كتاب عربي 21

حتى لا تتحول تونس إلى "مقبرة"

1300x600

في السابع والعشرين من شهر كانون ثاني (يناير) الماضي، توفيت المدونة التونسية لينا بن مهني. كان بالإمكان أن يمر الحدث بالترحم على روحها وعلى أرواح كثير من شهداء "ثورة الياسمين" التي كانت من وجوهها البارزة. لكن التجاذب السياسي والمعارك الأيديولوجية المفتعلة، التي شكلت واحدة من سمات تونس ما بعد هروب زين العابدين بن علي، أبت إلا أن تحول جنازتها لمادة جدلية تصلح حطبا لإيقاد الصراع الهوياتي والنفخ فيه.

 

مراسم الجنازة

تقدمت النساء مراسم الجنازة لرفع النعش وترديد الشعارات المطالبة بالمساواة وإطلاق الزغاريد على أنغام أغنية أنشدتها فنانة بالمناسبة. لم تكن تفاصيل المشهد عادية أو مألوفة بالبلدان العربية التي ألفت سيطرة الوجوم والحزن في حفلات التأبين والجنازات، حيث لا صوت يعلو على أصوات الوعاظ ومرتلي الآيات القرآنية الكريمة.

كتب البعض أن ما حدث بدعة لم يسبق إلى ارتكابها أحد من العالمين مستحضرين قريش مثالا، ومتهمين مقترفيها بالمتاجرة بالموت. أما آخرون فاعتبروها ثورة داخل الثورة مكنت من كشف خطورة المد الإسلامي المعادي للحرية مع استحضار لفظة الإرهاب المهدد للمكتسبات الديمقراطية.

مشهد من الخيال..

(فيلم فتوى ـ 2018) للمخرج محمود بن محمود

داخل مقبرة، تتم مراسم دفن الشاب مروان، عضو جماعة دينية، وابن إبراهيم، المشتغل في قطاع السياحة بفرنسا، ولبنى، عضو البرلمان التونسي التي هجرها قبل ثلاث سنوات. يتدخل زملاء مروان في الجماعة التي كان منتميا لصفوفها.

شاب: يا سيد إبراهيم، اطلب من زوجتك الخروج من المقبرة. حضور النساء في الجنائز مكروه.

لبنى: لن يحرمني أحد من دفن ابني.

إبراهيم: أرجوكم.. قدروا مشاعرنا.

زعيم الجماعة: استح يا امرأة. لا تحرمي ولدك من رحمة الله.

لبنى: لست من يحكم. ولدي مصيره بين يدي الله ولا دخل لك بالموضوع.

زعيم الجماعة: استغفري ربك وعودي لبيتك.

لبنى: أنت من يجب أن يرحل من هنا. لا أحد دعاك للجنازة.

شاب: أبعدوا النساء من هنا. المرأة عورة.

امرأة: عليك أن تفقأ عينيك إذن..

زعيم الجماعة: اتقوا الله.. الاختلاط حرام.. ما هذه الوجوه؟

شاب: استري نفسك على الأقل. هذا عيب.

يبدأ التدافع بين "التيارين" دون احترام لجلل الحدث ورمزية المكان.

إبراهيم: أليس في هذه البلاد أمن؟

شاب: نحن الأمن.. نحن جند الله.. يا كفرة.. كلكم كفرة.

بين الواقع والخيال يتحول مستقبل تونس إلى رهينة في أيدي فريقين يدعيان تمثيل "الثورة" ومبادئها. الثورة التي تحققت بعيدا عن أي تأطير سياسي على جثث شهداء خرجوا لإعلان العصيان على نظام طبّع معه كثيرون واشتغل لحسابه آخرون في السر والعلن. 

 

ثنائية النهضة في مواجهة الحزب الدستوري الحر

اليوم، وبعد أن مرت تحت جسر تونس "الجديدة" مياه كثيرة اختلطت فيها دماء الشهداء بعرق الأحياء الطامحين للبناء والراغبين في منع إسقاط البلاد، يأتي ساسة هواة أو مدعون دجالون لرفع لواء "الثورة" والتهديد بها، أو الحط من قيمتها واعتبارها مجرد "انقلاب" سعيا للنفخ في فتنة نائمة لا تنتظر إلا من يوقظها. 

