كتب

النقابات المهنية في مواجهة الاستبداد في العالم العربي

النقابات المهنية غلاف كتاب

الكتاب: "النقابات المهنية المستقلة في العالم العربي- بين أهمية الدور وتحديات التنظيم والتمثيل"
تحرير: جميل معوض

المشاركون: محمد العجاتي، عمر سمير، عبدالمنعم سيد أحمد، زينب سرور، ناصر حابي، علي طاهر الحمود، شيماء الشرقاوي
الناشر: مبادرة الإصلاح العربي، باريس، نوفمبر 2021. 

قامت النقابات واللجان المهنية بدور كبير خلال السنوات الماضية في دعم وقيادة المطالب الديمقراطية في العالم العربي من خلال تنظيم وتحفيز المبادرات الشعبية، وهو ما بدا واضحا في الموجة الأولى من الربيع العربي، واستمر خلال الموجة الثانية في السودان والجزائر ولبنان والعراق والتي بدأت ظهورها بدءا من عام 2018.

في هذا السياق تأتي هذه الدراسة المهمة التي تدرس النقابات المهنية في خمسة بلدان عربية والتحديات التي واجهتها سواء كانت تحديات بنيوية ام خارجية تتعلق باستقلاليتها وعلاقتها بالسلطة.

ومن أهم تلك لتحديات التي واجهتها تلك النقابات: العلاقة بين العمل السياسي والنقابي، وتعريف الدور الخاص بها، ومدى التجانس الداخلي للنقابات وشرعية تمثيلها وقدرتها على الاتفاق على مسألة المشاركة في السلطة من عدمها، هل تمثل وسيط في إدارة العملية السياسية، ام طرف سياسي اصيل ولاعب أصيل في مجرى الاحداث؟ ومفهوم الاستقلالية، هل تعني الاستقلال عن الدولة بصفتها رب عمل، ام عن الأحزاب الأخرى ام عن شبكة المصالح التي تتحكم في الاقتصاد السياسي؟ 

هناك تحدي مهم يخص العوائق القانونية لهذه النقابات بين التعددية والواحدية والتي تتبناها اغلب البلدان العربية، أيضا هناك تحديات تتعلق بالهوية والتنظيم، بخصوص المساهمة في تمثيل العمال غير المنتسبين إلى النقابة، واحياء العمل النقابي وعدم حصره بأيديولوجيات فكرية محددة، ـ تبقى كذلك محدودية تمثيل المرأة والتي تمثل احدى نقاط الضعف لدى هذه التجارب.

ويأتي المثال الأهم خلال السنوات الأخيرة، ولا يزال من خلال تجمع المهنيين في السودان الذي قام بدور كبير لبلورة المطالب الشعبية في المطالبة بالحرية والتغيير، وتناقش الورقة دور التجمع في التفاوض وترتيبات المرحلة الانتقالية، ولوحظ ان دور التجمع في المسار التفاوضي لم يقتصر على التعبير عن ارادة الجماهير فقط، بل امتد ليشمل لتنسيق الموقف التفاوضي للكتل المختلفة وحل الخلافات والنزاعات داخلها، ومخاطبة الشارع وتزويده بالمعلومات حول مسار التفاوض ومستهدفاته، لكن لاحقا شهدت العلاقات بين تجمع المهنيين والحكومة التي اختاروا هم رئيسها توترات عدةـ

من ناحية أخرى رأى البعض أن تجمع المهنيين بهيكله وأدواره رغم تطوره لم ينتقل بعد من مرحلة الكيان المهني الذي ينظم المعارضة إلى كيان شريك في الحكم وإدارة الفترة الانتقالية، ومن ثم واجه ارتباكا في تحديد أدواره المستقبلية وبنيته الملائمة لهذه الأدوار.

كما تؤكد هذه التجربة أن تجمع المهنيين بحاجة إلى دعم وتدريب كوادره على إدارة العلاقات المتوازنة بين العمل النقابي والمدني من جهة والعمل السياسي من جهة أخرى، وكيفية إدارة التوافقات والتفاوض مع القوى السياسية الأخرى، والاستفادة بتجارب عربية أخرى مثل اتحاد الشغل التونسي.
 
