لعلها أول رواية تاريخية جزائرية بالمفهوم البنائي والتوثيقي والفكري معا، كما يشير إلى ذلك الناقد والأكاديمي محمد الأمين بحري، لكن المؤكد أنها أيضا أول رواية جزائرية تتوج بالجائزة العالمية للرواية / البوكر في دورتها الثالثة عشر.. وهي لأجل ذلك، أنتجت زيادة على النقاش النقدي المتخصص، ضجة كبرى بخلفيات سياسية فكرية وأيديولوجية ما زالت قائمة إلى اليوم.
الرُّهاب التركي مجددا
ومبعث هذا الجدل الفكري المحتدم، الذي أعادت إحياءه رواية "الديوان الإسبرطي" للأديب الجزائري الشاب عبد الوهاب عيساوي، أنها جاءت في أجواء رمضانية، متسمة في منطقتنا العربية والجزائر تحديدا، بهبوب رياح ما بات يعرف بـ "العثمانوفوبيا" ورُهاب الترك، الذي تعمل على تثبيته بشتى الطرق أطراف محلية وعربية، ترى في الانبعاثة التركية الحالية، خطرا داهما لمشروعها الفكري النكوصي، حتى وإن تدثرت خلف الفكرة القومية، وادعت أن مشكلتها مع الطورانية وليس مع الإسلام كرسالة وحضارة.
وكما سيأتي في السياق، فإن جدال المعنى (المحتوى)، غلب على جدل المبنى، وتدخلت أطراف كثيرة، لدق أسفين بين الأتراك والجزائريين، عبر استخدام التاريخ المزيف، والأيديولوجيا المقيتة، في محاولة تثبيت أنه لا فرق بين الأردوغانية والماكرونية، ولا بين الاحتلال الفرنسي والعثماني، فطالما أن الفرنسيين عاثوا في الجزائر خرابا أكثر من قرن وثلاثين سنة، فإن الأتراك طمسوا معالم الجزائر العربية طوال ثلاثة قرون كاملة (1518/1830)، وهو أمر يجانب الحقيقة عند أكثر المؤرخين موضوعية.
وهو ما أخرج الرواية ضمن سياق جدال المعنى، من أطراف غير مختصة ولا مدركة بالفن الروائي، من الدائرة الأدبية إلى الدائرة الفكرية والايديولوجية، والتي لا يبدو أن مروجيها على توافق تام مع حقيقة العلاقات الجزائرية ـ التركية الجيدة، خاصة بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس أردوغان الى الجزائر في 26 يناير الماضي، عقب تولي عبد المجيد تبون رئاسة الجزائر.
لقد دخلنا فجأة في صراع الأفكار والأيديولوجيا، قبل أن نخرج من جدل التاريخ الذي أحدثته الرواية الممتدة أحداثها ما بين 1816 و1833، وهي الفترة التي تزامنت ونهايات التواجد العثماني بالجزائر، وبدايات الاستعمار الفرنسي، لنجد أنفسنا خارج النص، ضمن السياقات الغوغائية وما يقترفه الذباب الإلكتروني من مشاحنات، تحركها للأسف منصات خليجية، ربما تكون قد حاولت حتى تمرير رؤيتها من خلال السيطرة على العوائد المالية للجائزة، وإن كانت الرواية من الناحية الفنية، قد تمكنت من الإفلات من سهامها.
والحقيقة أن الحروب الجانبية (الأيديولوجية)، تضع على ظهر المبدع في العادة ما لا يطيق، في محاولة تحميله مواقف شخوص بعينها وبانتقائية مخلة بالفعل الإبداعي التخيلي الحر، ولعل حصول ذلك مع عبد الوهاب عيساوي، مرده إلى كونه أول جزائري يتوج بالبوكر العربية، بينما لم يحدث ذلك إلا نادرا مع تجارب روائية جزائرية أخرى أخذت نوعا من المنحى التاريخي بدورها، على غرار رواية "كتاب الأمير" لواسيني الأعرج، ورواية "الرايس" لهاجر قويدري، أو حتى روايات أقدم منها من ذات النوع، لأمثال الطاهر وطار أو حتى أحلام مستغانمي، رغم بعض المطبات الجدلية في أحداث التاريخ التي وقعت فيها.