ففي زمن ماتت في الايديولوجيات لا يجد الهواة من الطرفين في مناخات الحرية المستجدة إلا فضاء لصراع ديكة يواصلون من خلاله "النضال" ليرتاح "الشهيد" في قبره، على وقع الصراع الأيديولوجي أو الموسيقى الحالمة، وهو الذي لا يزال محروما من نشر قوائم تضم اسمه إلى جانب أسماء رفاق ربما لم يعرفهم قط لكنهم كانوا جنبا إلى جنب لإسقاط الاستبداد. ولأجله ولأجل هؤلاء، لا يجد "ممثلي" الشعب غير قراءة الفاتحة تكريما لأرواحهم دونما قدرة أو رغبة في فعل عملي، هم قادرون عليه لكنهم متمنعون، يحفظ كرامة العائلات المكلومة بفقدان أبناء وبنات. بل إن من "سقط المتاع" من يرفض جهارا نهارا مجرد الترحم على أرواح لولاها لما كان لها وجود في ساحة تدبير الشأن العام وإن اكتفت "رموزه" في الحقيقة بعنتريات فارغة لا ترنو إلا للاستفزاز وتحريف النقاش وصرف النظر عن الالتفات إلى المشاكل الحقيقية التي تعانيها تونس استقرارا ونموا اقتصاديا وعدالة اجتماعية بين الطبقات ومختلف الجهات.

 

عبير موسى، النموذج الصارخ للبهرجة السياسية التي صارت العملة السائدة في الفضاء الحزبي التونسي هي من رفضت ومعها أعضاء حزبها قراءة الفاتحة على شهداء الثورة وعلى شهداء غزة


هؤلاء هم من حذرت منهم لينا بن مهني في آخر تدويناتها بالقول: "تستهوينا بعض عروض التهريج في مجلس النواب فنصفّق لأصحابها ونعتبرهم من التقدميين ومن المصلحين وننسى عبثهم وفسادهم وقمعهم وحتى عنفهم... أنا ضدّ العنف وممارسة العنف مهما كان مأتاه ومهما كانت الجهة التي يوجّه ضدّه... وما تمارسه نائبة الدستوري الحر في المجلس عنف كان جوابه العنف ومن يرفض العنف يرفضه على نفسه وعلى غيره... عيب أن نشجّع مثل هذه الممارسات ونستغرب من ردّة فعل عائلات شهداء وجرحى لم تنشر قائماتهم الرسمية إلى اليوم. عيب أن تصول وتجول السيدة النائبة في البرلمان بفضل دمائهم وتنكر حدوث الثورة... من يحاول تقديم حركة النهضة كحزب ثوريّ، متناسيا ما عشناه ونعيشه منذ زمن الترويكا من عنف ومن دماء واغتيالات... النهضة ونوابها المتباكون على دماء الشهداء وجرحاها في الفترة الأخيرة هم من أكثر من تلاعب بهذا الملف ولن أعود إلى تفاصيل اعتصام الجرحى في وزارة حقوق الانسان يوم كان ديلو وزيرا... فلا الدستوري الحرّ حزب تقدّمي ولا النهضة حزب ثوريّ. فلا تنخدعوا بالتهريج وبالمسرحيات. من شبّ على شيء شاب عليه".

ثنائية النهضة في مواجهة الحزب الدستوري الحر فرضتها الأحداث التي طبعت الساحة السياسية التونسية في الشهور الأخيرة، حيث ظلت بقية الأحزاب مجرد تكملة عدد أو تكاد. عبير موسى، النموذج الصارخ للبهرجة السياسية التي صارت العملة السائدة في الفضاء الحزبي التونسي هي من رفضت ومعها أعضاء حزبها قراءة الفاتحة على شهداء الثورة وعلى شهداء غزة وكادت تمتنع عن قراءتها على روح لينا بن مهني لولا الألطاف الإلهية وإن فعلت ذلك باستحياء وبعيدا عن الكاميرات. عبير موسى، التي يحسب لها الجهر باعتقاداتها السياسية في وقت توارى فيه كثيرون وتلونوا حسب اتجاه ريح السياسة التونسية وموازين القوى بها، مثال صارح لمحاولات جر البلاد إلى نقاشات جانبية لا تسمن ولا تغني من جوع. وهي وإن كانت بعيدة عن نقاش ايديولوجي أو هوياتي حقيقي فهي للأسف من تتحمل وزر الدفع به حيث يشاء المحركون المحليون والاقليميون. وما الهجوم على حركة النهضة إلا غطاء لاستهداف أعمق لثوابت الهوية التونسية ولتجربتها "الديمقراطية" الفتية التي تثير الحنق عند الجيران كما متعهدي الثورات المضادة بالوطن العربي هناك بعيدا حيث يراقبون الوضع ويدعمون بالمال دون حساب.

في (فيلم فتوى) للمخرج محمود بن محمود، يقوم إبراهيم بزيارة للحي الذي كان ابنه مروان يقطن به بعد مغادرته لبيت والدته.

