كتب

بحث جديد في مقاصد بعض المصطلحات الإسلامية

يظهر مصطلح "حنيف" في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة، وفي معظم هذه المرات يرتبط ظهوره بالنبي إبراهيم ودينه أو ملته.
الكتاب: هويات قرآنية
المؤلف: عبدالرحمن شمس الدين
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر/2023

يبدأ عبدالرحمن شمس الدين، الباحث في الدراسات الإسلامية وأستاذ العربية بجامعة جورجتاون قطر، كتابه بمقدمة مهمة تمهد لموضوع قديم جديد، لكنه شائك أحيانا ومثير للجدل أحيانا أخرى، يرى أنه يعاني نقصا في الدراسات الوافية واللازمة التي تتناسب وحيويته ومركزيته. 

هذا الموضوع هو مصطلحات الكتاب (القرآن الكريم). ويقول؛ إنه بالرغم من سيادة المقاربات النصية في فهم القرآن الكريم وتفسيره أو تأويله، إلا أننا ما زلنا نرى قدرا كبيرا من التسليم بما هو سائد دون تمحيص وتدقيق. وينبه إلى أنه لا يقصد بالتمحيص نقد أي موروث من باب أنه قديم أو غير علمي، وإنما المقصود هو الخوض في نقاشات موجودة أصلا، وما زال باب السعي وراء الوصول إلى بعض الحقيقة فيها مفتوحا. فالبحث في بعض إشكاليات التراث يصبو إلى زيادة طبقة جديدة عليه، في سبيل إغنائه وليس إلغائه.

وفي كتابه هذا، يبحث شمس الدين في معاني ومقاصد بعض الهويات القرآنية أو الإسلامية المبكرة، وهي تسميات لمجموعات ذكرت في القرآن وبيئته. في الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب، يركز شمس الدين على مصطلحات قرآنية، وعلى فقه اللغة كأداة للفهم والتحقيق، ويعتمد على قاعدة تفسير القرآن بالقرآن "لضبط التماسك والاتساق في النص القرآني". ويناقش مصطلحين قرآنيين لجماعتين سابقتين على ظهور الإسلام، الأول مصطلح "الأعراب"، والثاني مصطلح"حنيف"، في حين يبحث الفصل الثالث في مصطلح"الصدّيقة"، ويحاول أن يحدد المعنى المقصود منه وعلاقته بالمراتب النبوية. وفي الفصل الرابع، يتناول شمس الدين واحدا من أهم المصطلحات في الإسلام، هو "الصحابة" وهو الوحيد، بحسب ما يقول، الذي لا يظهر في القرآن الكريم.

الحنيفية حال ونعت

حول مصطلح الأعراب، يقول شمس الدين؛ إنه ورد ذكره في القرآن للدلالة على هوية بعض القبائل التي كانت تقطن شبه الجزيرة العربية، ولكنه لا يشمل جميع القبائل العربية؛ فالتفريق القرآني يبدو جليا بين الأعراب وغيرهم من ساكني الحجاز، وهو مصطلح إشكالي، إذ يخيّل إلى القارىء أنه الأصل اللغوي الذي اشتقت منه تسمية الهوية العربية، ولكن بما أن معظم الآيات التي تتناول الأعراب تأتي في سياق اللوم والترهيب، فمن المستبعد أن يكون المقصود بهذا المصطلح عامة العرب، وهو يظهر محصورا لوصف ساكني أطراف مدينة النبي ومحيطها.

وقد حمل هذا المصطلح على إطلاقه عند كثيرين، واعتبروا أن الأعراب هم البدو، وأنهم يقابلون أهل المدن والقرى أي الحضر، وأن هؤلاء جميعا يسمون العرب. وتتعقد إشكالية هذا المصطلح أكثر بسبب غياب أي إشارة قرآنية إلى العرب كجنس أو شعب أو عرق، فالقرآن لا يستخدم أصلا اللفظ بهذا الشكل. فالنعت "عربي" يرد في القرآن إحدى عشرة مرة كلها لوصف اللسان الذي نزل به القرآن الكريم، أو لوصف القرآن نفسه، لتؤكد وضوحه وإبانته كلسان أو كلغة، وليس كهوية انتماء.