غير أن رواية "الديوان الاسبرطي"، الصادرة عن دار ميم، 386 صفحة، تجاوزت بمراحل الفكرة النمطية عن التاريخ، المتسم بالجفاف والجمود، إلى رواية تنبض بالحيوية الشاعرية والشخوص المنبعثة ماضيا وحاضرا، كأنما تحدثك من أعماق الماضي عن أحداث تشاهدها اليوم.. وهي بالتالي تنتقل من مساءلة التاريخ إلى استشراف المستقبل، وتقدم الأدب على طبق من فكر.
إن عملية "تخييل" التاريخ روائيا، كما فعل عيساوي ليست عملية بسيطة، واستخدام تقنية الحوار الداخلي أو الباطني (المناجاة)، على حساب الحوار الخارجي، وتوزيع البطولة على خمسة شخوص (الصحفي الفرنسي ديبون، القائد كافيرا، ابن ميار المهادن، الثوري حمة السلاوي والملهمة دوجة)، بدل البطل الراوي، دليل ساطع على رفض الرؤية الأحادية لأحداث التاريخ (التواجد العثماني في الجزائر/ الحملة الفرنسية ودور اليهود فيها / دور المثقف الفرنسي / المقاومة والجهاد...)، وحتمية تنويع مصادر البحث، وعدم الاقتصار على وجهة نظر واحدة.
نحن إذن بصدد منتج فكري قبل أن يكون أدبي، ورواية لا تسكن في الماضي، بقدر ما تهجع في قوارب المستقبل، عبر رؤى وأفكار تحمل من قيم الحرية أكثر مما يراد لها أن تحمله من أوزار "الأدلجة".
المجد للنص أولا وأخيرا
يرجع الأكاديمي والشاعر الجزائري بشير ضيف الله الضجة الكبيرة التي أحدثتها الديوان الإسبرطي لعبد الوهاب عيساوي إلى عدة أسباب، أهمها خروج هذا النّص من الهامش بعيدا عن الهيمنة المركزية، فرغم أن الروائي أثبت حضورا مهما قبل صدور هذه الرواية، إلاّ أن "تكسير" الهيمنة التي فرضها منطق "المركزية" حتى لا أقول "الشللية" جعلها تحدث "هزّة" منتظرة في رأيي خصوصا وأن الترشيحات كانت تصب في صالح روايات أخرى بالنسبة للذين لم يطلعوا على العمل الذي بذل فيه الروائي مجهودا خرافيا، لذلك يمكن أن يعذروا بجهل"فنية الرواية" واختلافها، واشتغالها على الموضوعة التاريخية من منظور متعدد..
أما السبب الثاني فهو تسليطها الضوء على حقبة تاريخية لاتزال تثير كثيرا من الأسئلة وعن دور التواجد العثماني في الجزائر، فمن الطبيعي أن يتحرك القائمون بأعمال الدولة العثمانية في الجزائر ـ إيديولوجيا ـ لإثارة زوبعة المساس بالخلافة السابقة المنتظرة والتي لا يرقى إليها الشك طبعا ـ في نظرهم ـ والحال أننا أمام أحداث تاريخية قد لا تكون مضبوطة لكنها تحمل جانبا من الصحة حتما ...
ويحلل بشير ضيف الله (دكتوراه العلوم في النقد المعاصر) الأسئلة التي أثارتها رواية "الديوان الإسبرطي" لـ "عربي21"، بالتأكيد على أن إثارة هذه الأسئلة من صميم العمل الفني النّاجح، فالعمل الذي لا يحدث خلخلة، أفعالا وردود أفعال لا أراه جديرا بالتتويج.. لقد كان الروائي عبد الوهاب عيساوي حكيما حين وظف خمسة أبطال لا بطلا واحدا للرواية، لكل منهم وجهة نظر تختلف عن الآخر... "دوجة، ديبون، حمة السلاوي، ابن ميار، كافيار.." وترك الباب مشرعا للقارئ كي يتصور الموقف الذي يوافق وجهة نظره / خلفيته المعرفية، فهو لم يبد موقفا محددا يقينيا، وتلك تقنية "بوليفونية" تمكن السارد من فكّ "الحصار" المفروض على كثير من الحقائق التاريخية.. لذلك فرغم الموضوعة التاريخية التي تلقي بظلالها على المتن الروائي إلاّ أن العمل كان تحفة "تاريخية" بامتياز.
