الكتاب: "تنوير عشية الثورة.. النقاشات المصرية والسورية"
المؤلف: إليزابيث سوزان كسّاب
ترجمة: محمود محمد الحرثاني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020
تحلل إليزابيث سوزان كسّاب في كتابها "تنوير عشية الثورة.." نقاشات ممتدة لنحو عقدين من الزمن، سبقت أحداث ثورات الربيع العربي، حول التنوير في كل من القاهرة ودمشق. وتفعل ذلك عبر وضع هذه النقاشات في سياقها التاريخي والسياسي والفكري، وتحديد القضايا الرئيسية التي ارتبطت بها، حيث انصب اهتمامها على موضوعين؛ هيمنة الإسلام السياسي واستبداد الدولة الوطنية، مع اختلاف أولويات الطرح في البلدين.
وترى كسّاب، أستاذة الفلسفة والفكر العربي الحديث في معهد الدوحة للدراسات العليا، أن الكتابات المصرية والسورية في نهايات القرن العشرين بشأن التنوير قد ناقشت "ظلمة أزمانها.. المثقلة بمعضلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وحرمان ممنهج للناس من المشاركة في التعامل مع هذه المشاكل بصورة علنية وعقلانية"، وشكلت مساعي فكرية للتوصل إلى حلول لهذه "الظلمة" وتشخيصها واقتراح الإصلاحات، التي كانت في الحالة السورية على الأقل "سيزيفية" كما تصفها كساب.
أصحاب النقاشات التنويرية كانوا بشكل كبير نقديين ووجدوا أن أصل المأزق سياسي ،"ولا يمكن علاجه إلا باستعادة الحق في المشاركة السياسية التي لا يمكن إلا من خلالها محاربة امتهان السلطة ووقف الضرر الذي أحدثه ذلك.. المشاهد في جميع مناحي الحياة.."، ووجدوا أيضا أن التنوير يتحقق في إعادة بناء الإنسان والمساعدة في تحريره واستعادة كرامته ورفاهه.
لذلك، تعتقد كسّاب أن هذه الكتابات التنويرية ترتقي إلى أن تكون فلسفة إنسانوية سياسية، "أي نظرة تحتوي في مركزها الإنسان الذي هو أيضا غايتها من خلال إعادة الحياة السياسية والديمقراطية". وهي مطالب نادى بها الناس حين خرجوا إلى الشوارع بعد ذلك بسنوات في مصر وسوريا والعديد من الدول العربية، عندما انطلق الربيع العربي في موجته الأولى من عام 2010 إلى عام 2013، ولا تزعم كسّاب وجود علاقة سببية، أو أن هذه المطالب قامت بسبب خطابات التنوير "التي جاء بها هؤلاء المثقفون العرب الناقدون"، لكنها ترى في تلك المطالب والخطابات أصداء لبعضها البعض، "ما يدل على أن بعض المثقفين العرب شارك أغلبية مواطنيه المعاناة وصاغ ما تتوق إليه هذه الأغلبية".
مفارقة وهبة
شهدت مصر في تسعينيات القرن العشرين صراعا واضحا بين خطابين لـ"التنوير"؛ الأول خطاب حكومي كان هدفه مواجهة "صعود التعصب والعنف الدينيين"، قام على محاولات إحياء إرث النهضة بإعادة نشر ومناقشة أعمال روادها (رفاعة الطهطاوي، قاسم أمين، جمال الدين الأفغاني، محمد عبد، طه حسين..)، شارك فيها باحثون من غير الإسلاميين "ممن شعروا أنهم مستهدفون من الأصوليين الدينيين.. وفعلوا ذلك بصفتهم الشخصية كباحثين ومثقفين، وأيضا كموظفين في مؤسسات الدولة الثقافية.. وأحد أبرز هؤلاء هو (الناقد الأدبي المعروف) جابر عصفور".
الثاني "خطاب إسلاموي" رأى في الخطاب الرسمي تزوير مقصود للتاريخ الفكري المصري على يد العلمانيين، فروّاد النهضة مثل الأفغاني وعبده والطهطاوي عملوا من أجل تجديد إسلامي وليس من أجل تنوير غربي، بحسب ما يرى المفكر الإسلامي محمد عمارة. وسبق ذلك ورافقه مجموعة من الطروحات لفئة ثالثة من المفكرين العلمانيين ممن دعوا إلى التنوير وتمتعوا بقدر من الاستقلال عن الدولة، مثل أستاذ الفلسفة مراد وهبة، الذي ركز في كل نقاشاته وكتاباته على ضرورة تبني العلمانية لأنها الشرط الضروري لإمكان استخدام النقد البناء ومن ثم التنوير، مرجعا سبب تخلف العالم الثالث على وجه العموم والعالم الإسلامي على وجه الخصوص إلى غياب العقل النقدي، بسبب "المحرمات الثقافية التي تنبع من طرائق التفكير الدوغمائي الأصولي الذي ينبثق بدوره من المناهج الأصولية القائمة على التفرد والنقاء في تناولها للتقاليد والدين".
