تتواصل شكاوى فقراء
المصريين من الفقر المدقع، والغلاء المفجع، وسوء الأحوال، والأزمات غير المسبوقة، بفعل سياسات رئيس النظام عبدالفتاح
السيسي "الخاطئة" وفق مراقبين، لكن يبدو أن الأمر طال حتى أغنياء مصر، وأصحاب الأعمال، وملاك الشركات والمصانع.
ورصد مراقبون مصريون أسماء 143 شركة مصرية كبرى كانت تعمل منذ عقود بالسوق المحلية وتوقفت عن العمل خلال السنوات العشر الماضية، وتم حذفها من ملفات هيئة الاستثمار، مشيرين إلى خطورة الأوضاع.
ووفق بيانات قام بتجميعها ونشرها أصحاب حسابات معروفة عبر "فيسبوك"، للمحامي "مجدي أبو عيسى"، والناشطين "خالد ناصر العربي" و"أم عبدالله الغفاري"، والفنان التشكيلي "سيد هويدي"، والصحفي "حسن بدوي". فيما تداول متابعون أسماء تلك الشركات على نطاق واسع، مشيرين إلى خسارة مصر الكبيرة بغلقها.
وأشار البعض إلى أن سياسات إنفاق السيسي، الباذخة، وقراراته غير المدروسة بإنشاء مشروعات غير إنتاجية أهدرت مليارات الجنيهات في بناء أطول وأعرض وأضخم وأفخم مباني في العاصمة الإدارية الجديدة وغيرها، مؤكدين أنه كان الأولى به صرف جزء من تلك الأموال لتدوير تلك الشركات بدلا من غلقها.
المثير أن غالبية القائمة تضم شركات حكومية أو تابعة لقطاعات وجهات عامة، ولكن في المقابل، والذي يصعب رصده هو توقف آلاف المصانع والشركات وجهات الإنتاج متوسطة القدرة أو صغيرة الإمكانيات، والتي أُغلقت دون أن يدري أحد عنها شيئا، وفق ما أشار إليه الإعلامي المصري المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية محمد السطوحي.
"أرقام كاشفة"
وعلى مدار نحو 39 شهرا متتالية يواصل نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مصر الانكماش في أعماله، مع استمرار الأزمات الداخلية للبلاد بفعل شح الدولار، وتراجع قيمة الجنيه، وتغول الدولة والإمبراطورية الاقتصادية العملاقة للجيش، والصناديق السيادية، والشركات الخليجية وخاصة الإماراتية على أدوار وأعمال القطاع الخاص المحلي.
وتراجع مؤشر "مديري المشتريات" من (48.1 نقطة) في كانون الثاني/ يناير الماضي إلى (47.1 نقطة) في شباط/ فبراير الماضي، حيث شهدت الشركات المصرية الخاصة غير المنتجة للنفط تدهورا في حجم الطلب، وانخفضت الطلبات الجديدة بأسرع معدل منذ شهر آذار/ مارس 2023، وتراجع أداء المبيعات المحلية بشكل خاص نتيجة تزايد ضغوط الأسعار.
وتراجعت الصادرات المصرية خلال العام الماضي بنحو 1.5 بالمئة إلى 35.3 مليار دولار.
وفي 24 أيلول/ سبتمبر 2022، توقع تقرير لموقع "إنتربرايز"، أنه من 85 إلى 90 بالمئة من الشركات المصرية الناشئة مهددة بالانهيار خلال عام، بسبب ظروف السوق الحالية في مصر.
وهو ما أكل في السوق المحلي من رصيد كثير من المصنعين والمصدرين والمستوردين وأصحاب الأعمال والتجار، أو الفئة الموصوفة بأنها من المقتدرين ماليا أو أغنياء ما فوق الطبقة الوسطى، والأقل درجة من المليارديرات وملاك الشركات الكبرى.
"سياسات أهلكت المنتجين"
وهو الأمر الذي أكده مهندس إبراهيم، وهو اسم مستعار لأحد أصحاب المصانع المتوسطة في مدينة العاشر من رمضان، بقوله لـ"عربي21"، إن "سياسات الحكومة مع ملفات العملات الصعبة واستيراد الخامات وقطع الغيار والتصدير أهلكت المنتجين".
وأضاف: "كما أن منحه الأراضي والمشروعات للأجانب والإماراتيين خاصة، بتيسيرات كبيرة يأكل من رصيد الكثير من المصريين العاملين في ذات المجالات، ويضعهم أمام قيود وصعوبات لا يتحملونها، كما أنه يفقدهم أدوارهم ويضعف فرصهم في الحصول على تلك المشروعات والأراضي".
