قضايا وآراء

طالبان والكرملين: فصل جديد في ملحمة أفغانستان الجيوسياسية

"طريق طالبان إلى الاعتراف الرسمي ليس مضمونا على الإطلاق، وسيتطلب الإبحار عبر شبكة معقدة من العلاقات الدولية والمصالح"- جيتي
في عالم يتسم بالتحالفات المتغيرة والديناميكيات الجيوسياسية المعقدة، يظل الوضع في أفغانستان نقطة محورية للمخاوف الأمنية الإقليمية والعالمية. وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الأهمية الحاسمة للاستقرار في أفغانستان، ووصفه بأنه محور أساسي لأمن المنطقة ككل. ولكن هذا التركيز على الاستقرار يرتبط بوصفة دقيقة بحسب بوتين، وهي تشكيل حكومة شاملة في أفغانستان، تضم كافة الفصائل العرقية والسياسية داخل البلاد.

إن دعوة بوتين إلى الشمولية ليست مجرد بيان عابر؛ بل تعكس حسابات استراتيجية تهدف إلى تخفيف المصادر المحتملة للاضطرابات وتعزيز قيام دولة أفغانية أكثر استقرارا وتماسكا، بالإضافة إلى رسم خطوط عريضة وشبه شروط للاعتراف الرسمي بالحكومة الأفغانية الجديدة.

تاريخ لا يمكن تجاهله

شهدت العلاقات الروسية الأفغانية تحولات كبيرة على مر القرون، تميزت بفترات من التعاون والصراع. بدأت العلاقة في القرن التاسع عشر خلال عصر "اللعبة الكبرى"، وهو تنافس استراتيجي بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية للسيطرة على آسيا الوسطى، حيث كانت أفغانستان بمثابة دولة عازلة. في عام 1919، بعد الحرب الأنغلو-أفغانية الثالثة، حصلت أفغانستان على استقلالها وأقامت علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي. أرست هذه المرحلة الأولية الأساس لتفاعل معقد بين التحالفات والمنافسات التي من شأنها أن تشكل مستقبل العلاقات الروسية الأفغانية.
من الممكن أن ننظر إلى تحرك الكرملين لرفع القيود القانونية المفروضة على طالبان باعتباره خطوة عملية تهدف إلى تعزيز التعاون بينهما

خلال الحرب الباردة، أصبحت أفغانستان نقطة محورية للنفوذ السوفييتي، حيث تلقت مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة من الاتحاد السوفييتي، وخاصة في عهد رئيس الوزراء محمد داود خان. توترت العلاقة عندما سعى داود خان إلى توثيق العلاقات مع الغرب، مما أدى إلى الغزو السوفييتي عام 1979 لدعم الحكومة الشيوعية المتعثرة ضد قوات المتمردين. وأدى هذا التدخل إلى صراع دموي دام عقدا من الزمن، وساهم في انهيار الاتحاد السوفييتي.

وفي أعقاب الانسحاب السوفييتي عام 1989 وانهيار الدولة السوفييتية، ركدت العلاقات الروسية الأفغانية. ومع ذلك، فإن الفوضى التي شهدتها أفغانستان خلال التسعينيات، بما في ذلك الحرب الأهلية وصعود حركة طالبان، دفعت روسيا إلى إعادة الانخراط، خاصة بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2001. وقدمت روسيا مساعدات عسكرية وإنسانية محدودة، بهدف تحقيق التوازن في علاقاتها التاريخية مع أفغانستان بالاستناد إلى اعتبارات الأمن الإقليمي ووسط التدخلات التي يقودها الغرب في الغالب.

خطوات دبلوماسية دون الاعتراف الرسمي

بعد هذه التقلبات في العلاقة التاريخية بين البلدين، وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، اتخذت روسيا خطوات مهمة نحو طالبان، بما في ذلك اقتراح إزالة الحركة من قائمتها للمنظمات الإرهابية. وقد أثار هذا التحول الدهشة وأثار موجة من الأسئلة حول الدوافع الكامنة وراء هذا التقارب.

إن خلفية هذا المحور الدبلوماسي متعددة الأوجه، حيث شهد منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، وهو حدث رئيسي في التقويم الاقتصادي الروسي، مشاركة وفود من طالبان في عام 2022. ويمثل هذا الإدراج خروجا ملحوظا عن السياسات السابقة، ويدل على الاستعداد للتعامل مع حكام أفغانستان الفعليين على الجبهتين الاقتصادية والسياسية. ومن الممكن أن ننظر إلى تحرك الكرملين لرفع القيود القانونية المفروضة على طالبان باعتباره خطوة عملية تهدف إلى تعزيز التعاون بينهما.