أما مصطلح "حنيف"، فيظهر في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة، وفي معظم هذه المرات يرتبط ظهوره بالنبي إبراهيم ودينه أو ملته. وفي هذا السياق يسهل فهم المصطلح، بحسب شمس الدين، على أنه نعت لوصف استقامة الشخص المسلم التقي، إلا أن دراسات عديدة حول التاريخ العربي قبل الإسلام تظهر وجود بعض الأشخاص المنضمين إلى طائفة معينة اسمها الحنيفية، وأنهم كانوا يدعون أنهم أتباع إبراهيم عليه السلام. بالإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نلاحظ استعمال كلمة حنيف في نصوص قديمة من روايات تاريخية في اللغات السامية وبخاصة السريانية.

التفريق القرآني يبدو جليا بين الأعراب وغيرهم من ساكني الحجاز، وهو مصطلح إشكالي، إذ يخيّل إلى القارىء أنه الأصل اللغوي الذي اشتقت منه تسمية الهوية العربية، ولكن بما أن معظم الآيات التي تتناول الأعراب تأتي في سياق اللوم والترهيب، فمن المستبعد أن يكون المقصود بهذا المصطلح عامة العرب.
ومن هنا، تأتي أهمية هذه الكلمة؛ فالقرآن يصف إبراهيم بها، بل يطلق هذه التسمية على ملته كلها. يقول شمس الدين؛ إن مصطلح حنيف يرد في معظم الآيات القرآنية في صيغة الحال التي تصف شكلا من أشكال تعبد النبي إبراهيم الخالص لله، الذي يعتبر النموذج القرآني الأمثل لما يسمى قرآنيا بالحنيف. ومن ثم، فإن المفردة لا تقتصر على كونها نعتا لإبراهيم أو أي مؤمن آخر توحيدي خالص، كما يتم تفسيرها في معظم المراجع، ولكنها تشير إلى احتمال وجود ديانة أو ملة مستقلة كان يدعو إليها النبي إبراهيم، ويبدو أن هذه الملة تشبه الإسلام من حيث إنها ملة توحيدية، بمعنى أن إبراهيم كان حنيفا بحسب ملته، وليس كصفة خاصة به كشخص مؤمن.

ففي بعض الآيات يأمر الله محمدا وغيره من الناس باتباع ملة إبراهيم. يضيف شمس الدين أنه بما أن الجذر العربي للكلمة يعني الميل والانحراف، فقد يكون المعنى هو الانحراف عن الأديان السائدة أو الموروثة، والميل إلى دين جديد. ويدل على ذلك دلالة المعنى السرياني الأصيل للفظة (ح-ن-ب)، إذا عد أصلا للفظ العربي، فهو يعني الصابئ الذي ترك دين آبائه وعشيرته والتحق بدين آخر. ولذلك، رأينا أن المسيحيين السريان كانوا يطلقونه على الصابئة. وعلى ذلك، فإن المعنى العربي القرآني لا يختلف عن المعنى السرياني المسيحي، إن اشتركا في الجذر نفسه أم اختلفا.

عن الصحابة

في بحثه في مصطلح الصحابة، يلفت شمس الدين إلى إشارة آيات من القرآن الكريم إلى الصحابة، لكن دون أن ترد الكلمة نفسها في أي منها. أما الصيغة الأخرى للكلمة "أصحاب" فشائعة في النص القرآني، ولكنها لا تنطوي على أي معنى للصداقة أو الرفقة بأي شكل من الأشكال. يقول؛ إنه في الآيات الثمانية والسبعين التي ظهرت فيها كلمة أصحاب، لا شيء يتعلق بالنبي محمد. في حين أن كلمة صاحب تظهر في حالة واحدة فقط وترتبط بالصحابي أبي بكر الصديق في الآية 40 من سورة التوبة " إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". ومن ثم إذا افترض المرء أن كلمة الصحابة تأتي من "سلالة قرآنية، فإن هذه الآية ستكون الأصل الوحيد الذي يمكن تصوره للكلمة".