وأكد أن انحياز الحكومة للمستثمر الأجنبي وصناديق وشركات الدول الخليجية والتغول في المقابل على المستثمر المحلي وزيادة الضغوط عليه، "يضطرنا للخضوع لقرارات تلك الشركات وتوجهاتها في السوق الذي انعدمت فيه المنافسة".
وواصل: "بل يجبرنا على دفع أموال بقيم أكثر لذات الخدمات، وخاصة مع سيطرة تلك الشركات والدول والصناديق على قطاعات مثل السياحة وتشييد الفلل والكمبوندات والشاليهات"، موضحا أن هذا "يعرض كامل حياتهم الترفيهية بعد الإنتاجية لتحكم المنتج الجديد".
وقال: "إننا كمصنعين نخرج من أزمة بخسارة إلى أزمة أخرى أشد بخسارة أكبر"، مبينا أن "خسارته كانت كبيرة في أعوام 2020- 2022، مع أزمة كورونا"، ومؤكدا أن "تفاقم أزمة الدولار وعجز الدولة عن توفيره لنا واضطرارنا اللجوء للسوق السوداء دفع الكثيرين منا لتقليل أعماله وعمالته بدلا من الخروج نهائيا من السوق".
وختم بقوله إن "العديد من أصحاب الأعمال الذي كانوا يستوردون بضائعهم وخاماتهم وقطع غيارهم بل وخطوط إنتاجهم من أوروبا تحولوا إلى مصادر أقل جودة وأرخص ثمنا مثل دول آسيا وخاصة الصين والهند، وقام آخرون بتسريح الكثير من العمالة وغلق منشآتهم وتركها فقط على الورق".
وفي السياق، تتوالى شكاوى بعض الأغنياء وبينهم فنانين، من تأثير الغلاء على حياتهم، وفي مصايف الساحل الشمالي، وأسعار شراء الوحدات وإيجارها، وقيم الخدمات والأطعمة، حتى وصلت زجاجة مياه الشرب إلى 200 جنيه، وكوب الشاي إلى 150 جنيه، وصاندوتش برجر بـ375 جنيها، وفاتورة فلافل بـ1200 جنيه، ما دفع البعض لوصفه بـ"الساحل الشرير".
وأكد البعض أن "الحاجة والفقر وضيق الحال، وصلت بسيدات مصريات فاضلات من أسر عريقة ومحترمة، إلى أن يسألن الناس بمنتهى الخجل والحزن ودموع صادقة مُهينة... ".
ويشهد
الاقتصاد المصري طوال السنوات العشر الماضية من حكم السيسي، أزمات متتالية على وقع أزمة تراجع قيمة عملتها المحلية مقابل العملات الأجنبية، من نحو 7 جنيهات لنحو 47.45 جنيه لكل دولار رسميا، بجانب تفاقم أزمة ديون خارجية بلغت نحو 165 مليار دولار نهاية العام الماضي، في دين له تبعاته ووصل إلى حوالي 95 بالمئة من الناتج المحلي.
"تسهيلات حكومية.. لمن؟"
تلك الأوضاع تأتي برغم ما تصدره الحكومة المصرية من دعاية حول دورها في دعم المنتج الصغير، ودعم المنتجين، والمصدرين، وأصحاب الأعمال، بل إنها وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، شكًلت "المجلس الأعلى للاستثمار"، برئاسة السيسي، ورئيس الوزراء، ووزير الدفاع، ورئيس المخابرات العامة، والمدير التنفيذي لـ"صندوق مصر السيادي"، وغيرهم.
وفي أيار/ مايو الماضي أصدرت الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة قرارات بخفض تكلفة تأسيس الشركات، والحد من القيود المفروضة على التأسيس، وتسهيل تملك الأراضي، وتعزيز الحوكمة والشفافية والحياد، وتسهيل استيراد مستلزمات الإنتاج، وتخفيف الأعباء المالية والضريبية على المستثمرين.
لكن؛ يبدو أن هدف تلك الخطوات وفق مراقبين، هو تنفيذ توجيهات صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل المؤسسة الدولية، وذلك إلى جانب تحسين موقع مصر في المؤشرات والتصنيفات الدولية الدافعة لجلب الاستثمار، وكذلك مغازلة المستثمرين العرب والأجانب.
ودون أن يكون لها دور فعال في إنقاذ القطاع الخاص المحلي القائم بالفعل، أو دعمه بشكل عادل، بل زيادة الضغوط عليه، بقرارات رفع أسعار الوقود والطاقة بأنواعهما دون توقف...
