الكتاب: فقه بناء الإنسان في القرآن
الكاتب: كفاح أبو هنود
الناشر: دار عصير الكتب للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، القاهرة 2020
هذا الكتاب، محاولة تربوية، نحو قراءة النص القرآني الكريم تقوم على تدبر آياته، في سوره المكية الأولى، وغاياته من معانٍ محددة، جاءت من مجموعها نظرية شاملة، في فقه بناء الإنسان في القرآن؛ حتى نمتلك أُسساً يبني عليها الباحثون، والمهتمون، ما يؤسس لبناء نظرية متكاملة، في هذا الاتجاه، ربما تساهم في تصحيح مسار الوعي، ومسيرة البناء.
صدر الكتاب عن دار " عصير الكتب للطباعة والنشر"، المؤلفة، أستاذة جامعية أردنية، حاصلة على الدكتوراة في التفسير، وعلوم القرآن، وناشطة في العمل النسائي، والشبابي.
جاء الكتاب، عبر 325 صفحة، من القطع المتوسط، قُسمت ما بين مقدمة، ومدخل، طوي على مضمون الكتاب، وهدفه، ثم ثلاثة وخمسون فصلا، أو "لبنة"، كما أطلقت عليها المؤلفة، فالخاتمة.
تناولت أبو هنود في كتابها، شرح، وتفسير، العديد من الآيات، والسور المكية، مستخلصة منها لبنات الصياغة الأولى؛ حيث رأت الكاتبة أن هذه اللبنات، هي أساس بناء إنسان الحضارة الإسلامية الأولى، وإنسان الوظيفة العليا، التي خلقنا الله من أجلها "إني جاعل في الأرض خليفة"، وظيفة العمارة للأرض، والخلافة فيها.
بدأت الكاتبة؛ بالحديث عن بوصلة التغير الأولى، "إقْرَأ "، (العلق: 1)، ولماذا كانت أول ما أنزل ـ سبحانه وتعالى ـ على محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان الظن أن يكون أول حديث بين الله وقلب محمد، الباحث عن الحقيقة: "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي"، (طه: 14)، لكن البداية كانت مختلفة، لأن مهمة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت مختلفة، ولأن النهايات الجليلة تكون للبدايات الثقيلة، أتت (اقْرَأ)، لبنة تصحيح المسار الأولى.
تلى هذه اللبنة، لَبِنات أخرى؛ منها الطهارة، التي تناولتها الكاتبة بالشرح، موضحة علة الاستهلال بها في أول التنزيل المكي، وضرورة البدء بالتطهير، قبل البدء في التعمير، والتخلية من السيئات، قبل التحلية بالحسنات، والتخلص من العوائق قبل البدء في الانطلاق، ثم تناولت الآثار السيئة التي تتركها فينا الأخطاء، والخطايا، فتشيخ بها الأمة، ويزول بها الوعي، وتضل بها الخطى.
كما ناقشت أبو هنود؛ فضل قيام الليل، باعتباره إحدى اللبنات الأساسية؛ في بناء الإنسان، مفسرة مفهومه، والهدف منه، وفائدته في بناء الذات، وكيف أن الخلوة المقدسة مع الخالق، عبر القيام، تحمل في طياتها حكمة المعرفة، والتأمل، الذي يُخْلقْ منه حياة ذات معنى، وأثر بَنَّاء.
""نَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا"، (المزمل: 6)، آيات عظيمة بينت من خلالها، المؤلفة ، مشقة الإرادة التي يصنعها قيام الليل، وقرآن الليل، حيث ناقشت الكاتبة، آراء بعض العلماء، من أن قراءة القرآن، في أوقات الليل، تشكل النفس وينشئها، نتيجة لتفاعل الداخل الإنساني، مع ذبذبات الإيقاع القرآني، فيعاد بناء النفس، ويحيا بها ما تهدم من بقايا.
غاصت الكاتبة في أعماق تفسير آيات سورة القلم، بدءاً من آيتها الأولى، "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ"، موضحة أهمية "القلم"، والعلم، ودورهما في رسم خارطة الإنسان القادم، وإقامة حضارته، فكلما كان صرير القلم يعلو في حضارتنا، كان صوت لبنة من جدار الجاهلية يتهدم، وما يسطرون؛ هي التي جعلت الطبري يمكث أربعين عاماً يكتب كل يوم أربعين ورقة في تفسير القرآن حتى أنتج لنا أعظم تفسير.
تعرضت الكاتبة بعدها، للــ "صدقة"، موضوع الآية الثالثة من ذات السورة: "وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ"، موضحة كيف ربطت الآيات الكريمة بين الصدقة، وبين النماء في الحياة الدنيا، والآخرة، وما هي أشكال الصدقة، وآثرها العائد على كل من المعطي، والمتلقي، اجتماعياً، ونفسياً .