لقد رفع عبد الوهاب عيساوي، حسب بشير ضيف الله، السقف عاليا هذه المرة، فلم يفز بالبوكر منذ دورتها الأولى جزائري، لذلك فالرواية الجزائرية مطالبة بتأكيد هذا الحضور في البوكر وفي غيرها من الاستحقاقات رغم صعوبة المهمة، لأن الرهان شاق، لكنه ليس مستحيلا، ففوز عبد الوهاب عيساوي، القادم من عمق الجزائر، الشاب مقارنة بالأسماء الكبيرة الوازنة التي "تساقطت" اتباعا من "تصفيات" البوكر على غرار يوسف زيدان، وسليم بركات، جعل المستحيل ممكنا، وهي رسالة للروائيين الشباب لأخذ المبادرة والتفكير في النّص المختلف، فالنص وحده "فيزا" التألق، كما أن هذا الفوز يزرع حافزا في جيل ما قبل "عيساوي" ليأخذ المبادرة ويعود إلى الواجهة السردية... شخصيا أعتبره درسا لي ولأمثالي من المبدعين والأكاديميين مفاده أنّ لا عمر للكتابة ولا نجاح إلا بالحضور نصا، لاسيرة.. فالمجد للنص أولا وأخيرا..
ظلال السياسة
هذه الضجة كانت منتظرة برأي الروائي الدكتور فيصل الأحمر، ففي كل عام نشهد ردود فعل متفاوتة الأدوار عقب الإعلان عن النتيجة. وقد دارت ضجة الغاضبين هذا العام حول إمكانية أن تكون النتيجة مسيسة نوعا ما، فقد انتشرت صدفة على قوائم البوكر قصيرها وطويلها روايات تتحدث عما يسمى "إبادة الأتراك للأرمن"، وكذا هذه الرواية الفائزة بالبوكر التي تحمل تصويرا سلبيا لدور الأتراك في المرحلة التاريخية التي تتحدث عنها الرواية... بالنسبة لي علينا أن ننتصر للفائز للأسباب التي هي إخراج النص الجزائري الشاب من عنق زجاجة طال أمده. فالأدب الجزائري منذ ثلث قرن يعيش منعرجا حاسما بعدما عاش صدمة كبيرة على الأصعدة كلها أيام العشرية السوداء، ولكنه وضعٌ ظل مجهولا من قبل القارئ العربي الذي ظل لا يعرف إلا ثلاثة أسماء أو أربعة تم تكريسها عنوة على حساب جماليات نصوص كثيرة كنص عبد الوهاب عيساوي الذي أعتقد انه سيفتح الباب واسعا امام غيره من الكتاب.
يقول الروائي فيصل الأحمر لـ "عربي21" إنه علينا أن نعي في المطلق بأن الرواية ليست وثيقة تاريخية، فهي ليست مطالبة بكل هذا التحري الذي استنهضه المنتقدون، وإن كان الدور الأيديولوجي للرواية كوسيلة لصنع وجهات نظر هو من الأساسيات التي علينا أن نأخذها بعين الاعتبار... فهنالك فعلا وجهات نظر يتم فرضها من خلال انتقاء المرجعيات والشخصيات. فكل واقعة في الرواية مهما صغر حجمها هي واقعة إيديولوجية كما يقول ميشال فوكو في تحليل الخطاب، وكما يقول جماعة الدراسات الثقافية في قراءة الإبداع حسب مخرجاته الإيديولوجية والثقافية... ونحن لا نستطيع أن نغفل أن هنالك كثرة غير عادية في النصوص التي عملت على إظهار صور معينة ستنغرز في أذهان قراء الروايات الذين هم أكثر شغفا بالحكايات منهم حذرا للحقائق التاريخية... صور حول التواجد الاستعماري في بلداننا العربية، حول تمثلات اليهود التي يتم التلاعب بها كثيرا، حول تحجيم أدوار معينة لفاعلين محددين في التاريخ العربي بين تصغير وتكبير مبالغ فيهما... الخ.