بل وزيادة الأعباء الضريبية، ورفع قيم الرسوم الحكومية ومقابل الخدمات والاعتمادات الرسمية، والتخبط في القرارات الخاصة بالتصدير والاستيراد وفتح الاعتمادات المستندية، ناهيك عن أزمة توفير العملات الأجنبية.
ويدلل البعض على صدق تلك الرؤية حول اهتمام الحكومة بالمستثمر الخليجي والغربي على حساب المصنع والمنتج المصري، باستمرار إعلان كبار المستثمرين المصريين عن قرارات التوقف عن الدخول في مشروعات جديدة بل والانتقال إلى أسواق أخرى، وهو ما يتمثل بصورة واضحة في تصريحات رجل الأعمال سميح ساويرس، في أيار/ مايو الماضي.
بل إنه وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، نقل شقيقه ناصف ساويرس مكتب عائلته مجموعة "NNS" إلى سوق أبوظبي، فيما دشنت في كانون الأول/ ديسمبر 2022، نجلتا رجل الأعمال الراحل محمد فريد خميس، شركة في بريطانيا وقامتا ببيع صوري لربع أسهم شركة "النساجون الشرقيون" للشركة الجديدة.
وقتها؛ أكد مراقبون أن هذا التوجه، يمثل هروبا من السوق المصرية بسبب تداعيات أزمة شح الدولار، وقيود الدولة على حركة نقل الأموال، وأزمات السوق المحلية.
"وضع مزرِِ للصغار"
وإذا كان هذا هو وضع كبار المستثمرين المصريين، فماذا عن صغارهم، وهي الحالة التي عبر عنها رئيس شركة مصر الدولية لصناعة البلاستيك "ميبكو"، محمد حامد، بقوله لـ"الشرق مع بلومبيرغ" في 31 كانون الثاني/ يناير الماضي، إن خطوط إنتاج شركته تعمل بحوالي 33 بالمئة فقط من طاقتها.
وأرجع السبب، إلى ارتفاع أعباء الإنتاج بنحو 150 بالمئة مع زيادة أسعار الكهرباء، والمحروقات، وارتفاع أسعار المواد الخام، والفوائد البنكية.
وفي ذات التقرير، كشف رئيس غرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات المصرية، محمد المهندس، عن إقبال عدد من المصنعين على "الغلق المؤقت"، بسبب عدم استقرار أسعار الخامات.
وأكد عضو اتحاد الصناعات المصرية، محمد البهي، أنه مع مشكلة شح الدولار، ونقص الخامات، فإن هناك اتجاها لبعض المصانع إلى الغلق لعدم قدرتها على الإنتاج، مشيرا إلى تأثير ذلك على منافسة المنتجات المصرية مع نظيراتها بالخارج.
متحدثون لـ"عربي21"، أكدوا أن سياسات السيسي كما أضرت بفقراء مصر فإنها جعلت أثرياءها في خطر، موضحين أن سياساته بدعم المستثمرين الأجانب وخاصة الخليجيين ومنحهم التسهيلات والأراضي، أكلت من حقوق أصحاب الأعمال من المصريين.
وذهبوا إلى التوقع بأن تؤذن تلك السياسات باختفاء نسبة من تلك الطبقة، كاختفاء طبقة البشوات والبهوات سابقا، في خمسينيات القرن الماضي.
وبعد حركة الضباط في مصر 23 تموز/ يوليو 1952، اختفت طبقة "البهوات" و"الباشوات" التي كانت تسيطر على السلطة والمال والأراضي والأعمال والتجارة، لتنشأ طبقة جديدة في ستينيات القرن الماضي، لتشهد مصر ظهور طبقة جديدة في عصر الانفتاح في عقد السبعينيات، ثم تغول مجموعة رجال أعمال على عصر مبارك، ليضم عصر السيسي رجال أعمال الإمارات والسعودية بجانب المتربحين من نظامه من العسكريين والمقربين منه.
"هكذا أضر بالجميع"
وفي تعليقه، قال الكاتب والباحث المصري محمد فخري: "بالفعل أدت سياسات السيسي العشوائية والاستغلالية إلى الإضرار بقطاعات عريضة ومختلفة من المجتمع المصري".
فخري، لفت في حديثه لـ"عربي21"، إلى أنه أضر "بداية من المواطن البسيط ومرورا بأصحاب المشروعات متناهية الصغر، ونهاية برجال الأعمال أصحاب المشروعات المتوسطة والكبيرة أحيانا".
وأشار إلى أن "سياسات الاحتكار، والفساد، وتضارب وفشل سياسات الاستثمار والاستيراد والتصدير والنقد الأجنبي، أدت إلى إزاحة قطاع كبير من الأثرياء ونقلهم عنوة إلى طبقات أقل"، موضحا أنه "يمكن لأي مراقب متابعة فيديوهات واستغاثات رجال الأعمال الذين فقدوا استثماراتهم، نتيجة تلك الأسباب".
