لفتت نتائج
انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة أنظار صناع القرار في الولايات المتحدة
وروسيا، كلا لأسبابه، بعد نجاح
اليمين المتطرف في عموم
أوروبا في تحقيق نتائج
كبيرة لم تعرفها القارة من قبل.
لا يتعلق الاهتمام
الروسي والأمريكي في هذه الانتخابات بقضايا الحقوق (الحريات السياسية والمدنية،
المثلية، الهجرة، الأقليات)، فهذه قضايا محلية تخص الدول الأوروبية فقط، ولا تلقى
اهتماما أمريكيا وروسيا.
يتعلق الأمر
بالسياسة الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي، خصوصا الدول الكبرى، كفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا،
وإسبانيا، فوصول اليمين المتطرف إلى هذه الدول قد يحدث تغيرا في العلاقات السياسية
الدولية.
أيديولوجيا
سياسية
تخشى الولايات
المتحدة صعود اليمين المتطرف إلى السلطة في دول الأوروبية الوازنة، بما قد يؤدي
إلى انحراف في سياستها تجاه الولايات المتحدة في القضايا العالمية، خصوصا تلك التي
تخص أوروبا أو لها تأثير عليها.
ينبع الخطاب
الأيديولوجي السياسي لليمين الأوروبي المتطرف لا شك من قضايا داخلية، كالتي ذكرت
أعلاه، لكن أيضا ثمة استياء من
السياسات النيوليبرالية التي تعتمدها دول أوروبية
تماهيا مع الولايات المتحدة، وثمة استياء من تماهي السياسية الأوروبية الخارجية مع
الولايات المتحدة، وما لذلك من تداعيات سلبية على القارة الأوروبية، وتداعيات
إيجابية على الولايات المتحدة، كحالة أوكرانيا.
ومن هنا، يحمل
خطاب اليمين الأوروبي المتطرف تعبيرات عن ضرورة التمايز عن الولايات المتحدة في
بعض الملفات المهمة.
ومن مفارقات
التاريخ والسياسة، أن هذا اليمين يجد
روسيا أقرب له من الولايات المتحدة، ويمكن
حصر هذا التقارب في مستويين:
الأول، أيديولوجي
يتعلق برؤية موحدة للهوية الثقافية المهددة من الخارج، إما في حالة هجرة (اليمين
الأوروبي المتطرف)، أو في حالة الليبرالية المستوردة التي طالما حذر منها بوتين (روسيا).
في حالة الهجرة،
يقدم اليمين المتطرف خطابا شعبويا يضخم المخاطر التي يحدثها المهاجرون على هوية أوروبا
المسيحية، وهو خطاب يتقاطع مع خطاب ديني- سياسي يطلقه الكرملين في موسكو بين
الفينة والأخرى، للتأكيد أن روسيا هي حصن المسيحية الأرثوذكسية.
وعند هذه النقطة،
ترى الأحزاب اليمينية المتطرفة أن تضييق روسيا على الحريات، وعدم التزامها تجاه
المهاجرين غير الشرعيين، مثال يجب تطبيقه في أوروبا للتخفيف من مسألة الهجرة التي
تهدد الهوية الثقافية المسيحية للسكان الأصليين، وقد وصلت حالة التقوقع الهوياتي
عند هذا التيار حدّا، رفض بموجبه فكرة الاتحاد الأوروبي، ذلك أن الاتحاد يضعف من
سيادة الدولة القومية.
الثاني، سياسي
يتعلق بضرورة أن يكون لأوروبا سياستها الخارجية الخاصة بمعزل عن الولايات المتحدة.
وقد بدأت الأحزاب
اليمينية المتطرفة تعبر مؤخرا عن استيائها من حالة التبعية الأوروبية للولايات
المتحدة وإن بشكل مضمر، وقد جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتضاعف من هذا الخطاب، الذي عبر عنه مؤخرا زعيم حزب "الإصلاح البريطاني" نايجل فاراج، حين قال؛ إن "توسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي شرقا، استفز الرئيس الروسي ودفعه
إلى غزو أوكرانيا"، وهو موقف عبر عنه أعضاء في اليمين المتطرف الفرنسي تقريبا.
حدود التعاون
بدأت ملامح
التعاون بين روسيا وقوى اليمين الراديكالي بالظهور عام 2013، حين زارت مارين لوبين
موسكو، ثم تعمقت العلاقة أكثر حين حصل حزب "الجبهة الوطنية"، الذي أصبح فيما
بعد حزب "التجمع الوطني"، عام 2014 على قرض بقيمة 9.4 مليون يورو من البنك
التشيكي- الروسي الأول (FCRB) لتمويل حملة الانتخابات البلدية، وحصل حزب "كوتيليك"
الفرنسي على مليوني يورو من شركة قبرصية خارجية، وهي شركة ممولة من روسيا.
في لقائها عام
2017 مع بوتين، لم تخف مارين لوبين إعجابها بروسيا بشكل عام وبوتين بشكل خاص. وهنا
يطرح سؤال عملي، على الرغم من التقارب الأيديولوجي والسياسي بين الجانبين، ما هي
حدود التعاون بينهما، في ظل بيئة أوروبية معادية لروسيا، أو على الأقل بيئة لا يمكن
أن تكون روسيا جزءا منها ضمن معادلات التحالف؟
بالنسبة لأحزاب
اليمين، تشكل روسيا داعما ماديا مهما، بما يسمح لها بتكثيف دعايتها وتوسيع
نشاطاتها في المجتمع.
أما بالنسبة
لروسيا، فالمسألة أكثر تعقيدا، فصناع القرار في الكرملين لا يخالجهم الأمل في
إمكانية وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، وحتى لو وصلوا إلى الحكم -أمر مستبعد في
المدى المنظور والمتوسط-، خصوصا في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، بسبب ثقل القوى في
الوسط السياسي، وتاريخ المجتمع السياسي العريق في هذه الدول، فإن هذه الأحزاب لن
تستطيع تغيير بوصلة السياسة الخارجية لهذه الدول الكبرى، بسبب طبيعة التحالف
العميق بينها وبين الولايات المتحدة من جهة، وطبيعة العلاقات الأوروبية- الأوروبية
من جهة ثانية.
يدرك الكرملين
واقعية هذا الأمر، ولذلك فإن أقصى طموحه في هذه الفترة في حال حقق هذا اليمين حضورا
في المشهد السياسي لهذه الدول، أن يخفف من حدة الاندفاعة الأوروبية تجاه الولايات
المتحدة في الملفات الخارجية، لا سيما تلك المرتبطة بروسيا.
ولعل كلام بوتين لمارين
لوبين في موسكو عام 2017 "أعلم أنك تمثلين طيفا سياسيا ينمو بسرعة في أوروبا"، ما يشير إلى أمل روسي بلحظة يضع اليمين الأوروبي المتطرف أقدامه على طريق السلطة.