في نهاية الشهر الماضي، شاركت كمتحدث في جلسة مغلقة لدبلوماسية المسار الثاني (Track II) أو ما يعرف باسم دبلوماسية الأبواب الخلفيّة، وهي تقليد مهم عادة ما يتم اللجوء إليه في القضايا الشائكة بين الأطراف المتخاصمة لكن على مستوى الفاعلين غير الحكوميين، أي على مستوى المؤسسات الخاصة، والشخصيات النافذة غير الحكومية، والأفراد المؤثرين، ومؤسسات المجتمع المدني، وذلك من خلال قنوات غير حكومية.
ويسمح هذا التقليد في خلق بوابة تواصل بين الأطراف المعنيّة ويتيح لها التنفيس على مكنوناتها والاستماع إلى وجهات النظر والآراء المختلفة بالإضافة إلى طرح الرؤى والحلول والمقترحات التي عادةً ما يتم الاستفادة منها وتوظيفها أيضاً في الجلسات الرسمية التي تجري لاحقاً على المستوى الدبلوماسي رفيع المستوى من أجل احتواء و/أو حل الخلافات أو القضايا الشائكة.
وبغض النظر عمّا يقال داخل مثل هذه اللقاءات، فإنّ الاتفاق على إدارة حوار من هذا النوع مهم للغاية.
خطابان مصريان
ما لفت نظري في بعض الآراء المصرية خطابان. الأوّل يشير إلى أنّ مصر والمسؤولين المصريين لم يتّخذوا أي مبادرات أو مواقف سلبية أو تحريضيّة أو أي إجراءات من شأنها أن تمس بتركيا أو تقوّض مصالحها أو تؤذي العلاقات بين البلدين أو تنخرط في مبادرات خارجية معادية لتركيا خلال الفترة الأكثر حدّة من الخلاف بين البلدين بعد التغيير الذي حصل في نظام الحكم في العام 2013.
أمّا الثاني، فيشدد على أنّ الجانب التركي هو الذي بادر إلى التواصل مع القاهرة وأنّه هو الطرف المهتم بإعادة العلاقات إلى طبيعتها وأنّه هو الطرف الذي غيّر موقفه وعليه أن يغيّر من سلوكه ويتّخذ إجراءات ويُنفّذ مطالب وشروطا بما يتناسب مع رؤية الجانب المصري، وأنّ الجانب المصري في موقع تقييم الوضع لا أكثر وأنّه لم يقم بأي خطوة أو يعبّر عن أي رغبة أو يتراجع عن أي شيء من شأنه أن يُفهم على أنّه محاولة للتقرّب من تركيا أو تطبيع للعلاقة معها.
وطبعاً مثل هذا الخطاب ليس استثنائياً لدى شخصيات مصرية رفيعة المستوى ومسؤولين سابقين، وإنما موجود كذلك لدى عامة المصريين، أكاديميين ومحلّلين وصحفيين وناشطين. والشق الثاني من الخطاب بالتحديد تمّ التأسيس له في التحليلات الغربية وفي تفسير كل ما يتعلق بالعلاقات المصرية-التركية مؤخراً وهو يعاني من خلل على جبهيتن:
الأولى، الموقف المنحاز ضد تركيا لدى معظم هؤلاء لأسباب أيديولوجية أو مصلحيّة تتعلّق بالجهود الداعمة للترويج لمثل هذا الخطاب الذي يظهر أنقرة بمظهر الضعيف المعزول والفاشل.
أمّا الثاني، فهو غياب القدرة على الإحاطة بالتطورات الإقليمية مع الأخذ بعين الاعتبار الزوايا المختلفة للملف المعني ودوافع الأطراف المنخرطة فيه ومصالحها، ولذلك فإنه غالباً ما يؤدي اقتصار التحليل على طرح واحد إلى رؤية مغلوطة أو ناقصة في جميع الأحوال نظراً لشح التخصّص في الدراسات الإقليمية.
لكن وعلى كلّ حال، يعاني الخطابان من مشاكل تتعلّق بالتناقض بين المراد إيصاله من رسائل من وراء تبنيهما وبين الحقائق على أرض الواقع. وهذه الحقائق تقول إنّ مصر على سبيل المثال لا الحصر استضافت مؤسسات إعلامية تابعة لفتح الله غولن قامت بنشر رسائلها باللغة العربية بهدف تشويه صورة أنقرة في الإقليم وبث معلومات مشوّهة ومغلوطة ولا أساس لها من الصحّة. وقد عملت هذه المؤسسات من خلال وسائط متعددة وقامت بترجمة أعمالها بلغات متعددة من بينها التركية. فضلاً عن ذلك، فقد أيّد الجانب المصري الانقلاب العسكري الذي جرى في العام 2016 وجميعنا يذكر تماماً كيف ظهرت الصحف المصرية بعنوان شبه موحّد في تأييد الانقلاب، واستضافت شخصيات إعلامية مصرية ومحطات في مصر، فتح الله غولن شخصياً.