يتابع شمس الدين؛ إن كلمة صاحب مفرد أصحاب مستخدمة في القرآن إحدى عشرة مرة، واحدة فقط منها المذكورة أعلاه تتعامل مع النبي وأحد أصحابه، وفي أربع حالات أخرى يتم استخدام المصطلح لوصف النبي نفسه كما في الآية 46 من سورة سبأ " قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ۖ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ". ويقصد شمس الدين من ذلك، أن مصطلح الصحابة "لا يصح أن يكون قد اشتق من القرآن... ولا بد من التذكر دائما أننا نتحدث عن مصطلح الصحابة بهذا الوزن تحديدا ومفرده صحابي".

أما في الأحاديث، فيقول شمس الدين؛ إنها لم تستخدم صيغة صحابة بل صيغة أصحاب، وبعضها بعيد عن إظهار المكانة العالية التي يتمتع بها الصحابة، لكن هناك أحاديث أخرى تدل على المكانة الفريدة للصحابة أو الأصحاب، مثل حديث: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". ويوضح شمس الدين أنه من المتوقع أن هذه الأحاديث توجهت في البداية إلى الناس الذين عاشوا زمن النبي. وهذا يعني أن النبي كان يصنف الجيل الذي كان يعيش في عصره، ويبدو أن بعضهم كانوا أصحابه، وهو يطلب من الآخرين عدم إهانتهم، حتى وإن كان أولئك الذين يتلقون الخطاب من النبي يرونه ويتعلمون منه، وسيعتبرهم المسلمون في زمن لاحق "صحابة". مثال على ذلك قصة خالد بين الوليد مع عمار بن ياسر، عندما طلب النبي من الأول ألا يهين من هم أفضل منه، قاصدا عمار. بينما يعتبر المسلمون الجيل بأكمله من الأصحاب على أنهم "صحابة".

يرى شمس الدين، أن النبي كان يعتبر مجموعة محددة  من الناس أصحابا له وليس بالضرورة كل من عاصره وعايشه. ويذكّر بأن "علماء المسلمين لم يتفقوا على من يستحق من مسلمي الجيل الأول لقب صحابي، أي من منهم كانوا من صحابة الرسول لا مجرد أتباع. فالتمييز مهم؛ لأن الصحابة يعدون جديرين بالثقة في نقلهم الحديث والسنة بشكل عام، ناهيك عن نقل القرآن. وغني عن القول؛ إن القرآن هو أهم مصدر لجميع التعاليم الإسلامية. ومع ذلك، فإن العديد من الأحكام التفصيلية وغيرها من الأمور الدينية غير موجودة في القرآن، ولكن في السنة التي تستمد سلطتها من معرفة أولئك الذين شاركوا في نقلها، وأهمهم الصحابة. ومن ثم، فإن الفشل في معرفة الصحابة يمثل الفشل في إرساء أساس لاهوتي لأفعال المرء الدينية.".

يلفت الباحث والمفكر رضوان السيد، في تقديمه للكتاب، إلى أن المفاهيم التي اشتغل عليها شمس الدين، جرت دراسات حولها من قبل، لكنه بالمقاربة النقدية والمقارنات والعودة إلى أصول التعابير والمفردات، أراد الوصول إلى مستقر بشأنها. وبحسب السيد، فإنه قد حقق إنجازات بالفعل قد لا يتفق الجميع حولها، لكنها تشكل استنارات ما عاد تجاهلها ممكنا. بمعنى أنه صار هناك وضوح نتيجة القراءة الداخلية المقارنة للقرآن التي قام بها الباحث، بحيث لا يمكن العودة إلى اعتبار هذا التأويل أو التفسير خلافيا.