كتب

مفهوم التاريخ المعاصر للطبقات الفقيرة والمهمشين صانعي الأحداث

التاريخ الشفوي هو الطريق الأقدم والأحدث في كتابة التاريخ
الكتاب: "التاريخ الشفوي والوثيقة التاريخية- أحداث السورية الكبرى 1925 ـ1927 أنموذجًا"
الكاتب: نصار واكد واكد
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق ، الطبعة الأولى 2022
(175 صفحة من القطع الكبير)


يتألف هذا الكتاب، الذي يحمل العنوان التالي: "التاريخ الشفوي والوثيقة التاريخية-أحداث السورية الكبرى 1925-1927 أنموذجًا"، من بابين متكاملين هما التاريخ الشفوي والوثيقة التاريخية (دراسة منهجية)، يتكون كل باب من عدة فصول، وعلى هذا النحو يعالج الباب الأول (عشرة فصول صغيرة) الرواية الشفوية في الكتابة التاريخية ودورها في توثيق الحقائق والأحداث التاريخية ومُحاولاً وضع أسس علمية منهجية في عملية تحويل الرواية الشفوية إلى تاريخ مدون مع دعوة المؤرخين الباحثين في التراث الشفوي إلى الاهتمام بالرواية الشفوية ولا سيما ما يتعلق بأحداث الثورة السورية الكبرى 1925م لكونها تربة خصبة تقدم الكثير من المعلومات عن تاريخنا الوطني. بينما يهتم الباب الثاني(خمسة فصول) بدراسة الوثيقة التاريخية، ،وقد صدر الكتاب عن الهيئة العامة السورية للكتاب في عام 2022، ويتكون من 175 صفحة من القطع الكبير، للمؤرخ الباحث نصار واكد واكد.

ففي الفصل الأول، التاريخ الشفوي بداية من التعريف بالتاريخ والفرق بين التاريخ والتأريخ والعلاقة بين الرواية الشفوية والتاريخ الشفوي، وأهمية التاريخ الشفوي، وفي الفصل الثاني: نشأة التاريخ الشفوي والمؤتمرات الدولية حوله، والفصل الثالث: منهجية البحث العلمي في التاريخ وتقنياته وإشكالياته المتنوعة، وفي الفصل الرابع: موقف كل من المؤيدين والمعارضين لتدوين الروايات الشفوية وفي الفصل الخامس: دور الروايات الأدبية والتاريخية في التاريخ الشفوي، الفصل السادس: تأريخ الرواية الشفوية (رواية من أحداث الثورة السورية الكبرى 1925م أنموذجاً)، الفصل السابع: الرواية الشفوية بصدد التدوين، الفصل الثامن: الإشكاليات في التاريخ الشفوي، الفصل التاسع: مقارنة بين الروايات حول حدث واحد (معركة الصوخر أنموذجاً) وأخيراً الفصل العاشر: المستشرقون الأوربيون والروايات الشفوية التي دونوها.

الفصل الأول

من وجهة نظر الباحث نصار التاريخ علم إنساني عالمي، وجد بوجود الإنسان، وبمرور الزمن وتنوع الأمكنة والأحوال شكلاً ومضموناً ونصاً ومفهوماً، وتكونت حضارات متنوعة متعاقبة، وارتقت جماعات بشرية واندثرت جماعات أخرى، وتاريخ سورية عريق بجذوره الراسخة عبر الزمن، بسبب كثرة الأحداث التاريخية وتعاقب الأجيال، وبالرغم من جهود السابقين من المؤرخين في تسجيل أحداث التاريخ وتحديد مساراته وإدراك مكتشفاته، فإنّ الدراسات في هذا المجال غير كافية، جاءت بعضها صحيحة وتارة أخرى معرفة، من هنا تأتي أهمية إعادة قراءة الأحداث التاريخية في جوانبها المضيئة وجوانبها المظلمة، وذلك بعين فاحصة ناقدة واعية متجردة، بالاستعانة بالمصادر المتنوعة، ومنها التاريخ الشفوي، من أجل تزويد الأجيال المعاصرة بالثقة بنفسها وبتاريخها بمصداقية وموضوعية.