يبقى كخلاصة أنه علينا أن نحتفي برواية الصديق عيساوي لأنها أوجدت لخطابها ـ سواء أوافقناه أم عارضناه ـ الظرف الجمالي الكافي الذي يرفعها إلى مصاف الأفضلية على ما أُلِّف في هذا العام من روايات في العالم العربي... أما باقي الجدل فإننا سنتركه لقادم الأيام لعله يختمر جيدا وسنتابعه بشغف وموضوعية.
إن الأدب الجزائري اليوم بالنسبة لفيصل الأحمر يعد بالكثير.. وهو قادر على رفع أكبر التحديات، ذلك أن هنالك فورة إبداعية كبيرة لا تجد لها إمكانيات واسعة للظهور رغم جودة ما تبدعه. بصفتي من القلة التي تحظى بفرصة السفر أحيانا، كثيرا ما أواجه بالسؤال حول: كيف أننا لا نعرفك؟ لماذا لا تشاركون في مهرجانات بالمشرق للتعريف بأدبكم الجديد... الخ... وكل هذا سببه استمرار غير مبرر لروح الأبوة التي مصدرها سياسي وصداها ثقافي أدبي... فنجد أسماء مكرسة في الأطر الرسمية بشكل فيها عنت وتجنٍّ وإقصاء كبير. هذا في اعتقادي هو سبب عدم ظهور نصوص جزائرية كثيرة تختفي تماما ثم تنفجر فجأة فنجدها تحصد كثيرا من الجوائز الأدبية المرموقة. وعام 2020 عام ثري جدا بهذه الجوائز التي قد تكون البوكر التي حصدها الصديق عيساوي أرفعها قيمة وأبعدها صدى.
ليس على الروائي ان يقدم تبريرات
ويعلل الروائي والشاعر اسماعيل يبرير الضجة التي أحاطت تتويج عيساوي طبيعية، بأنها حالة سنوية حول الجوائز المهمة ليس فقط في العالم العربي بل في كل العالم، فالحياة الأدبية برأيه مرتبكة بأسئلة الموضوعات الأيديولوجية، أحيانا يلبس بعض النصوص تأويلات وقراءات لا تعني الكاتب وتتسبب في ضجة لاحقة لضجة النص والتتويج، وتصبح فوضى غير أدبية حول عمل أدبي.
ويعتقد اسماعيل يبرير في حديثه لـ "عربي21"، أن ليس على الروائي أن يقدم تبريرات بخصوص الأسئلة التي أثارتها الرواية، بل على القارئ في كل مستوى أن يقرأ النص بأدواته، في النهاية الكاتب هنا لا يقدم خطابا سياسيا أو أيديولوجيا مباشرا، بل خطابا مضمرا، ولا يمكن لأحد أن يحكم نهائيا إلا من خلال تصريح أو اعتراف الكاتب مباشرة.
وبخصوص مستقبل الرواية فيعتقد اسماعيل يبرير أنه مرهون في العالم بحركية الصحافة والإعلام وتطور الجوائز والنشر، أما الرواية الجزائرية فمرتبطة بفضاء فراكفوني يعتمد على فرنسا وفضاء عربي يعتمد على المشرق... ولذلك فإن مستقبل الرواية الجزائرية يحتاج إلى بعث وتطوير عناصر المشهد الأدبي ككل من إعلام ونشر ونقد.
سجالات المعنى والمبنى
في المقابل يرى الروائي كمال قرور أن حدوث ضجة بهذا الشكل حول "الديوان الإسبرطي" هو حدث استثنائي. فعادة يفوز كتابنا بالجوائز العربية أو الأجنبية المحترمة، ولا احد يلتفت اليهم. هذا العام شارك في البوكر ثلاث دور نشر خاصة تهتم بالأدب وأربعة روائيين وصلوا إلى القائمة الطويلة والقصيرة وهناك متوج بالجائزة ومحكم أيضا، وهذا بحد ذاته فخر للإبداع الجزائري.
