كل الحروب كارثية النتائج حتى على الطرف
المنتصر، ولكن حرب
السودان الحالية من أكبر الحروب كارثية على مدار التاريخ القديم
والمدون، فبشهادة منظمات الأمم المتحدة لم يعرف التاريخ نزوحا داخليا وخارجيا
كالذي حدث في السودان خلال أشهر الحرب الـ 17، فقد نزح داخليا أكثر من عشرة ملايين
شخص، نحو 52% منهم من الأطفال، ونزح إلى مصر 500,000 الف وإلى تشاد 630,000 وإلى
جنوب السودان 183,000 وإلى افريقيا الوسطى 29,000 وإلى ليبيا 175,00 ولحق بالعاصمة
السودانية الخرطوم وأختيها الخرطوم بحري وأم درمان ما لحق بدرسدن الألمانية في
الحرب العالمية الثانية من الدمار الشامل للمساكن والمباني الحكومية ومرافق
الخدمات.
والسريالية مدرسة في الفن تُعنى بما فوق
الواقع، وتأتي بما يجافي الواقع، وعنصر السريالية في حرب السودان هي أن طرفيها:
الجيش وقوات الدعم السريع، كانا أشقاء في خندق واحد وكانت نيرانهما موجهة نحو
القوى المدنية التي كانت تصبو للحكم بعد إزاحة الرئيس السابق عمر البشير من كرسيه
في نيسان / أبريل 2019، وأن كلا الطرفين يسعى للانفراد بالحكم ويقومان في سبيل ذلك
بدك كل ما هو قابل للدك في البلاد حتى أعادوها الى العصر الحجري الوسيط، ولكن تكمن
السريالية في أعظم تجلياتها في أن قوات الدعم السريع، وهي منطقيا الطرف الأضعف
عسكريا، لكونها أُنشئت كذراع للجيش الوطني قبل سنوات قليلة، بعتاد يقتصر على
الأسلحة اليدوية، ولا تملك سلاحا للطيران أو الدبابات أو المدفعية الثقيلة، تسيطر
اليوم على ثلثي مساحة البلاد بما في ذلك عاصمتها.
وتتجلى السريالية أيضا في أنه ما من مدينة
أو بلدة يجلو عنها الجيش أمام زحف الدعم السريع إلا وصب سلاح طيران الجيش عليها
نيران غضبه، وكأنه يعاقب أهلها على سقوطها في يد العدو، وفي أن أسلحة الجيش الأخرى
من مشاة ومدرعات ومدفعية شبه غائبة عن المشهد الحربي، وفي أن القذائف المستخدمة في
عمليات القصف الجوي هي براميل الغازولين الملتهبة، والتي يتم إسقاطها بالدحرجة من
مؤخرات طائرات انتونوف الروسية المخصصة أصلا لنقل الجند والعتاد مما قد يعني خروج
الطائرات قاذفات القنابل والصواريخ من طراز ميج وسوخوي صارت خارج الخدمة أو لم يعد
لها وجود بعد ان اسقطت قوات الدعم السريع عددا منها في شهور الحرب الأولى، ونجاح
الدعم السريع في التصدي للطيران الحربي دليل قاطع وحاسم على أنها كانت تعد العدة
لمنازلة الجيش، لأن القانون الذي أُنشئت بموجبه لا يعطيها حق حيازة الأنظمة
المضادة للطائرات.
أم الكوارث في المشهد السوداني الراهن هو أن
اليد العليا في الحرب صارت لقوات الدعم السريع، وانكشاف بؤس تسليح الجيش الوطني..
وإذا انهار هذا الجيش وهو أقوى مؤسسات الدولة أي دولة فإن ذلك يعني انهيار الدولة
تماما وتفككها والسودان أصلا دولة تتشرنق، أي لم تكمل تطورها كدولة بالمعايير
المتعارف عليها، وبه اليوم تسعة جيوش غير نظامية ولكل منها أجندة إقليمية تتضمن
خيار الانفصال، ولقادتها طموحات شخصية في الاستيلاء على "المركز"، ثم
نزلت ساحة الحرب كتائب من حزب المؤتمر الوطني الذي ازيح من الحكم في عام 2019
بمسميات مثل البراء بن مالك والمنتصر بالله والفرقان والعمليات الخاصة.
أم الكوارث في المشهد السوداني الراهن هو أن اليد العليا في الحرب صارت لقوات الدعم السريع، وانكشاف بؤس تسليح الجيش الوطني.. وإذا انهار هذا الجيش وهو أقوى مؤسسات الدولة أي دولة فإن ذلك يعني انهيار الدولة تماما وتفككها والسودان أصلا دولة تتشرنق، أي لم تكمل تطورها كدولة بالمعايير المتعارف عليها
واضطراب حال الجيش السوداني لا يتجلى فقط في
خسائره على الأرض، بل أيضا في أنه يتكلم بأكثر من لسان، فلم يعد للناطق الرسمي
باسم الجيش حضور على أي منبر منذ شهور، فانبرى مساعد القائد العام ياسر العطا لتلك
المهمة ولكن دون أن يتملك الأدوات والمهارات اللازمة لذلك، فقد فتح صنابير السباب
على دولة الإمارات وكينيا وتشاد وأثيوبيا، وعلى القوى السياسية والمدنية المحلية،
ثم أطلق النار على قدميه وأقدام زملائه في قيادة الجيش عندما قال مؤخرا إن عبد
الفتاح البرهان القائد العام للجيش سيكون رئيس الدولة خلال فترة انتقالية، ثم رئيسا
لأربع دورات بعد قيام حكومات منتخبة، أي أنه يؤكد ما ظل كثيرون يقولونه من أنها
حرب من أجل السلطة والثروة (للجيش السوداني نشاط اقتصادي ضخم لا يخضع لرقابة
حكومية، بينما تحوز قوات الدعم السريع شركات عملاقة تعمل في شتى المجالات ولقادتها
محمد حمدان دقلو وإخوته أرصدة مليارية في بنوك خارجية جنوها من نشاط تجاري هو أيضا
فوق الرقابة، واتهمتها جهات دولية مؤخرا بسرقة وبيع محتويات المتاحف السودانية).
ومن جهة أخرى لم يعد البرهان مشغولا إلا
بكونه رأس الدولة، وينشط من ثم في القيام بزيارات خارجية، وعندما خاطبه وزير
الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بوصفه قائد الجيش ويدعوه لحضور مفاوضات مع الدعم
السريع في جنيف قبل شهر ونيف، طالب البرهان بأن تتم مخاطبته كرئيس لمجلس السيادة،
فاستجاب بليكن للطلب فإذا بالبرهان يقول "لن أفاوض حول أي أمر حتى لو استمرت
الحرب مائة سنة".
مواصلة للنهج السريالي المجافي للواقع شهدت
مدينة بورتسودان التي جعل منها البرهان عاصمة لحكومته الافتراضية، مؤخرا، اجتماعا
حضره مسؤولون رفيعو المناصب لمناقشة خطط إعمار العاصمة الخرطوم، والتي ليس لتلك
الحكومة فيها موطئ قدم، والتي تعرضت فيها كل المباني والمرافق والطرق للدمار
الشامل، وفي هذا يقول المثل السوداني "الكحة ولا صمّة الخشم"، والخشم في
العامية السودانية هو الفم، ومعنى المثل هذا هو أن السعال/ الكحة خير من الصمت،
وهذا كاستحسان الجعجعة التي لا تؤتي طحنا.