وبما أننا نعيش اليوم في عالم متغير، تتجدد فيه العلوم باستمرار، فلم تعد هناك قواعد ثابتة أو حقائق مسلم بها، فكل المعارف قابلة للتجديد والتطوير والتحديث، وقد شهد العالم في العقد الأخير من نهاية الألفية الثانية موجة من التحولات التي غيرت حياة المجتمعات كلها عما كانت عليه في العصور السابقة، وحقق علم التاريخ كغيره من العلوم قفزة نوعية بأدواته ومصادره المتعددة ومناهجه العلمية المتعلقة بالبحث التاريخي، مما أدى إلى نشوء ميادين جديدة منها التاريخ الشفوي، للوصول إلى الحقيقة التاريخية ووقائعها بموضوعية علمية، كما تنازعت آراء ونظريات حول تحديد شأن التاريخ الشفوي ودوره في إبراز المسكوت عنه في التاريخ بما ذلك دور المهمشين في الحياة الاجتماعية والوطنية والإنسانية، وهكذا الحال مع بداية الألفية الثالثة التي شهدت قيام الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات في كل الميادين، مما أدى إلى خلق مجتمع الغد الآتي المليء بالمتغيرات والتحديات.

ماهو التاريخ الشفوي

لا يدّعي الباحث نصار أنَّه يقدم أجوبة شاملة وكافية عن جميع الأسئلة التي يثيرها هذا البحث، ولكنه يقدم دراسة منهجية تساهم في مساعدة الباحثين لدراسة أحداث التاريخ الشفوي كمصدر مهمّ في كتابة التاريخ وخاصة تاريخنا المعاصر، الذي شهد أحداثاً مهمة في معظم أنحاء الوطن العربي، ففي النصف الأول من القرن العشرين شهد العديد من الأحداث والصراعات، من أهمها النضال الذي خاضته الشعوب في الكفاح المستمر من أجل التحرر والاستقلال من سيطرة القوى الاستعمارية، إنه تاريخ مشرق ومجيد يتطلب من كل باحث أن يتقصى الحقيقة وإبرازها في كتابة تاريخنا بموضوعية.

كما تساهم الدراسة في إعادة قراءة وتفسير مستمر للتاريخ مما يشكل تطوراً تراكمياً، بمعنى أنها تضيف مزيداً إلى الرصيد المعرفي باستمرار، لا بهدف تكرار الماضي وإنما البحث عن رؤية جديدة لهذا الماضي، تناسب الحاضر، وانطلاقاً من الفهم الحضاري للتاريخ والتقيد بأسلوب البحث العلمي تم اختيار التاريخ الشفوي كمحور في هذا البحث لأهميته التاريخية، ولأنه الطريق الأقدم والأحدث في صناعة التاريخ، ولاعتباره مدخلاً بل ثورةً في مفهوم التاريخ المعاصر كونه تحوّل من تأريخ النخب والقادة إلى تأريخ الطبقات المسحوقة بما في ذلك دور المهمشين من صانعي الأحداث التاريخية، وإبرازاً للخصوصية الثقافية والاجتماعية في حياة الشعوب، وهذا ما أكدته منظمة اليونسكو عام 1984م في خطتها المتضمنة المحافظة على التراث الشفوي وجعله من محفزات التنمية، ومن الطبيعي الاهتمام بالتأريخ الشفوي من قبل مؤرخين وجدوا هفوات في التاريخ الرسمي، ولم يجدوا حرجاً في استخدام الروايات الشفوية التي تزود الباحثين بمصادر جديدة لدراسة الأحداث المعاصرة، تلك الروايات التي ما زال صانعوها على قيد الحياة، والتي تتضمن عدداً من الحقائق، تكشف عن أبحاث ومواضيع متعددة ومتنوعة، وتبني عليها مواقف إيجابية أو سلبية، وتفتح أمام الباحثين أبواباً للاجتهاد والدراسة والتحليل والتعليل.