من جهة أخرى تناقش الدراسة التجربة الجزائرية في دعم الحراك السياسي، حيث تمكنت النقابات المستقلة من فرض نفسها داخل الكثير من القطاعات واستطاعت اللجوء إلى إضرابات طويلة ومتكررة حول مطالب فئوية مما فرض على المسؤولين الدخول في تفاوض مع هذه النقابات.

 

تبدو التحديات التي تعرضت لها هذه التجارب متشابهة إلى حد كبير، سواء في بناء التنظيم الداخلي بما يؤدي إلى مشاركة الجميع، وضعف التمويل، وتغييب دور النقابة في الدفاع عن المهنة، والخلط بين مفهوم العمل النقابي والسياسي، وظاهرة الانقسام. ولكن لم تخلو التجربة من عوامل القوة والنجاح في تحقيق بعض أهدافها التي اشارت اليها الدراسة.

 



لاحقا أصرت الدولة على موقفها في رفض تكوين كونفدرالية عمالية مستقلة كانت قد انطلقت كمشروع منذ عام 2000، التي ضمت ثلاثة عشر نقابة، لم يمنعها من اللجوء لتنظيم احتجاجات وإضرابات مشتركة باسم تنسيقية نقابات التربية أو الصحة كما حدث في مايو 2021، وفي مواجهة ذلك بدأت أجهزة الدولة بما فيها رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والإعلام الرسمي الذي حملة معادية للعمل النقابي بحجة الوضع الاقتصادي الصعب والوضع الصحي المرتبط بجائحة الكوفيد.
 
وتناقش الدراسة نقاط الضعف والقوى لهذه النقابات المستقلة، منها اقتصارها على قطاع الوظيفة العمومية بما عرف عن الموظفين من قلة الخبرة النقابية بعد فشلها في التوسع داخل القطاع الصناعي العام والخاص، أيضا المبالغة في تكوين النقابات الفئوية داخل قطاع الوظيفة العمومية ذاته بما زاد من صعوبات العمل المشترك، ضعف العمل الجماعي وغياب الانفتاح على التجربة النقابية الدولية. بينما برزت نقاط القوة وأهمها: التمثيل الفئوي القوي داخل القطاعات التي تنشأ داخلها، والقدرة على التفاوض مع أجهزة الدولة، نجاح التسيير المؤسساتي داخليا، بروز نخبة نقابية جديدة.

وترى الدراسة أن نجاح التجربة النقابية الجزائرية المستقلة يرتبط بإمكانية نجاح الانتقال الديمقراطي المعطل حتى الآن في الجزائر بهدف القطيعة مع آليات عمل النظام السياسي ورفض فكرة الانتقال الديمقراطي من جانب النخب الرسمية بعد مساواته بالفوضى وعدم استقرار مؤسسات الدولة كما عاشتها التجربة الجزائرية أكثر من مرة.
 
الحالة اللبنانية 

من ناحيتها تناولت الدراسة الحالة اللبنانية بإنشاء تجارب نقابية أسهمت في تغيير الوضع في انتخاباتها المهنية التي جرت عامي 2019، 2021 من خلال تنسيق جهود عدد من المهنيين الإصلاحيين.

وهو ما قد بدا في أعقاب الحراك الشعبي الذي شهده لبنان في17 أكتوبر / تشرين الأول 2019 احتجاجا على آداء الطبقة الحاكمة وفسادها،، وأدى لنقاش بين الأوساط الاكاديمية والناشطة حول أهمية توافر أطر تنظيمية تقوم بتنظيم الاحتجاجات الشعبية، وتؤطر المطالب في مشاريع سياسية يمكن لها تأمين الانتقال الديمقراطي المنشود. وتمثل هذا النقاش في اتجاهين: الأول بتفعيل النقابات المهنية القائمة وتحريرها من هيمنة الأحزاب التقليدية الحاكمة لاستعادة دورها الأساسي، والثاني ينادي بإنشاء تجمعات مهنية مستقلة جديدة تقوم بتنظيم الشارع ورفع المطالب.
 
