بعد ان أنهى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو زيارته الخاطفة وغير المتوقعة لقاعدة عين أسد غرب الأنبار، أغارت طائرات أف 15 الأمريكية بحسب صحيفة النيويورك تايمز على خمسة مواقع تابعة لحزب الله العراقي بقيادة أبو مهدي المهندس ليسقط 27 من العناصر المسلحة التابعة للحشد الشعبي في غارات شملت 3 قواعد عسكرية في العراق واثنتين في سوريا.
حقيقة القرار الأمريكي بالهجوم على حزب الله العراق
الغارات الأمريكية جاءت بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة (K 1) الأمريكية شمال كركوك وأسفر عن مقتل متعاقد أمريكي وإصابة أربعة آخرين من القوات الأمريكية إلى جانب إثنين من الجنود العراقيين، علما أن القاعدة المشار إليها واحدة من 12 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة على الأراضي العراقية تمثل قاعدة عين الأسد غرب الأنبار أكبرها.
وفي ضوء هذه الحقيقة فإن تساؤلات مهمة تطرح حول حقيقة الحوارات والنقاشات التي أجراها بومبيو في قاعدة عين أسد مع القادة العسكريين الأمريكيين والتي سبقت الهجوم الأمريكي الجوي على قواعد حزب الله العراقي؛ فالقرار لم يتخذ في واشنطن بل كان ثمرة نقاشات مباشرة على الأرض استدعتها الحقائق الميدانية الضاغطة على القادة العسكريين الأمريكيين في العراق بعد تكرار الهجمات على تجمعاتهم وقواعدهم العسكرية؛ فقواعد الاشتباك الأمريكية في العراق غامضة كالوجود الأمريكي في حد ذاته وتخضع للعديد من الاعتبارات والحساسيات الميدانية، فضلا عن الحساسيات الداخلية في الساحة الأمريكة التي تعاني من فوضى سياسية وتجاذبات قوية بين مؤسساته السيادسة حول الوجود الأمريكي في سوريا والعراق وافغانستان والتي أفضت إلى استقالة وزير الدفاع الأسبق جيمس ماتيس من منصبه بعد إعلان ترامب نيته الانسحاب من سوريا وخفض تعداد قواته في العراق.
القواعد الأمريكية في العراق
تباينت التقديرات حول تعداد ومهام القوات الأمريكية؛ تأثر بالعديد من المتغيرات أبرزها الحملة على تنظيم الدولة "داعش"؛ فقدرت بعض المصادر عدد القوات الأمريكية بين 9 آلاف إلى 15 ألف في ذروة المواجهة مع "داعش"، في حين قدرتها مصادر أخرى بين 5 إلى 6 آلاف؛ وذهبت تقديرات إلى أنها قوات تقدم التدريب والمراقبة والاستخبارات وحماية المتعاقدين المدنين ولا تتجاوز الـ 3000 جندي أمريكي.
التقديرات المرتفعة غالبا ما تبناها نواب في البرلمان العراقي في إطار مساعيهم للتصويت على إنهاء الوجود الأمريكي في العراق، إلا أن أاكثر التقديرات دقة تذهب إلى وجود ما يقارب الـ 5200 جندي أمريكي؛ فالمتحدث باسم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الكولونيل شون رايان في مؤتمر صحفي بأبو ظبي يوم الأحد (19 آب/أغسطس 2018) قال: "إن نحو 5200 جندي أمريكي يتمركزون حالياً في العراق"؛ بهدف حفظ الاستقرار وحفظ الأمن، علما أن هناك تقديرات رجحت أن تعداد هذه القوات انخفض إلى ما يقارب الـ 3000 جندي، مقابل متعاقدين جرى سحب بعضهم من قاعدة (بلد الجوية) بعد تصاعد التوتر في الخليج العربي وإسقاط طائرة تجسس أمريكية من قبل الدفاعات الإيرانية قبالة مضيق هرمز.