وبحسب ما تبيّن كسّاب، فقد ظل وهبة علمانيا صريحا وناقدا صارما لجميع ألوان الأصولية، وحافظ على مسافة نقدية بينه وبين الدولة، لكنه وقع في ما أسمته "مفارقة وهبة"، التي وقع فيها للأسف الكثير من المثقفين والمفكرين المصريين، فرغم ترحيبه بثورة يناير وحركة الشباب التي وقفت وراءها، لم يجد غضاضة في إبداء إعجابه بـ"جسارة" المشير عبدالفتاح السيسي في التصدي للإخوان المسلمين وسعيهم لفرض أفكارهم على المجتمع، و"إبداعه" في محاربة الإرهاب من خلال تنفيذ مشروعات جريئة مثل افتتاح قناة السويس الجديدة في ظروف صعبة.
تقول كسّاب: "إذ يصب وهبة تركيزه على الأصولية التي ينشرها الإسلامويون فإنه يبرئ الدولة الاستبدادية الفاسدة بالضرورة من الأضرار البعيدة المدى التي ألحقتها بالمجتمع المصري في مجالات التعليم والرعاية الصحية والخطاب العام والأمن، ولا سيما السياسة.... هي مفارقة من يدافع بقوة عن الحرية والتفكير النقدي والديمقراطية لكنه يمنح دعما غير مشروط للدولة التي لا تخضع لأي رقابة والتي أثبتت الأيام أنها شديدة الخطر على الحياة والحرية والكرامة. هذا التناقض ينبع من اختيار حاد بين دولة أوتوقراطية واستبداد ديني..من الملاحظ أن ثورة ينايرلم تستطع أن تقنع مفكرا مثل وهبة بأن يصرح بأعلى صوت وأوضحه بوجود حاجة إلى طريق ثالث لمعارضة الاستبداد الديني".
نقد التنوير
عند نهاية الألفية تعرض خطابا التنوير الحكومي والإسلاموي لهجوم حاد من عدة جهات، تناقش كسّاب ثلاثة منها الأول للباحثة في علم الاجتماع منى أباظة، والثاني للباحث في الدراسات الإسلامية نصر حامد أبوزيد، والثالث للمؤرخ شريف يونس.
تقول كسّاب إن المفكرين الثلاثة استهجنوا ما تعرض له التنوير من امتهان يتسم بالنفاق والسطحية، وحللوا الخلفية التاريخية الاجتماعية للمثقفين المنخرطين في كلتا الحملتين. ورأوا أن أنصار كل منهما في الواقع كانوا محافظين مذعنين لا شأن لهم بأفكار التنوير التحررية، كما أن كلا الخطابين سطحي أنتج على عجل ليواجه الخطر الإسلاموي من دون تحليل جاد للواقع، واستخدما استخداما هزليا في لعبة سلطة لم يكن نشر قيم التنوير من أهدافها.
على سبيل المثال يجد شريف يونس أن ما رآه المشاركون في الخطاب الحكومي عن التنوير تنويرا هو "قوة و إرادة دولة مركزية تقود البلاد نحو التقدم والتحديث. وبهذاالمعنى فإن مشروعهم التنويري كان مشروع الدولة، ولم ينبع من إرادة الناس وحريتهم.. لم يكن مشروعا لحرية الفكر والعبادة أو مشروعا ينتقد الواقع.. أو يعزز الديمقراطية، وعليه فقد تبنى أنصار التنوير الحكومي أو التنوير العلماني قيم الحرية والعقل والديمقراطية بوصفها قيمهم لتقديم مشروع دولة لا يمكنها بحكم طبيعتها السلطوية والنخبوية اعتناق تلك القيم.
ومن ناحية أخرى فإن الإسلامويين الذين تحدّوهم بالتنوير الإسلامي سعوا إلى تبني القيم نفسها حين طرحوا مشروعهم بشأن الدولة. وهنا نجد كل معسكر قد عرّف الدولة بمفهومه الخاص للهوية: مصرية لمعسكر وإسلامية لآخر... وبهذا أصبح الكفاح من أجل التنوير حربا بين نخبتين: إحداهما تدعي الدفاع عن الديمقراطية والوطن، والأخرى تدافع عن الله، لكن الأولى ذات صلة وثيقة بجهاز الدولة، بينما تسعى الأخرى إلى الحلول محلها بالوظيفة نفسها.
