخير في التحديث التابع بديلا من التحديث المستقل، ستكون جزءا لا يتجزأ من الطوفان الذي سيصبح  "تسونامي" عالميا.