شهد العالم في العقد الأخير من نهاية الألفية الثانية موجة من التحولات التي غيرت حياة المجتمعات كلها عما كانت عليه في العصور السابقة، وحقق علم التاريخ كغيره من العلوم قفزة نوعية بأدواته ومصادره المتعددة ومناهجه العلمية المتعلقة بالبحث التاريخي
يقول الباحث نصار في تعريفه للتاريخ الشفوي: "إن تسليط الضوء على أهمية التاريخ الشفوي (Oral  History) في كتابة تاريخنا المعاصر هو الهدف الأسمى لإثراء الكتابة التاريخية في المجال الوطني، نظراً لوجود إشكالية في التاريخ المدون الذي يعاني النخبوية والانتقائية والتركيز على الرواية الرسمية مقابل تجاهل دور الشعب في صناعة الحدث التاريخي، فالكثير من الأحداث المهمة في تاريخ سورية، كان لها الوقفات المهمة في التاريخ المعاصر تمثلت تلك الوقفات في أحداث الثورة السورية الكبرى 1925م ضد الاستعمار الفرنسي من أجل الحرية والاستقلال، وتنفرد الرواية الشفوية في إغناء أحداثها لأسباب متعددة منها، طبيعة العمل الوطني الهادف إلى مقاومة الاستعمار أو الانتداب الفرنسي لسورية، والنشاط السري وخاصة في الفترة الزمنية التي بدأت الشعوب فيها تتوثب لتحرير أرضها من المحتلين الأجانب، ولا شك أن الذي يفرض تفادي كتابة تفاصيل المواجهة هو عدم وقوعها في أيدي المستعمر أو الموالين له، والكثير من الروايات الشفوية تخبرنا أن عدداً من الأشخاص الذين يملكون وثائق مدونة مهمة، قد أحرقوها أو أعدموها حرصاً على السرية التامة والسلامة"(ص11).

وهكذا، فإنَّ التاريخ الشفوي،كما يطلق عليه الباحث نصار هذه التسمية ، هو تاريخ المسحوقين أو المهمشين أو التاريخ المروي عن الآخرين، أو ما سمعوه من أحداث جرت في الماضي، وهو مستوحى من أفواه المعاصرين، ويعتبر أحد الروافد المهمّة في التاريخ الإنساني، ومن المصادر المهمة لكل أمة تعتني بتاريخها، فهو يهتم بجمع ودراسة الأحداث المهمة والمعلومات التاريخية عن الأفراد والأسر أو الحياة اليومية باستخدام التسجيلات الصوتية، ومحاضر المقابلات أو حفظ وتسجيل وتفسير المعلومات التاريخية، ويعرف التاريخ الشفوي بأنه عملية رصد حدث ما وتوثيقه وفق منهجية على أسس علمية محايدة للوصول إلى حقائق وقواعد تساعد على فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، ويكون مكملاً للتاريخ المكتوب، بما يحمله من تصحيحات مباشرة للأحداث التي تحتاج إلى مصداقية في روايتها.

والتاريخ في اللغة العربية يعني الزمن وبيان الوقت وإثبات الواقعة (أرخت الكتاب يعني بينت وقت كتابته، وتاريخ الشيء يعني وقت حدوثه كما تعددت التعريفات بين المؤرخين قديماً وحديثاً، ومن أفضل تعريفات التاريخ ما وضعه ابن خلدون (إن التاريخ له ظاهر وله باطن، إن الظاهر يروي كل ما يحدث في البلاد، ولكن باطن التاريخ هو تعليل الكائنات ومعرفة الوقائع ومعرفة كيفية حدوثها).

التاريخ والتأريخ

التاريخ (History) بالهمزة المسهَّلة: يعني الأحداث التي حصلت عبر الزمان، وهو سلسلة طويلة من الحوادث الصغيرة والكبيرة، وإثبات الواقعة في الماضي لدراسة الماضي الإنساني، واختصاراً يعرف التاريخ بأنه وقائع موضوعية حدثت فعلاً بالماضي، أما التأريخ (Historiography) الهمزة على الألف فيعني العمل الذي يمارسه المؤرخ، من أجل تسجيل حقيقة الماضي تسجيلاً قد يطابق تلك الوقائع وقد لا يطابقها، بشكل معتمد أو غير متعمد، وهذا ما نجده عند استقراء الأحداث من مصادر مختلفة، وهذا ما ينطبق على واقعنا العربي الحالي.

والتأريخ عمل يمارس بالحاضر يمارسه المؤرخ لتدوين تلك الأحداث ويستعين فيه بالأخبار والآثار والروايات والسجلات والمذكرات والوثائق، ليستخرج منها المادة التاريخية التي يعمل على تدوينها وبمعنى أوضح العمل الذي يقوم به الباحث أو المؤرخ من أجل تسجيل الخبرات والتجارب البشرية والأحداث التاريخية التي جرت في الماضي، والتأريخ يعتبر علم المعرفة التاريخية ويخضع للنقد، ويعتمد على التفكير الاستقرائي المتصف بالتحليل والتعليل، وشبه بالعلوم الطبيعية (الجيولوجيا) فالجيولوجي يدرس طبقات الأرض ليعرف كيف صارت إلى حالتها الحاضرة ليتمكن من التعامل معها، والمؤرخ يدرس الآثار ليفسر بواسطتها ماضي المجتمعات البشرية، لذلك اعتمد التاريخ بنظر العلماء المقياس المهمّ لقياس التقدم الذي أحرزه أي مجتمع.

