قُلْ ما شئت في
صدام حسين فلن تُجانب الصواب لكنك لن تستطيع مهما
فعلت أن تتجنّبه في أي حديث يخص حال بلاد العرب اليوم من المشرق إلى المغرب. في
الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق وسقوط بغداد تتفتح الجراح من جديد حول الدور
الذي لعبه حاكم
العراق وحزب البعث في المآلات الدرامية التي آل إليها العراق ومن
ورائه كامل المنطقة المشرقية والتي لا تزال أصداؤها تتردد إلى اليوم في كامل الوطن
من المحيط إلى الخليج.
ليس مدار الحديث هنا محاكمة الرجل أو تصنيفه لكن الواقع يفرض علينا
بقوة مراجعة الحالة التي سقط فيها العراق أو أسقط فيها هدفنا في ذلك تحقيق الشروط
الكفيلة بمنع تجدد الحالة العراقية للأجيال القادمة.
صدام بين فريقين
يرى فيه أنصاره وهم السواد الأعظم من العرب والمسلمين قائدا عظيما
ورمزا من رموز الصمود الذي حارب جحافل الغزاة الصليبيين القادمين من وراء البحار
لاحتلال بغداد حاضرة الأمة. إنه القائد الشهيد الذي مات وهو ينطق الشهادتين بعد أن
تكالب عليه الفرس والأمريكان ومعظم الأنظمة العربية التي شاركت بقوة في تسليم
العراق إلى أمريكا وإيران. دليلهم في ذلك ما وصل إليه العراق بعده من فساد وطائفية
وقتل على الهوية بل وصل الحال بالعراق إلى الجوع والعطش ومخاطر التقسيم.
ليس الهدف من استحضار صورة صدام محاكمة الرجل بل إن الهدف الأساسي هو وضع الأسباب الكفيلة بمنع تجدد حالة الحكم الفردي المطلق في غيره من البلاد العربية. حكم البعث تجربة انتهت إلى الخراب لتكون درسا للأجيال القادمة مضمونها أن حكم الفرد المطلق مهما بلغ من القدرة على سحر الجماهير فإنه سينتهي حتما بخراب الأوطان.
أما خصومه فيرون فيه سبب خراب العراق وخراب المنطقة منذ أن قرر غزو
بلد جار واستباحة أراضيه فوفر للغزاة ذريعة لدمار العراق. هو كذلك نسخة أصلية
للطاغية العربي الذي لا يرحم مثله مثل القذافي وبشار وعبد الناصر وبومدين وغيرهم
من المستبدين الذين حولوا بلادهم إلى مزارع للقمع يموت فيها المواطن جوعا أو سجنا.
عنتريات صدام ومغامراته هي من أوصل العراق والمنطقة إلى الحال التي هي عليها اليوم
وهي التي سلمت البلاد إلى المليشيات الإيرانية والجيوش الأمريكية.
الموقفان في الحقيقة وجهان لعملة واحدة فكل فريق يقيم شخصية حاكم
العراق حسب السياق الذي هو فيه فأهل الخليج عامة وأهل الكويت خاصة يرون فيه طاغية
لأنه استباح بلادهم وقتل أهلهم وفتح باب الخليج على الغزو الخارجي. أما الشعوب
العربية البعيدة عن السياق العراقي في مصر أو شمال أفريقيا فهي تري فيه زعيما
عربيا لأنه وقف أمام الغزاة وقصف عاصمة دولة الاحتلال.
العراق وشعب العراق
لكن الغائب الأساسي عن هذا التقييم هو الشعب العراقي نفسه وهو الوحيد
القادر على الحكم على عقود من حكم البعث. دخل العراق بعد سلسلة من الانقلابات
الدامية والمجازر المرعبة مثل مجزرة قصر الرحاب إلى حقبة حكم البعث التي تميزت
بالحكم الشمولي المطلق وغياب الأحزاب السياسية وحرية الإعلام ودولة المؤسسات. كان
صدام الحاكم بأمره ثم قرر إدخال العراق إلى أتون الحرب مع إيران لتحصد الحرب ما لا
يقل عن مليون عراقي دون حساب الجرحى والمصابين. بعدها مباشرة دخل العراق إلى
مغامرة غزو الكويت وكان الغزو فرصة أمريكية نادرة لاحتلال الخليج وغرس قواعده في
كل دول المنطقة.