تؤكد كسّاب في هذا السياق أن عددا لا بأس به من الباحثين والأكاديميين والصحفيين والفنانين المصريين قد مارس هذا النمط من نقد التنوير بخطابيه نقدا ملموسا قبل الثورة المصرية وبعدها، ومنهم على سبيل المثال، أستاذ التاريخ خالد فهمي، وريم سعد وأهداف سويف وبلال فضل ووائل جمال ورباب المهدي.
توافق ملتبس
في الفترة نفسها، أي التسعينيات من القرن العشرين، شهدت دمشق هي الأخرى نقاشا حول التنوير، وعلى الرغم من أن مغزى الأفكار العامة الأساسية كان هو نفسه (العقل، الحرية ضد القمع والتعصب) فإن النقاش السوري كان مختلفا بظروفه وأهدافه وتركيزه عن النقاش المصري. لم يكن الإسلام السياسي في خطابات التنوير السوري الخصم الرئيس، إنما استبداد الدولة وفسادها ووحشيتها، الإسلام السياسي كان قد اختفى من المشهد العام قبل عقد من الزمان.
كما أن المجال العام للنقاش في سوريا كان يخضع للكثير من القيود التي فرضها النظام القمعي، والذي لم يكن معنيا أصلا بخطاب التنوير، لذلك فإن الذين تجرأوا على الكلام لم يسموا الأشياء بمسمياتها ولجأوا إلى لغة التعميم مشيرين إلى "المجتمع العربي" و"الدولة العربية".. إلخ، حتى جاء موت حافظ الأسد وتولى ابنه بشار السلطة في عام 2000 ليعد بانفتاح على التعددية والتحديث، الأمر الذي شجع الكثير من الأصوات المعارضة على النقد بصراحة ودقة أكبر، ما أدى إلى ما عرف بـ "ربيع دمشق" الذي لم يدم طويلا.
تقوم كسّاب بتحليل خطابات التنوير السورية لتستكشف من خلالها "وقائع الظلمة والنور" من خلال كتابات ومواقف كل من أستاذ الفلسفة أحمد برقاوي، والمعارض اليساري ميشيل كيلو، والشاعر والكاتب ممدوح عدوان، والمفكرين برهان غليون وعبدالرزاق عيد، وصادق جلال العظم، وطيب تيزيني. كما تناقش مواقف اثنين ممن اسمتهم "رواد التنوير السوري السيزيفيين"، نسبة إلى شخصية سيزيف الأسطورية، هما الكاتب المسرحي سعدالله ونوس والناقد الأدبي فيصل درّاج.
شهدت سوريا في أواسط السبعينيات أزمة اقتصادية خانقة، واجتاحت البلاد حركات احتجاجية استمرت حتى نهاية العقد، في ذلك الوقت تواصلت الحكومة مع قطاعات متعددة من المجتمع وعقدت لقاءات معها بهدف إشراكها في الوصول إلى حلول، أو على الأقل كان هذا الهدف المعلن. في إحدى هذه اللقاءات أدلى كل من ميشيل كيلو وممدوح عدوان بتصريحات جريئة، كانت على ما يبدو كفيلة بسجن الأول بعد وقت ليس بطويل، حيث اتهم ما عرف وقتها بالجبهة التقدمية الوطنية بأنها أسست لقمع القوى السياسية المستقلة ولم تمثل يوما مصالح الناس، مشيرا إلى أن المسألة المركزية هي مسؤولية سياسات النظام وتدابيره التي أدت إلى الكوارث تحت بصر هذه الجبهة واستحسانها. أما عدوان فانتقد بشكل واضح الجبهة والنظام من ورائها مؤكدا أن الشعب فقد ثقته في كل ما يصدر عنهما، سيما مع انتشار الفساد وانتهاكات الجيش والاستخبارات التي لم يقل النظام عنها شيئا، أو يوضح أسبابها.
يعتقد المفكر السوري ياسين الحاج صالح أن هذا الاجتماع مثل نقطة ميلاد المثقف السوري الذي يعرف أنه شخص يحظى برأس مال رمزي يسخره في الشأن العام، ويجهر من خلاله بالحقيقة في وجه السلطة. وفي تحليله ظروف هذا الاجتماع يجد أن "النظام رأى مواجهة في الأفق مع الإسلامويين فأراد أن يفوز بمؤازرة المثقفين العلمانيين أو غير الإسلامويين، وتوقع منهم مهاجمة الإسلامويين وإلقاء اللوم عليهم في أزمة البلاد. مع ذلك فإن هؤلاء، ومعظمهم لا يتعاطف مع الإسلامويين ككيلو وعدوان، هاجموا النظام واستهجنوا فظائعه، فما أهمهم في الواقع هو دحض أي شكوك قد تشي بتوافقهم مع النظام على ما يفترض أنه نظام قيم علماني مشترك بينهم وبينه...