إبراهيم: منذ متى وأنت مالك هذه المقهى؟

صاحب المقهى: منذ أربع سنوات.

إبراهيم: لقد كانت حانة في الماضي.

صاحب المقهى: أتذكر صالة السينما وقاعة الحفلات ومحل بيع الأسطوانات الغنائية؟

إبراهيم: لي ذكريات كثيرة في هذه الأماكن.

صاحب المقهى: لقد أغلقت جميعها. تحول بعضها لكتاب قرآني وجمعية خيرية (ينظر إلى الشارع حيث الحضور السلفي واضح ومهيمن) لقد احتلونا وتحول الحي إلى مقبرة.

إبراهيم: ولِمَ ظللتم صامتين؟

صاحب المقهى: أتسخر مني؟ هناك من هلل للوضع الجديد. يقولون إنهم أنقذونا من المجرمين والسكارى.

وفي (فيلم شبابيك الجنة ـ 2016) للمخرج فارس نعناع، تتجول سارة رفقة صديقة لها بمركز تجاري. يُسمع صوت الأذان فتبدو الدهشة على محيا سارة.

سارة: منذ متى يضعون الأذان هنا؟

الصديقة: لم يعد هناك من شيء مفهوم في هذه البلاد.

البلاد هي تونس. وزوج سارة، المقاول (سامي)، مشرف على ورش بناء مسجد كبير يقضي داخله ساعات النهار وينهي يومه ليلا يعاقر الخمر ويضاجع المومسات ليلا.

هذه هي البلاد التي يريدها البعض مثالا للحداثة دون "تفريط" مظهري في التقاليد والعادات والمرجعيات مقابل دولة خلافة تلغي الحاضر وتستبدله بماض تراه "مجيدا". ولأن المد "الإسلامي" ظاهر بالجلابيب والنقاب واللحى المتدلية دليلا مظهريا على الالتزام، فلا سبيل لمواجهته، لما قد يكون له من حاضنة شعبية، غير جر المتحمسين إلى العنف سبيلا أوحدا يمكن من استدرار التدخل الأجنبي أو "إرهاب" المواطن المحلي، أو الدفع بالقوانين منعا لدخول المنقبات إلى المدارس القرآنية وقبله دخول المؤسسات العامة بالبلاد، أو الدفع بسلسلة هجمات على المساجد إحراقا وتدنيسا للمصحف، أو تحويل الآذان إلى مجرد لازمة موسيقية في حفل فني، أو تحويل بعض الأدعية الصوفية إلى مجرد أغاني يتراقص عليها رواد الملاهي الليلية أو التشكيك في وجود النبي محمد (ص) وتخصيص المؤلفات له وللخلفاء تحقيرا وغير ذلك كثير. والهدف تحويل مصالح الدولة إلى مجرد عمال إطفاء للحرائق الأيديولوجية التي يشعلها من يضمرون للبلاد شرا لا تخفى دوافعه ولا أهدافه إلا عن الغافلين. 

عودة إلى (فيلم فتوى ـ 2018) للمخرج محمود بن محمود

العائلة مجتمعة ببيت النائبة البرلمانية في انتظار تسلم جثة الإبن مروان.

قريب: ماذا قررتم بخصوص الدفن؟ هناك شركات تتكفل بكل الإجراءات من غسل وقراء وحفر القبر...

لبنى: أنبهكم من الآن أن أحدا من القراء لن يدخل بيتي.

إبراهيم: ماذا؟

لبنى: أنتم تعلمون أنني لا أقبل مثل هذه الأشياء.

إبراهيم: أأنت جادة؟

لبنى: أصواتهم تضاعف الهموم. استخدموا تسجيلا صوتيا. هذا يكفي.

إبراهيم (غاضبا): ألا تقترحين أن نحرق جثة ابنك بالمناسبة كما يفعلون بأوروبا؟

لبنى: لا داعي للسخرية لطفا.

....

قريبة: يا ابنتي.. جنازة بلا قراء ستكون فضيحة.

لبنى: وأنا لا أقبل أن تفرضوا علي دفن ابني وفق طقوس قرسطوية.

إبراهيم: لقد فقدت عقلها.

هكذا يستمر الجدل داخل العائلات الصغيرة تأثرا بالجو العام الذي تسيطر عليه التجاذبات وفق منطق الغلبة لا المشاركة في بناء المجتمع والدولة المنشودين. وفي ظل هذا الواقع تبقى مشاريع التنمية مؤجلة ورهن صراعات وحسابات سياسوية بعضها داخلي وغالبها خارجي ينفذ بأيدي محلية قابلة للإيجار.