ليس فيروس كورونا المستجد أول جائحة تجتاح العالم، ولن يكون الأخيرة، كما أنه سيرحل مثلما رحلت من قبله أوبئة تفشت بالعالم في حقب مختلفة، طيلة التاريخ، إلا أن رحيل هذا الوباء لن يكون سهلا، فحتى الآن رغم أن شهرا لم يمض بعد على توصيفه جائحة، لكنه بات يطال كافة مناحي الحياة البشرية، ويغير أنماطها رويدا رويدا، فضلا عن أن كورونا في طريقه لإحداث تحولات جيواستراتيجية وجيوسياسية في العالم من بوابة استهداف اقتصاد الدول، حيث لم يعد اقتصاد أي دولة بمأمن منه، بدءا من الاقتصادات الكبرى في الغرب والشرق، ووصولا إلى الاقتصادات المتوسطة والضعيفة.
العالم كأحجار الدومينو
ما يجري اليوم في العالم يشبه أحجار الدومينو تتساقط واحدة تلو الأخرى، يذكرنا بدومينو مشابه انتهى سقوط قطعه إلى إشعال الحرب العالمية الثانية، كانت قطعته الأولى قد سقطت يوم 24 تشرين أول (أكتوبر) 1929، لحظة بدء انهيار بورصة وول ستريت في هذا اليوم، الذي عرف بالخميس الأسود، إلى أن سقطت الأسواق المالية الأمريكية بعدها بأيام، وتجاوزت الأزمة الحدود الأمريكية إلى العالم، لاسيما أوروبا، ليشهد القرن العشرين أسوأ أزمة اقتصادية يمر بها، أدت إلى صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، بعد وعود أطلقها أدولف هيتلر وبينيتو أندريا موسوليني لحل الأزمة الاقتصادية.
واليوم أيضا التاريخ يتكرر، فالنظام العالمي الذي تشكل على أنقاض الحرب العالمية الثانية، يتعرض لأكبر تهديد منذ هذه الحرب، بفعل التفاعلات والتطورات التي أحدثها وسيحدثها فيروس كورونا على الأصعدة كافة في العالم، يُرجّح أن يطاول الأمن والسياسة الدوليتين، حال طال أمد تفشي كورونا أكثر مما عليه اليوم.
ومن هذا المنطلق، رغم أنه من المبكر إصدار أحكام مسبقة بشأن ما ستؤول إليه الأمور في العالم، لكن يمكن قراءة استشرافية لمستقبل أهم ملفات دولية، منها الصراع الإيراني ـ الأمريكي الذي يتخذ هذه الأيام "نكهة كرونائية"، حيث أن كورونا الذي طاول الدولتين، ويمثل عدوا مشتركا لهما لم يساهم في تخفيف التوتر بينهما فحسب، بل أضيف إلى عوامل تصعيد هذا التوتر منذ اللحظة الأولى للإعلان عن انتقال العدوى إلى إيران، بعد اتهامات أمريكية لطهران بالتستر على وصول كورونا بعض الوقت، وتستمر هذه الاتهامات حتى اللحظة، ولو أنها اتخذت أشكالا أخرى.
وبالمقابل إيران ردت عليها بطرح احتمالية وقوف الولايات المتحدة وراء صناعة ونشر الفيروس في العالم، وأكثر من ذلك، اتهم قائد الثورة الإسلامية علي خامنئي، واشنطن، الأسبوع الماضي، بأنها قد تكون نشرت فيروسا خاصا في إيران بناء على الجينات الإيرانية.
فضلا عن ذلك، وبما أن العقوبات الأمريكية عقّدت ظروف مكافحة كورونا في إيران وقلصت قدراتها إلى حد كبير في مواجهتها، اغتنمت طهران الفرصة لتدشين حملة دبلوماسية واسعة في العالم للضغط على الإدارة الأمريكية لرفع العقوبات أو تعليقها في هذه الظروف.