يقول الباحث في معرض تحليله للتاريخ الشفوي و للرواية الشفوية:"التاريخ الشفوي هو شكل من أشكال النشاط الإنساني، ويشكل تقنياً ومنهجياً مرحلة لاحقة على الرواية الشفوية، وهو تاريخ مكتوب معتمد على تحقيقات ومرويات شفوية ومرتبط بعدد من العلوم الإنسانية، يقوم بجمع ودراسة الأحداث المهمة والمعلومات التاريخية عن الأفراد والأسر أو الحياة الاجتماعية اليومية أو دراسة حياة وخبرة شخص أو مجموعة من أشخاص ذات علاقة بأحداث قريبة، وذلك بالوسائل المساعدة من الفيديو أو التسجيلات الصوتية أو محاضر المقابلات الشفوية، بقصد الحصول على المعلومات من وجهات نظر المختلفة، أكثر من التي يمكن الحصول عليها من المصادر المكتوبة ويكون مكملاً بل مصححاً للتاريخ المكتوب.

الرواية الشفوية هي مادة التاريخ الشفوي وهي تلك الأخبار المتواترة عن أحداث تاريخية ماضية يروي مدوّنة يتناقلها الأحفاد عن الأجداد ويتم تداولها في المجتمع، تراعي الزمان والمكان والبيئة، وعلم الرواية هو الذي يعتمد على الرواية والنقل عن الغير، كما تعرف الرواية الشفوية بأنها ما يرويه الإنسان رواية شفوية متواترة وذكريات تتعلق بالماضي البعيد، اكتسبت شهرة واسعة، وانتقلت من جيل إلى آخر، ولعدة أجيال (ص17).

نشأة التاريخ الشفوي وأهميته

التاريخ الشفوي هو الطريق الأقدم والأحدث في كتابة التاريخ ، فقد حظيت فكرة التاريخ الشفوي في منتصف القرن العشرين باهتمام كبير من قبل المؤرخين والباحثين في العديد من مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد خلصت دراسات جديدة لإبراز أهمية هذا النوع من التاريخ وقيمته التاريخية، وكذلك أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه في توسيع دائرة فهمنا ومعارفنا الاجتماعية على صعيد الأفراد والجماعات على حد سواء، وإن دراسة التاريخ المعتمد على الرواية الشفوية والذاكرة الفردية قديم عند جميع المؤرخين، وما زال يثير مشكلات عديدة منها المعرفية ومنها المنهجية.

ترتبط أهمية المصادر الشفوية بالأهداف التي أُعدت من أجلها، وتبقى أداة لسرد حقائق وملامح الماضي، بمختلف جوانبه وأنشطته ومعارفه، بل يمكن أن نَصِفها بأنها تصب في خدمة العديد من فروع المعرفة، وعلى الرغم من أنه قد يثار خلاف حول صحتها وشرعيتها، ومدى التعويل عليها ومصداقيتها، تعد من مصادر المعلومات التي تستخدم لتدعيم وتوثيق أحداث الماضي.

التأريخ يعتبر علم المعرفة التاريخية ويخضع للنقد، ويعتمد على التفكير الاستقرائي المتصف بالتحليل والتعليل، وشبه بالعلوم الطبيعية (الجيولوجيا) فالجيولوجي يدرس طبقات الأرض ليعرف كيف صارت إلى حالتها الحاضرة ليتمكن من التعامل معها، والمؤرخ يدرس الآثار ليفسر بواسطتها ماضي المجتمعات البشرية، لذلك اعتمد التاريخ بنظر العلماء المقياس المهمّ لقياس التقدم الذي أحرزه أي مجتمع.
يقول الباحث نصار: "إن دراسة الماضي ومعرفته من خلال الروايات الشفوية ليست أمراً جديداً، فقد وجدت المصادر المدونة والمصادر الشفوية جنباً إلى جنب عبر التاريخ؛ إِذ اعتمد التاريخ الشفهي في بداياته الأولى على روايات شهود العيان لأحداث معينة، حتى تطور علم التاريخ، وكانت الأولوية في كتابة التاريخ اعتماداً على المواد الوثائقية، وتهميش الشواهد الشفهية، حتى ظهر قبول تدريجي لما هو شفهي، علماً بأن الرواية الشفوية كانت الوسيلة الوحيدة المعتمدة في تناقل الأخبار الماضية قبل اختراع الكتابة، وذلك عن طريق اللغة المحكية والمصطلحات المتفق عليها، التي كانت بوساطتها تنقل للآخرين الخبرات والتجارب من جيل إلى جيل؛ فعن طريق اللغة نقل الإنسان أحداث الماضي وأخباره عن طريق التاريخ الشفوي (الحس التاريخي) الذي لا يزال ملازماً للإنسان عبر التاريخ"(ص21).

