قبل نحو عشرة أعوام نشرت صحيفة "ذا تايمز" البريطانية تقريرا أعده عدد من علماء النفس والاجتماع والاقتصاد، كانت خلاصته أن الإنسان بحاجة إلى خمسة ملايين جنيه إسترليني ليضمن لنفسه السعادة، وهكذا جاء التقرير بردا وسلاما على المليارات من بني البشر، الذين يؤمنون بأن "الموت مع الجماعة، عرس"، بمنطق أن التساوي في البؤس يخفف من وطأته.
تفريق الدم الفلسطيني
وكان ذلك التقرير ـ بافتراض صدقيته ـ لطمة لمن يعزون أنفسهم بمقولة أن السعادة لا تُشترى بالمال، وهم نفس الذهنية التي صكت عبارة "ليس كل ما يلمع ذهب"، والتي يفوت عليها أن السعادة لا تشترى أيضا بشح المال، وأنه "ليس كل ما لا يلمع ذهب".
وعلى كل حال فالسعادة وقضية الشرق الأوسط والحب، أمور يكثر حولها التنظير، ويصعب التوافق حول تعريف واحد لها، بل أحسب أن الحديث عن قضية الشرق الأوسط أُريد به تمييع المسألة الفلسطينية، بتفريق دمها بين الشعوب، وبالتلميح "الصريح" بأنها متعددة الأضلاع، مما يبرر خفض نسبة الاهتمام بها، مع أن لكل دولة في الشرق الأوسط قضاياها الخاصة بها، والتي ليس من بينها أنها محتلة كليا أو جزئيا من قِبل طرف آخر.
طالما الفساد وغياب الحريات وبؤس حال التعليم مؤشرات مهمة في تحديد مدى سعادة الشعوب، فلا عجب في أن معظم الدول العربية تصدرت قوائم البلدان الأكثر تعاسة
دول الخليج في الصدارة عربيا
ولم يكن مستغربا أن تتصدر الدول العربية الخليجية الغنية قائمة السعادة فيما يسمى بالمنطقة العربية، بل وأن تحظى بمراتب متقدمة في السُّلّم العالمي للسعداء، بينما جاء السودان ومصر واليمن وسوريا في ذيل القائمة، وإن كان من حق شعوبها أن تتباهى بأنهم أفضل حالا من بوروندي.
وطالما الفساد وغياب الحريات وبؤس حال التعليم مؤشرات مهمة في تحديد مدى سعادة الشعوب، فلا عجب في أن معظم الدول العربية تصدرت قوائم البلدان الأكثر تعاسة، فعلى سبيل المثال فان السودان وليبيا والعراق وسوريا واليمن والصومال هي الدول الأكثر معاناة من الفساد المالي والسياسي والظلم الاجتماعي في العالم، بينما تعاني معظم شعوب الدول العربية من القهر والقمع والبطش في ظلال أنظمة حكم طاغوتية، كما أن الدول العربية عموما بها بعض أسوأ مُخرجات التعليم العام والعالي.
السلطة في الدول العربية ليست فقط حكرا لأحزاب أو بيوتات أو عصبيات، بل لذكور ديناصورات تقاوم الفناء، وقادت الشعوب إلى قيعان التعاسة.
السعادة مرهونة بأنظمة الحكم
يقول تقرير السعادة لعام 2019 إن من أسباب سعادة الفنلنديين وفرة المياه في بلدهم، بينما السودان الذي يقبع في ذيل قائمة السعداء ظل يتنازل سنويا عن نحو عشرة مليارات متر مكعب من المياه لمصر، فبالسودان ـ أو ما تبقى منه بعد انفصال جنوبه ـ أنهار جارية طول السنة هي النيلان الأبيض والأزرق اللذان يلتحمان عند الخرطوم ليشكلا نهر النيل، ونهر عطبرة، إلى جانب أنهار موسمية مثل الدندر والرهد والقاش، ونصيب السودان من الأمطار الموسمية يروح معظمه هباء تذروه حرارة الشمس وظمأ الرمال، أما عن الرعاية الاجتماعية والصحة في السودان فحدِّث بكل حرج (شكا آخر وزير للصحة في حكومة عمر البشير من أن مرضى السرطان عديمو الذوق، لأن الدولة تصرف عليهم الملايين وبعد هذا كله "يموتون").
وفي تقديري فإن أمر سعادة الشعوب وتعاستها رهن في معظمه بأنظمة الحكم، لأن نظام الحكم هو الذي يحدد كيفية توزيع الثروة وتحسين الخدمات العامة وتوفير الحريات، وفنلندا التي تنقسم الفصول فيها إلى شتاء في ظل ظلام دامس لستة أشهر، ثم شتاء في ظل شمس باهتة الضياء لستة أشهر، لا تملك نفطا أو غازا أو مناجم ذهب أو مزارع قمح وقطن، ولكن بها حكومات غايتها خدمة المواطن وتوفير وسائل الرفاه المادي والمعنوي له.
في العاشر من كانون أول (ديسمبر) الماضي صارت سانا مارين (35 سنة) رئيسة للحكومة الفنلندية؛ ولم تقفز إلى المنصب بالزانة، بل عملت في مجالس محلية صغيرة ثم كبيرة ثم صارت عضوا في البرلمان ثم وزيرا، بينما أكثر من 95% من الوزراء في الحكومات العربية فوق الستين، بينما نسبة الشباب في سكان كل دولة عربية فوق ال60%، فالسلطة في الدول العربية ليست فقط حكرا لأحزاب أو بيوتات أو عصبيات، بل لذكور ديناصورات تقاوم الفناء، وقادت الشعوب إلى قيعان التعاسة.
مؤتمر برلين.. أولى المعارك السياسية بعد الحرب
نَظْرَة إلى.. حَصَادِ تَطَرُّفٍ في المَجَالِ الثَّقافي