كما أعادت دول أخرى في آسيا الوسطى النظر في مواقفها تجاه طالبان. على سبيل المثال، قامت كازاخستان، بإزالة حركة طالبان رسميا من قائمتها للمنظمات المتطرفة في كانون الأول/ ديسمبر 2023، بعد الكشف التدريجي عن هذا التغيير في السياسة في وقت سابق من العام. ومن ناحية أخرى، لم تصنف أوزبكستان قط حركة طالبان باعتبارها جماعة متطرفة، مما يسلط الضوء على الاختلاف في النهج الإقليمي في التعامل مع الحركة.

وعندما سيطرت حركة طالبان على كابول في آب/ أغسطس 2021، كان العالم بالإضافة إلى اللاعب الروسي؛ يتابع الوضع الأمني بفارغ الصبر، وسط شكوك في قدرة الحركة على الحكم. وعلى الرغم هذه الشكوك لم تتحقق المخاوف بشأن إنشاء جماعات مسلحة جديدة، أو انتشار الأيديولوجيات المتطرفة، أو تصاعد تجارة المخدرات إلى الحد الذي كان يُخشى منه.
انخراط موسكو المستمر مع طالبان وجهودها لشطب الجماعة من التصنيفات الإرهابية؛ هو جزء من استراتيجية أوسع لمحاربة داعش وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أفغانستان. ومع ذلك، يواجه هذا التعاون عقبات كبيرة، خاصة وأن حركة طالبان تنفي وجود مقاتلي داعش على الأراضي الأفغانية. لكن روسيا تبدو بأنها حريصة على استكشاف الفرص الاقتصادية

إن انخراط موسكو المستمر مع طالبان وجهودها لشطب الجماعة من التصنيفات الإرهابية؛ هو جزء من استراتيجية أوسع لمحاربة داعش وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أفغانستان. ومع ذلك، يواجه هذا التعاون عقبات كبيرة، خاصة وأن حركة طالبان تنفي وجود مقاتلي داعش على الأراضي الأفغانية. لكن روسيا تبدو بأنها حريصة على استكشاف الفرص الاقتصادية، حيث تنظر إلى أفغانستان باعتبارها مركز عبور محتمل لتصدير الغاز الطبيعي الروسي إلى الهند ونقل البضائع إلى الموانئ الباكستانية.

بداية الطريق

على الرغم من هذه المبادرات الدبلوماسية والوتيرة المتزايدة للزيارات الرسمية والتصريحات التي تشير إلى تحول محتمل نحو الاعتراف الدولي بحكومة طالبان، فإن هذه التحركات تشير إلى بداية طريق وليست نهايته، خصوصا بعد تحليل عميق لتصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي حث على إنشاء حكومة شاملة في أفغانستان.

وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين النهج الروسي والأمريكي في التعامل مع أفغانستان أو الاعتراف بها، إلا أن ردة فعل الولايات المتحدة السلبية على الأنشطة الدبلوماسية الأخيرة لطالبان، مثل زيارة وزير داخلية طالبان سراج الدين حقاني إلى الإمارات العربية المتحدة، تشير إلى أن الولايات المتحدة تلعب بمسألة الاعتراف الرسمي لتحقيق مكاسب خاصة بها.
تسعى الولايات المتحدة بنشاط إلى التأثير على الديناميكيات الإقليمية لصالحها، والاستفادة من مشاركة طالبان في منتديات مثل قمة الدوحة للتأكيد على إنجازات سياسة بايدن الخارجية في أفغانستان

تسعى الولايات المتحدة بنشاط إلى التأثير على الديناميكيات الإقليمية لصالحها، والاستفادة من مشاركة طالبان في منتديات مثل قمة الدوحة للتأكيد على إنجازات سياسة بايدن الخارجية في أفغانستان. وتبرز هذه المناورة بشكل خاص في سياق الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، حيث يمكن أن تترجم نجاحات السياسة الخارجية إلى رأس مال سياسي لبايدن.

وهذا يسلط الضوء على حقيقة مفادها أن طريق طالبان إلى الاعتراف الرسمي ليس مضمونا على الإطلاق، وسيتطلب الإبحار عبر شبكة معقدة من العلاقات الدولية والمصالح الجيوسياسية بين أطراف دولية كبرى ومتنافسة.

والسؤال الحاسم الذي يبرز الآن هو ما إذا كانت طالبان قادرة على فك تعقيدات الاستراتيجية الأمريكية، فهل تقبل طالبان بعائد بسيط بعد عقدين من الصراع مع الولايات المتحدة، أم أنها ستنحاز استراتيجيا إلى الكتلة الشرقية لتحقيق اعتراف أوسع وتقليص النفوذ الأمريكي؟ إن الإجابات على هذه الأسئلة سوف تشكل مستقبل أفغانستان ودورها في النظام الإقليمي والعالمي.