وأعرب الكاتب والمحلل السياسي المصري، عن أسفه، من أنه "ليس الأمر كما يشاع، فلا يتم دعم المستثمر الأجنبي بشكل مطلق، ولكن فقط جهات ودول وأشخاص بعينهم يرتبطون بمصالح مشبوهة مع أصحاب القرار داخل مصر".
ويرى أن "هذا ما يضاعف حجم الخسارة بالنسبة للمصريين"، مؤكدا أن "التفريط البخس مرتبط بعمولات وشبهات مالية".
وخلص للقول: "في داخل مصر، لا يكفي أن تصبح رجل أعمال ثريا، لتشارك في أي من قطاعات الصناعة أو التجارة أو الاستثمار بشكل عام، فقد تم احتكار الأمر لمجموعة محددة ترتبط هي الأخرى بشراكات سرية مع صناع القرار، وفي الأغلب هي مجرد واجهات بأسماء مختلفة".
وختم فخري، حديثه مؤكدا أنه "في ظل هذا المشهد يُصبح من العسير استمرار رجال الأعمال بعيدي الصلة عن دوائر السلطة".
"القادم أسوأ"
وقال السياسي المصري محيي عيسى: "باختصار شديد؛ القادم أسوأ ما دام النظام باقيا فستزداد الأمور سوءا وسينتقل النظام من فشل إلى فشل".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أن "هذا النظام نفذ كل رصيده للإصلاح، وخابت كل طرق إصلاحه أو حتى ترقيعه، وهناك حل واحد لبقاء الأمل في إصلاح مصر، لا بديل عنه، وهو زوال هذا النظام بأكمله، وزوال هذه المنظومة الفاسدة بكل المجالات".
وختم بالتأكيد على أهمية "هيكلة معارضة جديدة تحمل برنامجا إصلاحيا شاملا، وتسوق نفسها بتشكيل جبهة شعبية تكون قادرة على الحشد والتضحية".
هل هي مؤامرة؟
وفي وجهة نظر تقول إن هناك مؤامرة مقصودة على الشركات المحلية المصرية العامة والخاصة، لبيع الأولى للمستثمرين ولرجال الأعمال الخليجيين ذوي الارتباطات مع مستثمرين إسرائيليين، وتعجيز الشركات الخاصة لصالح الشركات الكبرى التابعة لجهات وأشخاص تابعين للنظام ورأس السلطة.
"الكل أُضير"
وقالت الأكاديمية المصرية، وأستاذة الاقتصاد بجامعة
القاهرة، الدكتورة علياء المهدي: "بالتأكيد وفي تصوري أن كل الناس في مصر أضيرت بسبب الأزمة التي نمر بها"، مضيفة لـ"عربي21"، أن "الناس الأغنياء ممن لديهم عمالة كثيرة ومشروعات كبيرة يصرفون عليها حجم الطلب على منتجاتهم تراجع لأن الناس أصبحت أفقر".
ولفتت إلى أنه "وبالتالي أصبح لدى أصحاب هذه المصانع مشاكل وتعثرات وبعض الأجزاء من مصانعهم أُغلقت لحين تحسن الأوضاع، وبالتأكيد الناس الأغنياء جزء منهم تأثر وليسوا جميعهم".
وأوضحت أيضا أن "الطبقة المتوسطة هي طبقة بائسة مثلها مثل الطبقة الفقيرة، طالما أن دخولها ثابتة وغير متغيرة في ظل تضخم عالي بهذه النسب في مصر".
وأشارت إلى أنه "حتى موظفي الحكومة عندما يحصلون على زيادة 10 أو 15 بالمئة من الأجر الأساسي والتضخم من 30 إلى 40 بالمئة، فلن تصيف لهم شيئا"، خاتمة بالقول: "الكل أُضير وهذه حقيقة تقال".
وهنا لفت الكاتب الصحفي جمال سلطان، إلى اعتراف رئيس مجلس إدارة شركة الكوك الدكتور سيد أحمد الطيب، بأنه جاءته أوامر تقول: "ممنوع الشركة تكسب"، ليتم تصفيتها لاحقا وبيع أراضيها.
ولفت سلطان، إلى أن شركة أبوقير للأسمدة والصناعات الكيماوية (ABUK) حققت أرباحا بلغت 115 بالمئة عام 2021، وإيرادات 8.8 مليار جنيه، وصافي أرباح 5 مليارات جنيه، ليقوم السيسي، في العام التالي ببيع الشركة التي تستورد منها "إسرائيل" بانتظام، إلى الإمارات.