بدأ في
السودان صراع مسلح بين مكونين عسكريين من أجل الظفر بالسلطة
والقضاء على الطرف الآخر في بلد يعيش منذ سنوات أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة،
وهو صراع ترجح أغلب التقارير الدولية بأنه سيطول. وليس إجلاء الرعايا الأجانب
والبعثات الدبلوماسية المعتمدة هناك إلا دليلا على أن الأزمة المسلحة لن تكون أزمة
ظرفية كسابقاتها.
أسباب الصراع معلومة وأهداف المتصارعين على الساحة المحلية معروفة
للجميع لكن المشهد السوداني لن يكون هذه المرة منفصلا عن تفاعلات الإقليم من ناحية
أولى وخاصة ما تعلق بدور العسكر في التغيرات السياسية. وهو من جهة مقابلة لا يستقل
بنفسه عن مسارات التحولات الكبرى التي عرفتها الساحة العربية منذ عشر سنوات تقريبا
ضمن ما يعرف بثورات الربيع.
ما هي خصوصيات المشهد السوداني؟ وما هي تأثيراته المحتملة على
المنطقة ككل؟ وكيف يكشف هذا المشهد الجديد عن التردي الذي أصاب الحالة العربية؟
المشهد السوداني
يحمل هذا المشهد تناقضات صارخة فالبلد من جهة أولى واحدة من أغنى
الدول الإفريقية والعربية على الإطلاق لكن شعبها هو من بين أفقر شعوب المنطقة.
فبعد سنوات من تداول الحكم المدني والعسكري لم ينجح الفرقاء السودانيون في الوصول
إلى مرحلة من الاستقرار السياسي الذي يضمن الحدّ الأدنى من شروط الاستقرار
الاجتماعي. فقد عرفت السودان صراعات دامية خاصة في إقليم دارفور وانتهى الأمر
بتقسيم البلاد إلى دولة السودان ودولة جنوب السودان لكن هذا الوضع الجديد لم يقض
على جذور الأزمة التي بقيت قائمة على كل المستويات تقريبا.
فبعد انقلاب عمر البشير العسكري سنة 1989 على الحكومة المنتخبة
متحالفا مع الجبهة القومية الإسلامية التي يعتبر زعيمها حسن الترابي المنظّر
الأساسي للانقلاب على حكومة الصادق المهدي استفرد البشير بالسلطة بعد أن أطاح
بالترابي سنة 1999 ليستمر حكمه قرابة ثلاثين سنة.
مارس البشير طوال فترة حكمه العسكري كافة أشكال القمع والتنكيل
بالمعارضين وألغى الحياة السياسية ودجن الصحافة وتورط في جرائم
حرب وإبادة جماعية
في دارفور كما وطد علاقاته مع النظام الإيراني الداعم بقوة لكل الأنظمة العسكرية
الاستبدادية في بلاد العرب. تمت الإطاحة بالبشير في 2019 من قبل الجيش ووضع تحت
الإقامة الجبرية من أجل امتصاص الغضب الشعبي في الشارع السوداني وتسلم السلطة بعد
ذلك عسكري آخر هو وزير الدفاع الحالي عبد الفتاح البرهان.
السودان من جهة أخرى جرح جديد ينضاف إلى المشهد السوري والعراقي واللبناني واليمني والليبي بشكل تكون فيه الشعوب الضحية الأساسية لصراع المتكالبين على السلطة. وهي الصراعات التي تدشن طورا جديدا من أطوار التاريخ العربي المعاصر بعد فشل المسارات السلمية أو إفشالها من قبل النظام الرسمي نفسه.
بعد الإطاحة بالبشير حاول العسكر امتصاص غضب الشارع المطالب بحكومة
مدنية وبضرورة تسليم العسكر السلطة إلى المدنيين وهو ما وعدت به القيادات
العسكرية. لكن الوثيقة الدستورية التي تم الاتفاق عليها بين المجلس العسكري
الانتقالي من جهة وقوى إعلان الحرية والتغيير من جهة ثانية لم تطبق ولم تحترم
بنودها لأن المنظومة العسكرية كانت تسعى في الحقيقة إلى ربح الوقت من أجل العودة
إلى الاستبداد بالسلطة واستنساخ النظام العسكري في مصر.