على المستوى الثنائي، كانت مصر هي من بادر إلى تخفيض المستوى الدبلوماسي وإلى عدم تجديد اتفاقية اليورو، وقد تبيّن أنّ مثل هذ الإجراءات أضرّت بالجانب المصري أكثر من التركي لهذا فإنها لم تقم مصر بإلغاء اتفاقية التجارة الحرّة مع أنقرة بالرغم من مطالبات بعض المزايدين بذلك. السلطات المصرية حاولت التدخّل ودعم أطراف بعينها ضد تركيا في سوريا والعراق وليبيا وفشلت فشلاً ذريعاً. السلطات المصرية حاولت تقويض موقع ودور تركيا في شرق البحر المتوسط وقد انتهى بها الأمر إلى أن تتجاهل مصالح المصريين من خلال اتفاق مع اليونان وإن كان جزئياً، وأن تنشغل في مواجهات لصالح أجندات خليجية في الوقت الذي كانت فيه إثيوبيا تعزّز من أوراقها في مواجهة القاهرة.
الجانب المصري قام أيضاً بمصادرة قرار الجامعة العربية وتوظيفها في قضايا ثنائية تخصّ القاهرة حصراً للتحريض على تركيا، ولم يضر ذلك أنقرة أو يمنعها أو يعرقل عملها بقدر ما أظهر الجامعة العربية بمظهر الضعيف الذي يتم التلاعب به من قبل دولة المقر، والذي يعتمد معايير هزليّة في المقاربات الإقليمية كأن تقوم الجامعة العربية على سبيل المثال لا الحصر بإدانة الدور التركي في ليبيا بحضور ممثل دولة ليبيا داخل الجامعة ورفضه لهذه المهزلة.
دبلوماسية علنية
لا نقول هذا للعودة إلى الوراء بقدر ما هو دحض لمحاولات البعض تجاهل كل ذلك من خلال تقديم روايات لا أساس لها من الصحّة. نفس الأمر ينطبق على محاولات تصوير المباحثات الجارية وكأنّها انكباب تركي على مصر. لو كان الأمر صحيحاً لما كان هناك ما يجبر القاهرة على الموافقة على مثل هذا الأمر فضلاً عن الاستمرار به حتى هذه اللحظة، ناهيك عن حقيقة الرسائل غير العلنية التي قامت القاهرة بإرسالها من خلال موقفها في احترام حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا شرق المتوسط وكذلك تعديل موقفها في ليبيا بعد هزيمة حفتر وغيرها من المؤشرات.
كل ما هنالك أنّ الجانب التركي يعتمد الدبلوماسية العلنية من موقع الواثق من نفسه والمتأكّد ممّا يريده، فيما يفضّل الجانب المصري أن يظهر بمظهر المتحفّظ المتمهّل لعدّة أسباب من بينها أنّه يتابع ردود فعل حلفائه التقليديين في الخليج من جهة، وما يمكن أن يقدّموه من "جزر" أو "أرز" لمحاولة إيقاف عملية التطبيع الجارية مع تركيا من جهة أخرى. فضلاً عن ذلك، فإن اعتماده على مثل هذه السياسة المتحفّظة علناً تتيح له الانسحاب أو إيقاف العملية متى ما رأى أنّ ذلك في مصلحته دون أن يبدو خاسراً.
تصوير الأمر وكأنّه مبادرة تركية صرفة يهدف كذلك إلى رفع قيمة القاهرة في أعين أصدقائها أو حلفائها بعد أن تدنّت هذه القيمة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة وهو ما أدى إلى إندفاع بعض الدول لاستبدال تل أبيب بالقاهرة بعد أن ثبت أنّ مقولة "مسافة السكة" مجرّد كلام لا قيمة له.
للطرفين جمهور بالتأكيد، ولذلك من المفهوم أن يقوم المسؤولون المصريون بوضع الشروط والمطالب علناً على التلفاز وأن يستعرضوا أمام الجمهور، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ هذا الأمر يحصل على طاولة المفاوضات، أو أنّه إذا حصل فإنّ الجانب التركي سيوافق عليه مباشرةً، وخير دليل على ذلك المطالب والشروط التي وضعتها القاهرة مع حلفائها أبو ظبي والرياض ضد قطر، ولم يتم تنفيذ أي شيء منها، واضطرت القاهرة إلى إصلاح علاقاتها في النهاية مع الدوحة بشكل فردي بعد أن تركتها الرياض وأبو ظبي وحدها دون أن يتم أخذ مصالحها بعين الاعتبار في اتفاق العلا.
إذن، علينا أن نقرأ ما بين السطور وأن ندرك أنّ هناك من لديه مصلحة كذلك في تخريب التفاوض، وأنّ القاهرة كذلك تحاول أن ترفع من قيمتها في أعين حلفائها ولذلك فهي متحفّظة نوعاً ما أو تعتمد الدبلوماسية الصامتة وتنظر إلى حلفائها كلمّا تقدّمت خطوة مع تركيا علّهم يعرضون عليها جزرةً ما تفضّل القاهرة الحصول عليها بدلاً من تطبيع علاقاتها مع تركيا. سياسة البازار هذه مهمّة دوماً في حسابات نظام السيسي وهي جزء من تركيبته، وهذا أمر لا يجب إهماله في قراءة المشهد.
مرحلة جديدة من العلاقات التركية-الجزائرية
هل ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وفلسطين ممكن؟