على أن ما نشب بين النظام والإسلامويين من عداوة قد استهوى كثيرا من المثقفين غير الإسلامويين فاستكانوا لهذا التوافق الملتبس مع النظام" وهذا الالتباس هو أحد العوائق التي تحول دون تشكل نمط معارضة يسود في سوريا. أمر آخر منع ظهور معارضة حقيقية، بحسب الحاج صالح، وهو الالتزام الأيديولوجي، سواء كان تقدميا أم شيوعيا أم قوميا أم إسلاميا. فقد حرم هذا الالتزام المثقفين من الاستقلال الفكري والسياسي اللازم للمعارضة الحقيقية.
يتفق برهان غليون مع الحاج صالح في نقد الأيدبولوجيا، وقد كان "من أوائل المفكرين السوريين الذين طالبوا بالديمقراطية، وإن فعل ذلك من باريس حيث يقيم، حتى تسعينيات القرن العشرين في سياق عربي عام دونما إشارة صريحة إلى الواقع السوري. يرى غليون أن التاريخ الحديث أثبت استحالة تحقيق تنمية دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية من دون وجود ديمقراطية شعبية يستطيع الناس من خلالها تمثيل مصالحهم والسيطرة عليها.. إن ما حدث هو تأسيس دول على يد نخب تابعة لرؤوس الأموال وخاضعة لأصحابها الذين يوالون مصالح الغرب ويتبنون قيمه ويتسمون بالانفصال عن أغلبية الشعب في بلدانهم..وعليه فقد بنيت أنظمة التعليم وصممت المشروعات الاقتصادية والثقافية من دون مراعاة لحاجات الناس ومصالحهم".
استعادة المواطنة
في بداية التسعينيات دشن ثلاثة مفكرين بارزين هم سعدالله ونوس وفيصل دراج والروائي عبدالرحمن منيف مجلة "قضايا وشهادات"، ناقشت مواضيعها الرئيسية العقلانية والديمقراطية والحداثة والتحديث والنهضة والثقافة القومية والتبعية والتراث والتاريخ. هدفت المجلة بحسب ما كتب ونوّس إلى "ربط الثقافة الديمقراطية العربية الحاضرة بماضيها الثقافي الذي كافح من أجل العقلانية والكرامة الإنسانية وبناء مجتمع مدني.. وهي لا تسعى لأجوبة جديدة لأسئلة قائمة بقدر ما تسعى إلى إعادة صوغها". تقول كسّاب إن المساهمين في هذه المجلة لم يغب عنهم استحالة إحداث أي تغيير فوري في الواقع السوري والعربي، لكنهم شعروا بإلحاح الحاجة في أن يشهدوا ويقدموا إمكانات بديلة متخيلة للتنوير.
وتضيف أن المشاركين عموما في نقاش التسعينات كان من الواضح لديهم أنه "لا يوجد أي هامش للفعل، وأن أي تحرك مكتوب عليه الهلاك. ولكن بمجرد أن سنحت الفرصة برحيل المؤسس المستبد (حافظ الأسد) تجمع الناس لعقد هذه النقاشات حول الحاجة إلى إصلاح اقتصادي وسياسي، وشكلوا الجمعيات وأصدروا البيانات.. كان صنيعهم هذا تعبير عن حاجتهم لاستعادة إنسانيتهم ومواطنتهم، وساهم كثير من المشاركين في النقاش (السيزيفي) من أكبرهم سنا وهو انطون مقدسي الذي كتب في العام 2000 رسالة مفتوحة إلى الرئيس الجديد، ومرورا بصادق جلال العظم وعبدالرزاق عيد، وبرهان غليون .. لكن نافذة الفرصة تلك ما لبثت أن سدت بأدوات النظام القمعي... ومع ذلك فقد واصلت أفكار ومثل تنوير تسعينيات القرن العشرين حضورها كأرضية لما يقترح من تحركات.. ولسوف تكون حاضرة في مطالبات ثوار 2011 من أجل الحرية والإنسانية".
توضح كسّاب أنه في حين نبذت خطابات العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين في مصر نظيراتها التي سادت في تسعينيات القرن العشرين، فإن الخطابات في سوريا تحركت في خط متصل من النظرية إلى التطبيق. وفي الحالتين أدى العقدان إلى اندلاع احتجاجات جماهيرية طالبت بالكرامة والإنسانية والحرية والمشاركة السياسية وهي مطالب تمركزت في قلب التنوير في البلدين.
هل يصلح علم النفس الحديث لدراسة حياة الأنبياء العاطفية؟
كيف توظّف نظريات الفلاسفة في السياسة المعاصرة؟ (2من2)
كيف توظّف نظريات الفلاسفة في السياسة المعاصرة؟ (1من2)