كتاب عربي 21

تُجار الإرهاب وسماسرة الدم في تونس

1300x600

تعيش تونس اليوم حالة من الاستقطاب السياسي الحاد بين مختلف المكونات الحزبية والفكرية. ليست الحالة جديدة طبعا لكنّ الجديد فيها هو تغير الفواعل المعنيّة بحالة الاستقطاب وهو ما يؤشر على أن مساحة الصراع السياسي على السلطة قد تغيرت موازينها. الهجوم الإرهابي الأخير على سفارة الولايات المتحدة في تونس وفي منطقة البحيرة الأكثر تحصينا أمنيا من قبل عنصرين مراقبيْن أمنيا يطرح أكثر من تساؤل عن مصدر العملية وعن توقيتها وعن الغاية منها والرسائل التي تتضمنها. 


لكن الأخطر من كل هذه الأسئلة إنما يتمثل في مسألة التوظيف السياسي والاستعمال الحزبي للحادثة الإرهابية، وهو استثمار يرتقي إلى مصاف الجريمة السياسية خاصة عندما يراد به شيطنة خصم سياسي وتصفيته إعلاميا. هذا السياق الجديد يفرض على الملاحظ إعادة قراءة المشهد التونسي بناء على المستجدات الجديدة لفهم طبيعة المسار الانتقالي ومآلاته. 

الظاهرة الإرهابية في تونس

الإرهاب ظاهرة مركبة مكونة من خمسة أبعاد أساسية: البعد الأمني العسكري والبعد السياسي والبعد الاجتماعي والبعد الإعلامي والبعد الفكري، وهي تتحرك على مساحة تتقاطع فيها الأبعاد وتتشابك لتحقق الفعل المراد بها محليا وإقليميا ودوليا. وهي كذلك ظاهرة حادثة أي أنها ظاهرة غير طبيعية النشأة والتطور والاتجاه بل نبتت في إطار مشروع أكبر وهو مشروع أمريكي سمّي "الحرب الدولية على الإرهاب". هذا المشروع الدولي انطلق بعد حرب الخليج الأولى وغزو العراق وترسخ المشروع إثر اعتداء الحادي عشر أيلول (سبتمبر) 2001. 

الظاهرة ليست تونسية إذن وليست عربية. الظاهرة نبتت بإرادة سياسية ثم نشطت وتطورت بفعل إعلامي وجوبهت بأدوات أمنية عسكرية وخلقت آثارها الاجتماعية الكارثية، لكنها لم تُحلل فكريا بالقدر الذي يسمح بكشف جذورها وإبطال فعلها الاجتماعي مستقبلا بما هو الفعل الأخطر. 

 

انتصرت الثورات وسقط الطغاة لكن وصول الإسلاميين إلى السلطة كان خطأ فادحا وفرصة ذهبية لإعادة تدوير ملف الإرهاب واستعماله حجة لا للقضاء عليهم بل للقضاء على الثورات


في السنوات الأخيرة تحوّل الإرهاب إلى "عقيدة تكفيرية دولية" أي أن كل من لا يؤمن بالطرح الأمريكي للإرهاب "يُكفّرُ" دوليا ومن لا ينخرط في الحرب على شعبه باسم الحرب على الإرهاب فهو شريك للإرهابيين في إرهابهم. هذا الطرح عبّر عنه مجرم الحرب في العراق الرئيس بوش عندما قال جملته الشهيرة "من ليس معنا في الحرب على العراق فهو مع الإرهابيين".

في بداية التسعينيات تزامنا مع حرب الخليح الأولى انتهز نظام بن علي البوليسي الفرصة وفتك بمعارضيه من الإسلاميين الذين لا تزال الذاكرة الشعبية تروي عذاباتهم في السجون والمعتقلات. حينها رقص أعداء الإسلاميين من القوميين واليساريين واللبراليين طربا بسحق أعدائهم وتحالفوا مع النظام الذي مكنهم من المناصب والرتب في الجامعات والسفارات والقنصليات.
 