بدأ الاهتمام بالتاريخ الشفوي في الولايات المتحدة في عام 1860م أثناء قيام الباحثين بحملة جمع الشهادات الشفوية وتفسير روايات الأشخاص والمجتمعات والمشاركين في أحداث الماضي، ترافقت هذه الحملة بجمع الوثائق النصية بشكل منهجي، سرعان ما انتظمت هذه البدايات للتوثيق الشفوي في أمريكا فيما بعد وفق محورين الأول في مطلع القرن العشرين والثاني بعد الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1948م أُنشِئَ مكتب لأبحاث التاريخ الشفوي في جامعة كولومبيا بأمريكا، إذ تعد هذه المرحلة بمنزلة الخطوة الأولى لتأسيس مفهوم التاريخ الشفوي، وفي عام 1969م برزت إلى الوجود أول مجلة تعنى بالتاريخ الشفوي سميت (حولية التاريخ الشفوي)، وبالرجوع إلى بدايات التاريخ الشفوي في العالم نجد المؤرخين الأمريكيين يعيدون الاعتبار إلى الرواية الشفهية، وذلك بتأسيس جمعية التاريخ الشفوي، وظهر ذلك من خلال مدرستين الأولى اهتمت بالنخب السياسية والعسكرية والثقافية، والثانية اهتمت بتاريخ المهمشين.

إذ سعت لتبديل الدراسة التي كانت تقوم على ملء الاستمارات إلى صياغة تقوم على التحري الميداني والملاحظة، وبواسطة المشاركة، وأصبح استدعاء الذاكرة الفردية وسيرة الحياة، وسيلة لإدراك الواقع الاجتماعي، هذا المنهج ظهر بسبب ظهور موجات الاحتجاج الطلابي ضد حرب فيتنام وبروز حركة المطالبة بالحقوق المدنية للسود، كما نشطت حركة الاستفادة من الرواية الشفوية في ميدان التاريخ، ونتج عن ذلك كتب تاريخية عديدة كنظام الحوليات والمؤلفات التاريخية المتنوعة وتأسيس المراكز الوطنية للبحث العلمي، وقد خصصت له مكتبات ومراكز خاصة بجمعه وحفظه وتهيئته للباحثين أشرفت على تدوين الروايات الشفوية التي تفتح الباب على مصراعيه للبحث في تاريخ المهمشين أو المغيبين ممن لا تاريخ مدوناً لهم.

وفيما يتعلق بالتاريخ الشفوي في أوروبا، يقول الباحث نصار:"إن الثقافات المعروفة والمدونة التي وصلتنا كانت في الأصل ثقافات شفوية مثل الإلياذة والأوديسة، وكان للمؤرخين ومنهم المؤرخ (أبو التاريخ) الإغريقي هيرودوت (Herodotus) 484 ـ 425 ق.م والمؤرخ توكيديوس (Thucydeos) من أوائل المؤرخين في جمع الروايات الشفهية والمدونة بشكل منتظم، ثم ساد في منتصف القرن السابع عشر تدوين وجمع العديد من مصادر التاريخ، فقد بدأ المؤرخون يدقّقون ويفحصون تلك المصادر مثل صاحب النظرة الكلية للتاريخ المؤرخ فيكو (Vice) 1668 ـ 1744م وصاحب كتاب الملكية العالمية، والفرنسي مونتسكيو 1734م وفولتير الفرنسي الذي تميز بالدقة في جميع كتبه التاريخية (كما ورد في كتاب مروج الذهب للمسعودي) والمؤرخ الألماني رانكا 1795 ـ 1886م الذي يعود له الفضل في تأسيس المدرسة التاريخية الحديثة، فقد حاول إعادة عرض وتركيب الأحداث التاريخية كما حدثت فعلاً في كتبه التي تزيد على أكثر من 45 كتاباً، وآخرها تاريخ العالم الذي يقع في تسعة مجلدات، والمؤرخ رانكا مؤسس المبادئ الجديدة في نقد المناهج التاريخية.