الرواية عند كمال قرور هي نص أدبي فني له وجهان المبنى / التقنية والمعنى / المحتوى وليست كتابا في التاريخ، يسرد الأحداث والوقائع والشخصيات. إذا أخذ المعنى / المحتوى حيزا كبيرا من النقاش في البداية، فهذا يدل على أن المحتوى كان صادما للمتلقي الجزائري الذي ركن للمسلمات التاريخية الرسمية، وهي في الحقيقة هشة ومخجلة أحيانا، شيء مخجل أن يبنى تاريخ أمة عريقة على مروحة، في حين تغيب الحقائق الحضارية والسياسية والجيوسياسية. لهذا حاولت الرواية من جهة أن تخلخل هذه المسلمات المدرسية الرسمية، نتفق أو نختلف مع الروائي، المهم هناك قراءة مغايرة للتاريخ الجزائري وبجرعة الجرأة غير المعهودة، وخاصة أنها جاءت في نص أدبي فني وليس في نص تاريخي. من حق المنتقدين ان يتصدوا لما جاء في الرواية من طروحات، فقط لا ينسوا أنها نص أدبي، من وجهة نظري أرى الظاهرة إيجابية، ولكن فقط لا يحرف النقاش ويصل إلى التجريح والتخوين .
ويؤكد كمال قرور في حديثه لـ "عربي21" أنه بعد توقف سجالات المعنى، سيخوض النقاد في دراسة الرواية دراسة فنية ويوضحون بموضوعية ما لها وماعليها .
ويخلص كمال قرور إلى أن الأدب الجزائري بخير وهذه الأسماء المتوجة بالجوائز كل سنة في مجالات إبداعية مختلفة تؤكد ذلك. نحن فقط نحتاج اليوم إلى تثمين هذا التراكم الإبداعي والنقدي، ولا نتنكر له. بالتجاهل أو رميه بالسهام المسمومة. وبكل تأكيد هناك أقلام كثيرة ستعلن هي الأخرى عن قدراتها الابداعية لأن آفاق التألق مفتوحة الآن للجميع إلا من أبى.
التاريخ على محك التخييل
بالنسبة لمحمد الأمين بحري، ناقد وأكاديمي جزائري، فقد أثار فوز "الديوان الإسبرطي" بالجائزة الثمينة، ضجة وليس سجالا أو نقاشاً نقدياً، وهذا يعني أن الضجة وقعت خارج مجال الحقل الثقافي، لذا ليست الرواية معنية بها، ولا الوسط الثقافي معني بها، لأنها ضجة فارغة وجعجعة دون طحين، تغذيها إيديولوجيات غير ثقافية، ولا مختصة في الشأن الذي تتحدث فيه، وحين يتحدث شخص عن أمر لا يختص فيه، فإن النقاش هنا يصبح غوغائياً، وحتى من قرأوا النص لم يطلعوا على الرصيد العالمي والعربي والجزائري حتي يموقعوا فيه حديثهم عن هذا اللون التخييلي التاريخي من السرد، لهذا أنا لا أجد بأن هذه الضجة تستحق الحديث أو الاهتمام نظراً لخروجها عن الحقل الثقافي والأدبي والروائي، وما يهم فقط هو النقاش والسجال الثقافي المستند على مواقف وآراء تحليلية، لأصحاب الشأن. التي نستفيد كقراء من توافقاتها واختلافاتها المبررة فنياً.
طبعاً العمل الأدبي الحقيقي في رؤية محمد الأمين بحري، هو الذي يثير التساؤلات، والاستشكالات في ذهن المتلقي، ولم يخلق الإبداع كي يقدم الجواب لأي أحد، بل إن العمل الأدبي الذي يقدم للقارئ إجابة نهائية هو عمل أحرق نفسه وأنهى حياته الإبداعية.
ومن الجميل أن تضع الرواية موضع تساؤل يضيف الناقد والأكاديمي محمد الأمين بحري، ليس بالنسبة للفترات الاستعمارية السابقة فقط، بل التاريخ الجزائري بأسره يحتاج إلى إعادة قراءة، وخاصة إن كانت القراءة بتخييل فني وأدبي بعيد عن الواقع بمسافة جمالية. وهذا هو الفرق الذي لم يفهمه المتلقي الخارج عن المساق الأدبي، فيحسب بأن الروائي يقدم له التاريخ الواقعي، بينما في الحقيقة هو يضع صفحات التاريخ على محك التخييل، كما فعل من قبل كل من محمد مفلاح الذي تناول المسافات الفاصلة بين الغزو العثماني، والإسباني والفرنسي، وتحدثت هاجر قويدري من قبل عن الجزائر في الفترة العثمانية، ما قبل الاحتلال الفرنسي وفي عقد رياس البحر في روايتيها، نورس باشا، والرايس. كما كتب واسيني عن الأمير عبد القادر وحياته الحربية. بتخييل متفاوت.
