في مداخلة هي الأولى من نوعها تقريبا صرح أمير قطر منذ يومين بأن بلاده تتعرض إلى هجمة إعلامية شرسة بمناسبة تنظيمها نهائيات كأس العالم لكرة القدم والتي ستدور بالدوحة ابتداء من 20 من الشهر القادم. كانت مداخلة الشيخ تميم أمير دولة قطر بمناسبة افتتاح دورة الانعقاد السنوي لمجلس الشورى والتي عبر فيها عن استغراب بلاده الشديد من بشاعة الهجوم الذي تعرضت له بلاده خلال الأسابيع الأخيرة.
ليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها الدولة إلى هجمات إعلامية منسقة ومتناغمة فقد عرفت البلاد هجمات عديدة في السابق لكنها المرة الأولى التي يتلون فيها سياق الهجوم بألوان جديدة تكشف أبعاد قاتمة لم تكن بادية للعيان فيما سبق من الهجمات بسبب اختلاف السياق.
لماذا هذا الهجوم على أول دولة عربية مسلمة تنال شرف تنظيم كأس العالم لأول مرة في تاريخ المنطقة وفي تاريخ اللعبة نفسها ؟ ممّ الخوف ولمَ سيل الأكاذيب الجارف هذا ؟ لماذا لم تهاجم أية دولة منظمة لكأس العالم عبر التاريخ باستثناء قطر ؟ من دفع ثمن الجريمة وماذا سيجني منها؟
خطاب الأمير
من النادر جدا أن يصرّح أمير قطر ردّا على هجمات إعلامية خارجية لكن التصريح الأخير يكشف حجم الدهشة والاستغراب لدى القيادة القطرية وهو أمر يتأتى تحليليا من ثلاثة مصادر أساسية : غرابة توقيت الهجمات المتزامن مع اقتراب انطلاق الموعد الرياضي العالمي الذي أعدت له قطر العدّة كما لم يحدث في تاريخها الحديث ومن كل النواحي. أما المصدر الثاني فيظهر على مستوى التقدير والمراعاة والتعاون التي أبدتها قطر تجاه الوفود المشاركة وتجاه البعثات الأجنبية وحتى تجاه الدول خلال أزمة كوفيد مثلا وغيرها من الأزمات. أما المصدر الثالث وهو الأهم فيتمثل في مضامين التهم والادعاءات التي قامت عليها الهجمات الإعلامية وحملات التشويه المؤسّسة على مغالطات فاضحة.
استعرض الخطاب الأميري إنجازات الدولة في مجال الاقتصادي والبيئي والتشريعي مركزا على أن هذه النجاحات تصبّ أولا وأخيرا في خدمة المواطن وفي بناء الدولة والإنسان وفق الخطة المرسومة 2030. كما أكدت المداخلة على التزام قطر بالوفاء بتعهداتها الدولية ومسؤولياتها تجاه العالم فيما يتعلق بضمان التزود بالطاقة والمشاركة في مواجهة الأزمات والمساعدات الانسانية كالتزام أخلاقي أولا وقبل كل شيء وهو ما يفترض أن تقابله الدول الأخرى بالاحترام والتقدير.
في هذا السياق تعرض الأمير إلى الهجمة الشرسة وغير المسبوقة التي تتعرض لها بلاده منذ الفوز بتنظيم كأس العالم والتي لم يتعرض لها أي بلد مضيف والتي أخذت في البداية على محمل حسن النية والنقد الإيجابي الذي قد يفيد الدولة في تطوير جوانب تحتاج إلى تطوير. لكن الدوحة أدركت أن الحملة تتسع وتتواصل وأنها لم تكن لغرض النقد البناء والحق في الاختلاف وأنّ وراء الأكمة ما وراءها.
ما وراء الأكمة واللعب مع الكبار
عندما راهن الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة على استضافة كأس العالم في 2010 كان يدرك جيدا أنه قد حدد للجيل القادم والأجيال التي تليه في قطر سقفا عاليا من التحديات. وهي التحديات التي ستجعل من الدوحة لاعبا ضمن مجموعة الكبار لا من حيث الثروة أو المساحة أو الأبعاد الهندسية فهذه مقاييس الحروب القديمة بل هي تحديات الإنسان وقدرته على الفعل والبناء والصمود رغم المساحة ورغم الديمغرافيا ورغم محيط من المتآمرين.