وتعرض هذه الورقة دراسة حالة نقابة المهندسين التي فازت فيها قوى الاعتراض في موجهة أحزاب السلطة، في العام 2019 مع حملة "نقابتي" بمركز النقيب، قبل ان تسجل فوزا ساحقا في مجالس المندوبين ومجلس النقابة مع مجموعة" النقابة تنتفض" في العام 2021.وقبلها انتخابات نقابة محامين بيروت التي فاز فيها مرشح القوى الثورية.

حيث تتناول عددا من التجارب منها تجمع (نقابتي) قبل أن يصبح (نقابتي للمهندسة والمهندس) لاحقا تبلورت تجربة أخرى هي "تجمع مهنيون ومهنيات" وكانت تجربة السودان المرجع التنظيمي للمبادرين، وانقسمت النقاشات اللاحقة بين من يريد تحويل الجسم المراد تنظيمه إلى جسم سياسي، ومن يريد تفعيل النقابات المهنية واستعادتها من الأحزاب الحاكمة، أو من يرى في التجمع جسما من أجل دعم الحراك الشعبي على الأرض. وهو ما أدى لنوع من التشتت، ثم تشكل ائتلاف آخر بمسمى" النقابة تنتفض" واتسم العمل في "النقابة تنتفض" بروح العمل التشاركي والديمقراطي والمركزي.

واجهت التجربة كثيرا من المشاكل الخارجة عن إرادتها مثل الأزمة الاقتصادية أو انفجار مرفأ بيروت، وأدت إلى تشتت المبادرة. 

حالة نقابة الصحفيين العراقيين

فتحت عملية إسقاط النظام البعثي في العراق في نيسان (أبريل) 2003 أسئلة متعددة حول مآلات التغيير الذي لم يحدث بإرادة داخلية وإنما بتدخل خارجي، ولم يكن المجتمع المدني العراقي وليد هذا العام حيث يمكن رصد نشأة العديد من النقابات وعشرات المنظمات الإنسانية والحقوقية والإعلامية في المهجر قبل 2003، كما تشكلت آلاف المنظمات المدنية ووسائل الإعلام بعد تغيير النظام ، واندفع المثقفين الذين كانوا بعيدين عن مواقع السلطة للعمل الصحفي والإعلامي لما توفره لهم من منابر للتأثير على الرأي العام من جهة والسلطة السياسية من جهة أخرى.

وقد نجح الصحفيون في معارضة قانون سعت السلطات السياسية لإقراره باسم (قانون حماية الصحفيين) وتضمن القانون تخصيص قطع أراضي والعلاج المجاني وامتيازات أخرى للإعلاميين، معتبرين أنه رشوة حكومية لهم، حيث دعوا إلى تغيير العنوان إلى"حقوق الصحفيين" وإلغاء الفقرات التمييزية به، وتضمن القانون أيضا إعادة تفعيل مواد جرائم النشر، وقد شكل نجاحهم دافعا نحو تأسيس نقابة جديدة تتولي الدفاع عن الصحفيين بعد تخلي النقابة الرسمية عن هذه المهمة.

ونجح الصحفيون في إقامة المؤتمر التأسيسي للنقابة الوطنية للصحافيين مطلع عام 2013 رغم المعوقات الحكومية، لكن شيئا فشيئا بدا دور النقابة يخفت في مجال الدعوة إلى الاحتجاج أو المشاركة فيه وأهملت دور الدفاع عن قضايا الصحفيين، وواصلت النقابة مسيرتها بصعوبة بالغة لثلاث دورات واجهت خلالها العديد من المشكلات أدت في النهاية إلى تذويب دورها في الساحة الثقافية والمهنية وضعف تأثيرها في قضايا الحريات.

التجربة المصرية

ناقشت الورقة الأخيرة الإشكاليات الذاتية التي واجهت النقابات المستقلة، والذي لم يرتبط مولد تلك النقابات بقيام ثورة يناير 2011، بل كانت البداية قبلها بعامين بإنشاء أول نقابة مستقلة للعاملين في مصلحة الضرائب العقارية. ثم أسست غالبية النقابات المستقلة لاحقا بعد ثورة يناير في مواجهة الاتحاد الرسمي الذي حظي بتبعية الدولة ودعمها منذ العام 1957. 