أزاحت الكاتبة الستار؛ من خلال سورة المسد، عن أبي لهب، "الفكرة"، التي اجتمعت فيها كل الآثام، موضحة المقصد العميق من آيات هذه السورة، وما احتوت عليه من نتيجة منطقية؛ لكل سعي لا ينتمي إلى الله عز وجل، "المعنى: إننا من نكتب رواية حياتنا، ومشاهدها، وخواتيمها، والمقطع الأخير فيها، ثم نلونها بما يتوهج فينا، وفي الزمن القادم ينادي علينا بما كان يستتر فينا، أو يشتعل فينا أو يتوهج في خبايانا." (ص79).
جاء أول ميثاق في رفعة المرأة، عبر الآية الكريمة: "وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ*بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ"، (التكوير: 8،9)، انطلقت أبو هنود في هذه اللبنة من فرضيات للقارئ، مؤداها، هل تلمح علاقة بين تصوير القرآن لانهيار منظومة الكون، وبين السؤال عن وأد الإناث؟! هل تلمح الغضب إذ يُعتدى على حياة من يصنعن الحياة؟!، لتنتهي الكاتبة إلى فضل سورة التكوير، وما صنعته، حينما وهبت الحياة لمن تصنع للأمة حياتها، فنقلت المرأة من زمن " وإذا الموءودة سُئلت "، إلى زمن، " والصبح إذا تنفس" .
استكمالاً لعظيم آيات القرآن في سورة التكوير، استمرت هنود في استخلاص لبنة بناء أخرى، من خلال قوله تعالى في الآية 14 "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ"، ليجد القارئ نفسه، وفي عبور عجيب للزمن، يقف أمام الخالق، مصطحباً معه حاجياته، كل حاجياته بلا استثناء، حتى الهمسة التي مرت دون أن تكتمل، هنا، تجيب الكاتبة عما طرحته من تساؤلات كان أهمها، ماذا فعل القرآن المكي بالنفس الإنسانية؟ وكيف واجهها بالحقائق؟ والمقصد من السورة الكريمة.
لبنة "الطريق للأعلى"، الذي أختاره العلي القدير لعباده، والذي تجلى في سورة "الأعلى "، وما هو الهدف من اختيار القرآن الكريم لصفة الأعلى، وما هو المعنى الذي يسمو بنا إليه؟ وأي مدار يريدنا القرآن أن نبلغه؟ في طريقها للوصول إلى تفسير تلك الأسئلة، كشفت أبو هنود للقارئ؛ العديد من الفرائض المنسية، التي أمرنا بها المولى عز وجل، لكننا تقاعسنا عن آدائها، فرائض من شأنها رفعة المسلم، والنهوض بالمجتمع، والحضارة الإسلامية لأعلى القمم، منها، بل أولها "اقرأ"، التي تحقق لنا ذكراً عاليًا، إذا بدأنا بها كما أُنزلت.
تمضي أبو هنود، خلال فصول كتابها، تسلط الأضواء على لبناته، مفسرة آياتها الواحدة تلو الأخرى، حتى تصل بنا لخاتمة هذا الكتاب، والمشهد الأخير منه، الذي يضع لنا، كأمة، حرية الاختيار، ما بين أن نكون كغثاء السيل، أو نتولى شرف خلافة الله في أرضه، إننا دون فقه القرآن، كثير، ولكننا كغثاء السيل، وما كنا لنبلغ ذلك؛ لو أدركنا أن فقه القرآن؛ هو فقه المهمة، التي ننال بها شرف الإنسانية، وثِقل الحضور في الأرض.
في نهاية الكتاب، نسجل للمؤلفة إصرارها، واجتهادها؛ في الوصول إلى غايتها؛ من البحث عن أُسس جديدة يبنى عليها، ما يؤسس لبناء نظرية متكاملة، في بناء الإنسان، وإن يؤخذ على أبو هنود؛ أن ما انتهجته من أسلوب خَطابي إنشائي، طغى على ما قدمته من تفسيرات جيدة، واستنتاجات موفقة، يجدر الاعتداد بها .
أخيراً، أعتقد بأهمية قراءة الكتاب لكل مسلم، وكل مُرَبّ مسؤول عن تنشئة أجيال جديدة، وكل باحث مهتم بدراسة، وتدبر آيات القرآن الكريم ومعانية، كما أنصح به أيضاً الباحثين في علم النفس، ودراسة الفقه، وعلوم القرآن، وكل من يريد بناء نفسه إيمانياً، وفكرياً، واجتماعياً، علنا نقتبس من نور الرحمن آية، أو بضع آيات، تنير لنا ظلمة الحياة.