كيف لبلد عربي صغير أن يخوض في مساحات الكبار ويخترق السياج الذي أحكم حول المنطقة وشعوبها ؟ كيف يُسمح لبلد صغير أن يتحوّل إلى لاعب إقليمي ودولي لا في عدد الجيوش أو الترسانات النووية بل في القدرة على التنظيم والتحكم في أسواق الطاقة وصناعة إعلام مهنيّ بديل والتوسط في أعقد الصراعات الدولية بحكمة نادرة ؟ كيف يتجرأ شعب عربي صغير على كسر طوق الوصاية والمنافسة على طاولة الكبار ثم الظفر بما احتكروه لأنفسهم عقودا من الزمن؟
إن الهجمة الشرسة التي تتعرض لها قطر اليوم إنما هي بسبب نجاحها المتوقع في تنظيم أروع نسخ كأس العالم وهو ما سيُحرج كثيرا من الكبار. وهي هجمة متوقعة ومنتظرة وليس أدلّ على خلفياتها السامّة من مضامينها المتعلقة بشماعة حقوق الإنسان وعدم احترم مجموعات المثليين والشواذ ورفض السماح باستهلاك الكحول في الأماكن العامة. إن هذه المضامين الغربية الدخيلة على الحضارة العربية الإسلامية ليست في الحقيقة إلا غطاء شفافا يُخفي ما وراء الأكمة من سعي إلى إحكام الطوق المضروب على شعوب المنطقة العربية بأن تبقى مفعولا بها مستهلكا لقيم الآخرين وسوقا لفضلاتهم الثقافية ونفاياتهم الأخلاقية والسلوكية.
ممنوع على شعوب المنطقة وعلى دولها أن تحقق أي نجاح خارج عن الإطار الذي أقره سايكس بيكو ومن وراءهما. ممنوع على حكام المنطقة الخروج عن شروط الطاعة حتى ولو كان ذلك في إطار المنافسة على تنظيم فعاليات عالمية. فكيف إذا صدر الفعل عن الدولة التي رفضت إسناد الانقلابات ورفضت المشاركة في ذبح ثورات الشعوب وفتحت أرضها لكل الهاربين من نير الطغاة؟
النفاق الغربي والكيل بمكيالين
إلى زمن غير بعيد كان الإعلام الغربي لا يرى في الرئيس الروسي بوتين إلا رجل أوروبا القوي وكانت الأحزاب اليمينية الأوروبية تحث الخطى إلى الكرملين وهي تغمض العين عن جرائمه البشعة في سوريا وليبيا. لكن ما أن تقدمت جيوشه نحو أوكرانيا حتى انطلقت دكاكين حقوق الإنسان تبكي نساء أوكرانيا وأطفالها بل إن الإعلام الغربي لم يتردد عن القول إن هؤلاء أوروبيون بشعر أصفر وعيون زرقاء وليسوا عربا ولا مسلمين.
نفس المطرقة تستعمل اليوم ضد القطر وهي في الحقيقة ليست موجهة ضد الدوحة فحسب بل هي موجهة أساسا نحو الشعوب العربية التي بدأت تتململ منذ ثورات الربيع. حقوق الإنسان عند الغرب لا تتطرق إلى جرائم الاستعمار ومذابح الشعوب التي احتلتها ولا تذكر ماضي التجارة المثلثة التي نقلت عبرها قوى الاحتلال الأوروبي ملايين الأفارقة من أوطانهم عبيدا في مزارع القطن والعنب ومناجم الفحم والحديد. لكنها نفس النبرة الاستعمارية التي تبكي لأجل المرأة العربية المعنّفة وتغمض العين عن نساء فلسطين وسوريا واليمن والعراق ... وهن يحرّقن بالقنابل والأسلحة الغربية.