أمريكا تخوض معركة مع أشباح وظلال النفوذ الإيراني لا مع إيران وقاعدتها الصلبة التي لا تملك حضورا عسكريا صلبا ومكشوفا ورسميا كالولايات المتحدة الأمريكية؛
القواعد الأمريكية لا تخضع لرقابة من الحكومة العراقية فضلا عن أن بعضها يقع في مناطق حدودية وفي إقليم كردستان العراق لتتداخل مهامها بين سوريا والعراق
انتهى العام 2019 بإطلاق جولة جديدة من الصراع في العراق باتت الولايات المتحدة طرفا مباشرا فيه إذ حولت الغارات الأمريكية الأنظار من الاحتجاجات والمواجهات التي قادت إلى استهداف القنصلية الإيرانية في النجف من قبل المحتجين على الظروف المعيشية نحو مهاجمة النفوذ الأمريكي ورموزه في العراق؛ بل وأحرجت الولايت المتحدة أمام خصومها وعلى رأسهم الصين المستاءة من التدخل الأمريكي في ملف الإيغور وهونغ كونغ علما بأنها تخضع للسيادة الصينية وليس كحال العراق التي تربطها بواشنطن اتفاقات أمنية.
الغارات الأمريكية نقطة تحول وفرصة مكنت الحشد الشعبي والقوى السياسية وإيران التي واجهت غضب المحتجين من إعادة توجيه البوصلة نحو النفوذ الأمريكي تحول عكسه المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيستاني بإدانته للغارات الأمريكية على قوات الحشد الشعبي.
ميزان القوى في العراق
الغارات الأمريكية إعادة هندسة الاصطفافات السياسية التي تشكلت على وقع الاحتجاجات الشعبية على الفساد والأوضاع الاقتصادية المتردية التي دفعت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ومن ورائه رئيس الجمهورية برهم صالح إلى الاستقالة؛ هندسة إعادة رسم خطوط التماس بين النفوذ الأمريكي والإيراني وإنهاء الهدنة بين الحشد الشعبي ومن وررائه النفوذ الإيراني مقابل النفوذ الأمريكي لترسم معالم مشهد جديد في العام 2020.
ما يميز هذه المواجهة أن أمريكا لا تملك غطاء شرعيا سوى اتفاقية التعاون العسكري مع الحكومة العراقية وتخوض المواجهة مع مليشيا تملك حضورا في البرلمان على رأسها كتلة الفتح، في حين أن تحالفاتها مع الأكراد تعرضت لأضرار كبيرة في أعقاب فشل الاستفتاء الذي قاده مسعود برزاني في مقابل موقف سلبي وعدائي يكنه السنة العراقيون العرب للنفوذ الأمريكي
.
تعقيدات المشهد الداخلي في العراق تدفع إلى الاعتقاد بأن المصلحة الأمريكية لا تقتضي توسيع المواجهة مع الحشد الشعبي وقصرها على عمليات الرد على الاستهداف المباشر لقواتها ما يجعل من الهجوم رسالة تحذيرية بحسب كثير من المراقبين والمحللين السياسيين والعسكريين؛ أمر أكده ترامب في اتصال هاتفي مع رئيس الحكومة العراقية المستقيل عادل عبد المهدي تبع الهجوم على السفارة الأمريكية؛ علما بأن الرئيس الأمريكي وطاقم إدارته اعتادوا تجاهل رئيس الوزراء العراقي أثناء زياراتهم المتكررة لقاعدة عين أسد في محافظة الأنبار العراقية فتجنبوا لقاءه؛ معادلة بدأت بالتغير؛ فالرئيس الأمريكي عاد وأكد في تصريح منفصل أنه لا ينوي التصعيد في العراق مع تأكيد إسبر وزير الدفاع عن استعداد بلاده الرد على أي هجوم على قوات بلاده في العراق؛ معادلة جديدة ليس من المرجح أن تصمد طويلا خصوصا وأن أمريكا مقبلة على انتخابات رئاسية ما يفتح الباب لمزيد من المواجهات والاحتكاكات في الساحة العراقية.
ختاما: أمريكا تخوض معركة مع أشباح وظلال النفوذ الإيراني لا مع إيران وقاعدتها الصلبة التي لا تملك حضورا عسكريا صلبا ومكشوفا ورسميا كالولايات المتحدة الأمريكية؛ التي باتت قواتها ومصالحها بمثابة رهينة محاصرة داخل العراق من قبل المشرعين في البرلمان العراقي ومن قبل المحتجين في الشارع ومن قبل مليشيا الحشد الشعبي؛ فما ناقشه بومبيو في عين الأسد مع القادة العسكريين كان على الأرجح خليط مبهم من المتغيرات التي وقف على رأسها ضرورة توفير الردع الكافي لحماية الوجود الأمريكي في العراق؛ ردع أثبتت الحشود المحتجة أمام السفارة الأمريكية في بغداد ضعفه ومحدودية تأثيره.
الصعود الصيني.. هل تهيّأ العرب لما بعد كورونا؟
هل زعزع كورونا النفوذ العسكري الأمريكي؟