يضيق المجال هنا عن التذكير بعدد الأطفال العراقيين الذين ماتوا جوعا
ومرضا بسبب الحصار وعن عدد القتلى من الجانب الكويتي وعدد آبار النفط التي أحرقت
وعدد القتلى في بغداد وحدها جراء القصف الأمريكي. عدد المذابح والمجازر يفوق الوصف
ثم دخلت العراق أتون الحرب الطائفية بعد أن انتشرت المليشيات الإيرانية في كل ربوع
العراق رافعة رايات الثأر للحسين وعلي وفاطمة من أبناء يزيد وأحفاد معاوية.
دُمر العراق ونسفت الدولة ودخل المشرق العربي مرحلة خطيرة لم يغادرها
إلى اليوم بعد أن تحول العراق إلى مصدّر للمليشيات والجماعات الجهادية وتركّز فيه
الصراع الطائفي بين السنة والشيعة أو بعبارة أدق بين المشروع الفارسي والوجود
العربي.
الشارع العربي
بقي الشارع العربي باستثناءات قليلة جدا ممزقا بين ما آل إليه العراق
من خراب بسبب سياسات صدام وخاصة غزو الكويت وبين صورة صدام التي رسخت في ذهنه
وصولا إلى مشهد الإعدام الشهير. الشعوب العربية شعوب عاطفية زادتها الهزائم
التاريخية إحساسا حادا باليتم الحضاري لذا كانت صورة الزعيم عندهم حالة من التعويض
عن صورة الأب وصورة الحامي القادر على دحر الغزاة.
السلطة والحكم مسؤولية جسيمة لا تتعلق بالشخص الحاكم وصفاته بقدر ما تتعلق بما ينجزه من منجز على الأرض وأوله تأمين الوطن وساكنيه من مخاطر الفوضى والحروب التي قد ينزلق إليها الحاكم بعنترياته المنفلتة.
لا نلوم السواد الأعظم من شعوب العرب على هذا الحنين القوى والتعاطف
اللامشروط مع حالة صدام حسين خاصة أنها شعوب قد تعرضت إلى أبشع عمليات تجريف الوعي
وقصف العقول وتدجين الذاكرة. كانت الدعاية القومية في التسعينات على أشدها وهي
التي ساهمت في صناعة هالة من العظمة حول صورة الزعيم كما فعلت قبل ذلك مع القذافي
وعبد الناصر وغيرهما. وكانت الدعاية مركزة على تخوين أهل الخليج والنفخ في صورة
الجيش العراقي الذي لا يهزم وقائده البطل المغوار الذي لا يتراجع.
فماذا كانت الحصيلة النهائية؟ خراب العراق وموت الملايين وتدمير
المنطقة وتركيز القواعد الأمريكية في كل الخليج. غُيّب العقل والمنطق فلا صوت يعلو
فوق صوت المعركة لقد شكل العداء لأمريكا حائط دخان يحجب كل صوت ناقد لمغامرات
القائد الرمز والبطل الضرورة والزعيم الخالد وشهيد الفجر والركن المهيب.
ليس الهدف من استحضار صورة صدام محاكمة الرجل بل إن الهدف الأساسي هو
وضع الأسباب الكفيلة بمنع تجدد حالة الحكم الفردي المطلق في غيره من البلاد
العربية. حكم البعث تجربة انتهت إلى الخراب لتكون درسا للأجيال القادمة مضمونها أن
حكم الفرد المطلق مهما بلغ من القدرة على سحر الجماهير فإنه سينتهي حتما بخراب
الأوطان.
السلطة والحكم مسؤولية جسيمة لا تتعلق بالشخص الحاكم وصفاته بقدر ما
تتعلق بما ينجزه من منجز على الأرض وأوله تأمين الوطن وساكنيه من مخاطر الفوضى
والحروب التي قد ينزلق إليها الحاكم بعنترياته المنفلتة.