وفي الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وفّر النظام العالمي غطاء جديدة للأنظمة الاستبدادية العربية بما فيها النظام التونسي ليُمعن في التنكيل بمعارضيه ويفتح السجون على مصراعيها لكلّ من يشتم فيه رائحة التدين أو المحافظة. هكذا دخلت تونس معترك الحرب على الإرهاب الذي كان الحارس الوفي لجرائم بن علي والغطاء الدولي لكل الانتهاكات التي ارتكبها في حق معارضيه. 

الثورة والإرهاب 

رغم كون التهمة الإرهابية صُنعت خصيصا للمسلمين وللشعوب المسلمة وفُصّلت عن قصد لضرب كل معارض ذي نفس إسلامي خوفا من تهديدهم المنظومة الاستبدادية العربية، إلا أنّ ثورات الربيع أصابت المشرع الدولي في مقتل. أثبتت الثورة أن إسقاط النظام ليس مهمة الأحزاب، وأنها (أي الأحزاب) إسلامية كانت أو علمانية أو غيرهما أعجز من أن تفعل ذلك، بل إن الشعوب المتحررة من الحزبية والأيديولوجية هي التي أسقطت منظومة الطغاة. 

انتصرت الثورات وسقط الطغاة لكن وصول الإسلاميين إلى السلطة كان خطأ فادحا وفرصة ذهبية لإعادة تدوير ملف الإرهاب واستعماله حجة لا للقضاء عليهم بل للقضاء على الثورات التي لم يكونوا هم وقودها ولا محركها بل كانوا أبرز المستفيدين منها. 

 

اللافت للنظر أنّ كل العمليات الإرهابية التي عرفتها تونس بما فيها الاغتيالات السياسية كانت دائما متزامنة مع حدث وطني أو قرار حكومي يستهدف استئصال بقايا النظام القديم


مع عسكرة الثورات التي فرضها النظام في سوريا وليبيا كانت الفرصة سانحة لإخراج المارد من جديد فتكوّن فجأة تنظيم داعش الإرهابي وانتشرت مقاطع القتل البشعة وقطع الرؤوس، ووجد النظام الرسمي العربي فرصة ذهبية لإنقاذ نفسه. اغتنم المستبدون العرب الفرصة وأعلنوا الحرب على الإرهاب من جديد وهو ما خوّل لهم استعمال كل أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية وتلك المحرمة دوليا في سبيل وأد الثورات بحجة محاربة الإرهاب كما حدث في سوريا. 

نالت تونس نصيبها من العمليات الإرهابية الجبانة سواء عبر قتل السياح في النزل أو الهجوم على السفارات أو عبر الاغتيالات السياسية وقتل قوات الشرطة والجيش. تلقف الإعلام المرتبط بالغرف الانقلابية في الخليج الملف وصار الحديث عن "جهاد النكاح" و"خلايا التسفير" الخبز اليومي للإعلام التونسي الذي رسخ في أذهان العرب قابلية الشباب التونسي للانخراط في الجماعات الجهادية العابرة للقارات. وهو كما يعلم الجميع اليوم توصيفٌ كاذب يهدف إلى شيطنة مهد الثورات لا غير. 

اللافت للنظر أنّ كل العمليات الإرهابية التي عرفتها تونس بما فيها الاغتيالات السياسية كانت دائما متزامنة مع حدث وطني أو قرار حكومي يستهدف استئصال بقايا النظام القديم مثل قانون "تحصين الثورة". هذا الأمر يرجح كفة القراءات التي ترى أنّ العمليات الإرهابية خاضعة لأجندات مخابراتية ولمشروع يستهدف الدولة التونسية بعد الثورة ويستهدف رأسا ضرب المسار الانتقالي. 