"وفي القرن التاسع عشر بلغت الكتابة التاريخية أوج ازدهارها على يد المؤرخ الألماني/ كارل لابرخيت 1856 ـ 1915 الذي ذهب إلى ضرورة كتابة التاريخ وفق منهج جديد يقوم على الاتجاهات الاجتماعية والنفسية والثقافية، وفي أوائل القرن العشرين برز اسم المؤرخ البريطاني آرنولد جوزيف توينبي الذي عرض في كتابه التاريخي (دراسة في التاريخ) وجهة نظره في نمو الحضارات وتطورها وانحلالها، كما حول تفسير التاريخ على أساس نظرية التحدي والاستجابة وما زال المؤرخون في كل جيل وفي كل عصر يضيفون ويحذفون ويعدلون مؤكدين بهذه الممارسات أن عملية التاريخ تواكب المستجدات المعرفية، ويعود انتشار التاريخ الشفوي إلى أوربا خاصة في فرنسا وبريطانيا إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي، بسبب التحول العميق في المعرفة التاريخية واهتمام المؤرخين وانفتاح الأوربيين على ميدان البحث التاريخي، وبالإضافة إلى التطور الكبير في وسائل الإعلام المرئي والمسموع منها والاتصالات التي ساهمت في إعطائه دفعاً مهماً مما أدى إلى تطويره حديثاً.وفي بريطانيا أُنشِئت جمعية التاريخ الشفوي البريطانية، وذلك في ستينيات القرن العشرين بجهود عدد من المؤرخين، كما خصصت له مكتبات ومراكز خاصة بجمعه وحفظه وتهيئته للباحثين"(صص 23 ـ 24).

الرواية الشفوية لأحداث الثورة السورية 1925ـ 1927م 

قبل البدء بتوثيق بعض أحداث الثورة السورية الكبرى 1925م الشفوية لا بد من إلقاء الضوء وباختصار على (الثورة السورية أسبابها وأهدافها) وسرد بعض أحداثها غير المدونة.
الأسباب السياسية للثورة: يقظة العرب ومطالبتهم بالاستقلال والحرية والنقمة والانتداب وأساليبه الاستعمارية، وقد تمثلت تلك النقمة في سلسلة من الثورات، وكان أبرزها ثورة الشيخ صالح العلي في جبال اللاذقية واضطرابات جبل عامل ومرجعيون وبعلبك ومعركة ميسلون واضطرابات حوران ودير الزور وثورة إبراهيم هنانو في الشمال وثورة سلطان الأطرش الأولى واضطرابات المدن السورية المستمرة، بالإضافة إلى خرق نظام الانتداب، إذ تنص المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم المتحدة الصادر في 1919م على تحقيق غاية الجماعات التي كانت تابعة للدولة العثمانية في اختيار المنتدب.

1 ـ رفضت البلاد السورية في أكثريتها الساحقة الانتداب واعتبروه استعماراً وتطبيقاً لاتفاقية سايكس بيكو ورفض دولة فرنسا كدولة منتدبة على سورية.
2 ـ مخالفة فرنسا لصك الانتداب (التقسيم والتجزئة).
3 ـ حب الاستقلال والحرية.

إن الوقائع والأحداث التاريخية التي سبقت قيام فرنسا باحتلال سوريا من تلبية لنداء الشريف حسين بإعلان الثورة للتحرر من الاحتلال التركي والتطلع إلى الاستقلال التام من قبل الأحرار وهم الغالبية العظمى من السوريين هو العامل المهم في القيام بالثورات الوطنية في سورية ضد الاستعمار الفرنسي إضافةً إلى تراكم أسباب عديدة منذ معركة ميسلون عام 1920 واستشهاد وزير الدفاع يوسف العظمة ودخول غورو محتلاً إلى دمشق.

قيادة الثورة السورية الكبرى: سلطان الأطرش وعدد من القادة السياسيين والعسكريين والمثقفين والمفكرين وأعدادٌ كبيرة من الثوار من جميع طبقات الشعب السوري (أبناء المدن والريف وبمشاركة العشائر البدوية)، وتعد هذه الثورة من أشد الثورات هولاً واتساعاً وشمولاً.