والتخييل الأدبي هنا، يقول محمد الأمين بحري هو استكمال فني للفجوات التي تركها التاريخ كممارسة وكعلم "بل أقول إن كاتب الرواية التخييلية، سينجح في عمله من حيث فشل المؤرخون، ومن حيث تركوا مساحات وفراغات يستغلها هو ليكملها مخيالياً، ويزرع فيها قصصاً جانبية وشخصيات إضافية تمنح لموقفه السردي والجمالي بعداً فنياً يحسب لتخييل التاريخ وليس لعلم التاريخ ووقائعه، كما فعل من قبل؛ جورجي زيدان بالتاريخ الإسلامي أو نجيب محفوظ بالتاريخ المصري، فلم لا يفعلها عيساوي وواسيني وهاجر قويدري ومحمد مفلاح، بتاريخ بلدهم حين يكملوه لمخيلاتهم السردية ويجتازون بقرائهم تلك المسافات الجمالية في التاريخ الجزائري مخيالياً؟
نحو رواية صحراوية عالمية
إن الرواية الجزائرية عند محمد الأمين بحري هي سرد عالمي منذ بواكيرها ليس فقط عند محمد ديب وكاتب يسين بالفرنسية، ومنذ الطاهر وطار وبن هدوقة بالعربية بل منذ القرن الثاني للميلاد، في عهد أبوليوس صاحب رائعة الحمار الذهبي.
ويراهن الأكاديمي والناقد الجزائري محمد الأمين بحري في ختام حديثه لـ "عربي21"، على وجود سرد جزائري يمتلك منحى عالمي غير ملتفت إليه حالياً، وهو أدب الصحراء، أو السرد الصحراوي، سواء في فن الرواية مع أسماء وازنة مثل الصديق حاج أحمد الزيواني (في روايتيه مملكة الزيوان وكاماراد)، أو عبد القادر ضيف الله، (في روايته: تنزروفت) أو خيري بلخير الفائز بجائزة آسيا جبار مؤخراً، (في روايته نبوءات رايكا، وهي رواية صحراوية محكمة البناء بليغة الدلالة). أو جميلة طلباوي (في روايات الخابية وادي الحناء) أو في فن القصة مع عبد الله كروم، وعبد الكريم ينينة، وغيرهما.
وأضاف: "إن كنت سأتفاءل لنمط روائي جزائري ببلوغ العالمية في المستقبل فهي الرواية الصحراوية لأن نشأتها عالمية التأثيث، ولا تصنف جزائرية أو ليبية أو تونسية. لأن أدب الصحراء، يكتب من حيث عوالمه الأسطورية، وتيماته الوجودية والفلسفية، وقضاياه الإنسانية كأدب عالمي بالولادة".
ويخلص محمد الأمين بحري إلى أن هذه التتويجات العربية والدولية الأخيرة لم تأت صدفة، بل هي نتيجة هذا التراكم السردي الذي يكثر فيه الغثاء والبهرج حقيقة، لكن بالمقابل يسمح ببروز أصوات روائية متجددة ترسم خارطة السرد بملامح ثقافته الحالية، وإلى أنه علينا أن نفتخر بهذا الصعود المستحق لهذه الأقلام والأصوات التي بدأ تدفقها يطفو على الساحة الأدبية العالمية والعربية، بعد أن فرضت نفسها على الساحة المحلية بخطوات ثابتة ودون أية مفاجأة.
كورونا.. قصة صراع العلم والسياسة في أمريكا وأوروبا
الإشاعة والفكر التضليلي زمن كورونا.. الجزائر نموذجا
كورونا وجدل الدين والعلم في الفضاء الإسلامي