الاستثمار السياسي للإرهاب
 
يمثل هذا المستوى أخطر نتائج العملية الإرهابية لأنه يؤكد أمرين: أما الأول فإنه يرجح كفة القراءات التي ترى أنّ جهات معينة داخل البلاد وخارجها هي التي تقف وراء هذه العمليات وأن هذه الأطراف جزء من العملية السياسية نفسها ومن التركيبة الحزبية. أما الأمر الثاني فإنه يربط بين العمليات الإرهابية القديمة والجديدة ليؤكد أن غرفة العمليات واحدة وأن العقل المدبر هو عقل واحد. 

تحت قبة البرلمان وعلى منصات الأذرع الإعلامية تغيرت المعادلة. لم يعد الإسلاميون الذين تحالفوا مع النظام القديم هم المتهمين بالإرهاب وبخطاب الكراهية كما يصفونه بل صارت كتلة "ائتلاف الكرامة" هي الهدف هذه المرة. ائتلاف الكرامة هو حزب تونسي جديد لا يزال في أطواره الأولى وقد تبنى خطابا ثوريا متصالحا مع شعارات الثورة ومع تضحيات الشهداء مركّزا على الملفات الحساسة التي لا يقترب منها الآخرون مثل محاربة الفساد وتأميم الثروات وتسمية الفاسدين بأسمائهم. وهو الأمر الذي جعله يكتسح الانتخابات التشريعية الأخيرة ويفوز بعدد هام من مقاعد البرلمان ويكون مفاجأة الانتخابات بلا منازع. 

 

إن الإرادة الشعبية التي انتصرت على الاستبداد هي نفسها التي انتصرت على الإرهاب وعلى المتاجرين به وهي نفس الإرادة التي ستكشف بقايا حرس الاستبداد وتكنسهم بمكنسة الثورة.


هذا الأمر جعله يقف وحيدا في مواجهة الثورة المضادة وأذرعها من القوميين واليساريين وبقايا النظام القديم وحتى عدد من الإسلاميين الذين يرون فيه خطرا عليهم وعلى خزانهم الانتخابي. تجند الإعلام التونسي العمومي والخاص أو كما يسميه نشطاء مواقع التواصل "إعلام العار" لشيطنة الائتلاف ورموزه وشمّر القوميون عن سواعدهم للقيام بوظيفتهم القديمة في تجميل سكين النظام القديم. كما صمت الإسلاميون عن الجريمة وهم يرون فيها فرصة سانحة للتخلص من عبء التهمة التاريخية.  

اليوم تتغير المعادلة السياسية بأثر الفعل الإرهابي بعد أن كاد ينصهر المكون الإسلامي السياسي في الحياة السياسية ثمن التنازلات المقدّمة للدولة العميقة التي لا تزال تكن له العداء وتتربص به. أما المعارضة التاريخية من قوميين ويساريين فقد ظهر بالدليل أنها لم تكن إلا جزءا من الدولة العميقة التي تستعملها زمن الأزمات لتضرب بها خصومها كما فعلت دائما. 

في هذا الإطار نشطت خلايا النظام القديم داخل البرلمان في ضرب عمل المجلس واللجان وتعطيلها حتى تنجح شيطنة نواب الشعب ويفقد المجلس هيبته وشرعيته. هذا الوضع تستفيد منه رئاسة الجمهورية التي تستعد لبعث حزب جديد تطالب عبره بفرض نظام سياسي جديد أشبه باللجان الشعبية التي صنعها القذافي في ليبيا لتدوير الاستبداد. 

حالة الفرز السياسي في تونس صحيّة وهامة بل إنها مؤشر جاد على ثبات المسار التونسي. لن تتوقف هذه الحركة ولن يكفّ مسارها الانتقالي عن الغربلة والتمحيص وهو ما يجعل من برلمان الشعب مركز القوة في هذا المسار وأكثر المؤسسات الدستورية عرضة للتهديد.

بذلك يمكن القول إن الإرادة الشعبية التي انتصرت على الاستبداد هي نفسها التي انتصرت على الإرهاب وعلى المتاجرين به وهي نفس الإرادة التي ستكشف بقايا حرس الاستبداد وتكنسهم بمكنسة الثورة.