اليوم يعود الصراع المسلح على السلطة إلى الواجهة لكنه هذه المرة ليس
صراعا بين موّن مدني ومكوّن عسكري أو بين الشعب والأحزاب السياسية من جهة والقوات
المسلحة من جهة ثانية بل هو ولأول مرة صراع بين فصيلين عسكريين. المعركة اليوم في
الخرطوم هي معركة حسم عسكري بين فصيلين عسكريين داخل المجال العسكري نفسه.
الإقليم وتداعيات المشهد السوداني
لا يخفى اليوم على أحد أن المشهد السوداني لا يختلف كثيرا عن بقية
المشاهد العربية على الأقل في خاصيتين : تتمثل الخاصية الأولى في قوة حضور الفواعل
الإقليمية داخل هذا المشهد سواء منها الفواعل العربية مثل مصر والإمارات مثلا أو
الفواعل الأجنبية مثل دولة الكيان المحتل. أما الخاصية الثانية فتتجلى في خطورة
الصراع هناك على كامل دول الجوار المباشرة وخاصة دول حوض النيل إضافة إلى ليبيا
ومصر وهو ما يمنح الصرع طابعا إقليميا قابلا للتمدد.
من جهة ثانية لا تبدو الأطماع الصينية والروسية وحتى الاسرائيلية
بعيدة عن هذا الصراع وتطوراته بسبب التنافس الكبير بين هذه القوى على ثروات البلاد
ومناجم الذهب فيه أو بسبب رغبتهم في التحكم في مسارات مجاورة مثلما هو الحال في
ليبيا مثلا أو في مصر. إن حضور قوات مصرية على الأرض السودانية وتواتر التقارير عن
سعي الانقلابي حفتر إلى تزويد أحد طرفي النزاع متمثلة في قوات الدعم السريع
بالسلاح والمرتزقة تشكل علامة بارزة على تورط القوى الإقليمية بشكل مباشر في
الصراع المسلح هناك.
لكن ما هي مآلات الحرب الدائرة وهل يمكن أن تنجح الوساطات الإفريقية
والدولية والعربية في نزع فتيل الأزمة قبل أن تخرج عن السيطرة؟
لقد نجح النظام الرسمي العربي في وأد محاولات التغيير السلمية التي كان قادرا على مسايرتها والاستفادة منها لكنه لن يكون قادرا على التحكم في المسارات العسكرية التي تتحكم فيها قوى دولية قد يكون اليوم من مصلحتها التخلص من هذا النظام واستبداله بنظام جديد وهو الذي اُكل يوم اُكل الثور الأبيض.
لا يمكن في هذا السياق التعويل على القوى الدولية التي تملك كل واحدة
منها أجندة خاصة في السودان وفي دول إفريقيا بل إنها ترى في تمدد النزاع المسلح
فرصة نادرة للتغلغل أكثر داخل القارة التي تعج بالموارد والثروات الباطنية. العرب
هم الغائب الأبرز بسبب انقسام الموقف الرسمي من المشهد وبسبب ضعف الجامعة العربية
وارتهانها لقرارات هذه الدولة أو تلك وهو ما يعني أنهم سيكونون كالعادة الخاسر
الأكبر من هذه الحرب الجديدة. .
السودان من جهة أخرى جرح جديد ينضاف إلى المشهد السوري والعراقي
واللبناني واليمني والليبي بشكل تكون فيه الشعوب الضحية الأساسية لصراع المتكالبين
على السلطة. وهي الصراعات التي تدشن طورا جديدا من أطوار التاريخ العربي المعاصر
بعد فشل المسارات السلمية أو إفشالها من قبل النظام الرسمي نفسه. لقد نجح النظام
الرسمي العربي في وأد محاولات التغيير السلمية التي كان قادرا على مسايرتها والاستفادة
منها لكنه لن يكون قادرا على التحكم في المسارات العسكرية التي تتحكم فيها قوى
دولية قد يكون اليوم من مصلحتها التخلص من هذا النظام واستبداله بنظام جديد وهو
الذي اُكل يوم اُكل الثور الأبيض.