لم ترفع قطر شعارات المقاومة والممانعة ولا هددت برمي الصهاينة في البحر وتحرير فلسطين من الماء إلى الماء وغيرها من المخدرات التي أبدعت أنظمة الموت العربية في ترويجها بين السذج والبسطاء بل استثمرت في البناء وفي الإنسان وفي خوض المعارك الكبرى معارك التنمية والبنية التحتية والقدرات التنظيمية والمهنيّة الإعلامية والترقية التعليمية حتى صارت رائدة في مجالها.
قطر خطر داهم لأنها الدولة الصغيرة الناجحة التي أنتجت من ضمن ما أنتجت أخطر ما صاغه العقل الإعلامي العربي ممثلا في قناة الجزيرة التي فضحت نفاق المستكبرين وعرّت عقودا من التزييف والتضليل. إن الخطر يكمن هنا. وهو المتمثل في قدرتها على تقديم نموذج قد يجرّ بقية القاطرة العربية فيُلْهمَ آخرين بالنسج على منواله وهو الأمر الذي يفسر كل الهجمات التي استهدفت النظام القائم في قطر منذ المحاولة الانقلابية في 1996 وصولا إلى الحصار الجائر.
جزى الله الشدائد كل خير
من جهة ثانية عرف الشارع العربي والإسلامي موجة تعاطف غير مسبوقة مع الدوحة حول تنظيم كأس العالم بعد أن لمس حجم الكذب والتآمر على دولة عربية مسلمة كل خطيئتها أنها كسرت مجالا محظورا. لم يشهد الرأي العام العربي موجة شبيهة من التعاطف مع الدوحة مثل التي يعرفها اليوم خاصة أن الموقف القطري من الثوابت الإسلامية والحضارية كان غير قابل للنقاش والمساومة وهو ما عبّر عنه الشيخ تميم من ألمانيا حين طالب الدول الغربية بأن تراعي القيم العربية الإسلامية في الدولة التي تضيفهم كما تطالب الدولُ الأوروبية العربَ والمسلمين على أرضها باحترام قيمها وقوانينها.
حتما لن تكون هذه المعركةُ الجولة الأخيرةَ بل هي امتحان جديد في الطريق الذي رسمته الدوحة لنفسها منذ التأسيس الكبير نحو بناء الذات. وهو الطريق الذي كشف كل التحالفات السرية الاقليمية والدولية التي حاولت ولا تزال إيقاف الفعل القطري وتحويله على بقية نماذج العجز العربية.
لم ترفع قطر شعارات المقاومة والممانعة ولا هددت برمي الصهاينة في البحر وتحرير فلسطين من الماء إلى الماء وغيرها من المخدرات التي أبدعت أنظمة الموت العربية في ترويجها بين السذج والبسطاء بل استثمرت في البناء وفي الإنسان وفي خوض المعارك الكبرى معارك التنمية والبنية التحتية والقدرات التنظيمية والمهنيّة الإعلامية والترقية التعليمية حتى صارت رائدة في مجالها.
قد نتفهّم الحنق الغربي من التجربة القطرية الناجحة لكننا لا نفهم غباء بعض العرب وهم يطلقون النار على أرجلهم فيحاربون كل تجربة ناجحة تحت مفعول مخدرات الأذرع الإعلامية لنظام الموت الإقليمي. ماذا ربحت وماذا كسبت كل الدكتاتوريات العربية التي حاربت التجربة القطرية وتحالفت مع أعداء الأمة والدين ضد الإخوة والأشقاء ؟ لا شيء غير الحسرة والندم.
ستنجح قطر بعون الله في تنظيم أول كأس عالم بأياد عربية إسلامية وستكون مناسبة عالمية ليطلّع العالم على قدرة العقل التنظيمي العربي في إدارة أضخم المناسبات الرياضية الدولية رغم المساحة ورغم عدد السكان. بعدها ستتفرغ الدوحة إلى جولة قادمة من التحديات على طريق البناء والإعمار وتحرير العقل العربي من متلازمة العجز والفشل والانحطاط.
قديما قال الحكماء : "سيتجاهلونك ثم سيسخرون منك ثم سيحاربونك.. ثم تنتصر".
يبدو أننا في نهاية الطريق المؤدي إلى النصر رغم كيد الكائدين ومكرهم "وإنْ كانَ مَكْرُهم لتَزُولَ منه الجبالُ".