وواجه تكوين الاتحاد المصري للنقابات المستقلة الذي نشأ من قلب ثورة يناير، بموقف حكومي استهدف حصاره ومنع الإضرابات والاحتجاجات ووضع هذه النقابات مرة أخرى تحت مظلة الاتحاد التابع للحكومة سواء باستخدام القانون او بالضغوط المادية، حتى نجحت في احداث انقسام داخل الاتحاد أنهى دوره في اعقاب انتخابات 2014 الرئاسية.

كما واجهت تلك النقابات إشكاليات أخرى مثل نقص الخبرات، وغياب اللوائح الداخلية وآليات اتخاذ القرار إلى جانب العوامل الشخصية المرتبطة بالقيادات النقابية، ويمكن القول بأن التهميش وغياب التنظيم قد أسهما في ضعف الخبرة التنظيمية لدى تلك القيادات، ومواجهة مشكلات التمويل إلى حد الفشل في تأسيس مقرات لها، وعدم قدرتها على دعم أعضائها. كما ظهرت بعض الجوانب الخاصة بفساد مجالس الإدارات والانقسامات الداخلية وشخصنة الاختلافات حول آليات التحرك والتفاوض، ويرجع ذلك لحداثة عهد النقابات وطريقة انشائها المتعجلة في بعض الأحيان. 

ملاحظات أخيرة
 
ـ تبدو التحديات التي تعرضت لها هذه التجارب متشابهة إلى حد كبير، سواء في بناء التنظيم الداخلي بما يؤدي إلى مشاركة الجميع، وضعف التمويل، وتغييب دور النقابة في الدفاع عن المهنة، والخلط بين مفهوم العمل النقابي والسياسي، وظاهرة الانقسام. ولكن لم تخلو التجربة من عوامل القوة والنجاح في تحقيق بعض أهدافها التي اشارت اليها الدراسة.

ـ يلاحظ أن بعض التجارب ركزت أكثر على النقابات العمالية وليست المهنية في الحالتين المصرية والجزائرية وكان يجب أن ينعكس في العنوان الخاص بالكتاب.

ـ لم تكتف الدراسة بالبحث المكتبي لهذه النقابات ومناقشة مواقفها، بل اعتمدت على عقد مقابلات شخصية مع بعض الكوادر النقابية من الرجال والسيدات بما يثري ويدعم نتائج الدراسة.
 
وكان مهما أن ناقشت الدراسة التجربة النقابية التونسية خاصة بعد انقلاب الرئيس قيس سعيد على التجربة الديمقراطية ومحاولة الانفراد بالسلطة وإقصاء القوى السياسية الأخرى.

ـ أيضا برز الاستفادة بين التجارب النقابية والتفاعل بينها خاصة بعد ثورة 25 يناير المصرية، كما ظهر تأثر تجارب لبنانية بتجمع المهنيين السودانيين. كما تأتي أهمية الدراسة انها اتناقش اشكال نقابية حديثة ولا زال بعضها مؤثرا في بعض التجارب مما يحقق التفاعل بين هذه التجارب وهذا النوع من الدراسات، 
ـ أيضا عرضت بعض الدراسات للخصوصيات التي تميز بعض قطاعات العمال والمهنيين عن الأخرى خاصة تلك التي تعمل عند الدولة كرب عمل رئيسي، عن غيرها الذي يعمل في قطاع الصناعي العام والخاص.

ـ بعض هذه التجارب النقابية لم تكتمل للنهاية بسبب عدم تجانسها التنظيمي واستبعادها للأجيال الشابة، فضلا عن خلط النقابي بالسياسي وعزلة بعض النخب النقابية عن المجتمع، او اهمالها للقيام بمهمتها الرئيسية في العمل النقابي.

أيضا تتصل الدراسة بالهدف الأساسي من مبادرة الإصلاح العربي التي تكرس هدفها الأساسي في فهم وقراءة دور المجتمع المدني العربي وتعزيز إسهامه في التطور الديمقراطي وحقوق الإنسان.