ما يجري اليوم في العالم يشبه أحجار الدومينو تتساقط واحدة تلو الأخرى، يذكرنا بدومينو مشابه انتهى سقوط قطعه إلى إشعال الحرب العالمية الثانية،
إلا أن هذه الحملة رغم اكتسابها تعاطفا عالميا ومناشدات متزايدة من الدول لإلغاء العقوبات، لم تثمر في إجبار واشنطن على ذلك حتى الآن، ولن يحدث ذلك لاحقا، إذ أنها تنظر إلى كورونا كفرصة لتضييق الخناق على إيران، تسرّع من وجهة نظرها، جني ثمار سياساتها المتبعة بعد الانسحاب من الاتفاق النووي بالثامن من أيار/مايو 2018، لكون مفاعيل الفيروس في الاقتصاد الإيراني، جاءت مكملة لمفاعيل العقوبات، وباتت تغلق أمام طهران منافذ اقتصادية ظلت مفتوحة طيلة العامين الأخيرين.
كما أن التصريحات الأمريكية، وآخرها كان موقف المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، مورغان أورتاغوس، تؤكد أن أمريكا ليس بواردها التخلي عن استراتيجية "الضغوط القصوى"، لترفع رفع العقوبات أو تعلّقها أو تخففها. وهذا ما أكدته أيضا على أرض الواقع، من خلال فرض دفعتين جديدتين من العقوبات، خلال الأسبوع الماضي، الأولى ضد خمس شركات إماراتية بتهمة نقل النفط الإيراني والثانية ضد عشرين فردا وكيانا في إيران والعراق، بتهمة الارتباط بالحرس الثوري و وتجاوز العقوبات الأمريكية.
وسط السجال بشأن العقوبات وتشديدها، أعلن الطرفان استعدادهما تقديم مساعدات طبية للآخر في إطار المناكفات والمزايدات والتجاذبات، فبعدما أعلنت الإدارة الأمريكية استعدادها تقديم مساعدات طبية لإيران لمكافحة كورونا، مع بداية تفشي كورونا فيها، قالبتها طهران بالرفض، واصفة العرض بأنه "منافق"، أكد القائد العام للحرس الثوري الإيراني، الجنرال حسين سلامي، الخميس، استعداد إيران تقديم المساعدة لواشنطن.
هنا وعلى ضوء هذه المعطيات، لعل القارئ يسأل عن تعارض بينها وبين مدلولات تصريحات محافظ البنك المركزي الإيراني، عبد الناصر همتي، يوم الثلاثاء الماضي، بشأن احتمال تحرير جزء من الأرصدة الإيرانية المجمدة، وهي أموال جُمّدت بفعل العقوبات الأمريكية، ولن يفرج عنها إلا بموافقة أمريكية، ما طرح تساؤلات عن إمكانية وجود توافق سري بين الطرفين، بعيدا عن السجال الإعلامي المعلن.
إن لم تتدارك الإدارة الأمريكية سريعا آثار كورونا، واستمر الفيروس في غزوه وتوسعه في الداخل الأمريكي، فعلى الأغلب ستكون إحدى نتائجه، إضعاف استراتيجية الضغط الأقصى ضد طهران وفي الوقت نفسه، العقوبات المفروضة عليها على المدى المتوسط.
في الإجابة على هذه التساؤلات، يمكن القول إن واشنطن قد تعطي الضوء الأخضر أو توافق على تحرير جزء من الأموال الإيرانية المجمدة، من دون وجود أي اتفاق، وذلك على خلفية الضغوط التي تواجهها بسبب استمرار العقوبات في ظل تفشي واسع لكورونا في إيران، وسط دعوات أممية متزايدة بتعليق هذه العقوبات، خرجت بعضها من أروقة الكونغرس الأمريكي. لكن يستبعد في الوقت ذاته، أن توافق واشنطن على منح هذه الأموال نقدا لطهران، وعلى الأغلب أن ذلك إن تم سيكون عبر القناة المالية السويسرية، أي تُسلّم الأموال لهذه القناة ومن خلالها تقوم طهران باستيراد ما تحتاجها من أدوية ومواد غذاية وسلع أساسية أخرى، تسمح بها واشنطن، أي أن الأموال على الأغلب ستدفع من خلال القناة إلى الشركات التي تشتري منها إيران هذه السلع.
مآلات الصراع الإيراني-الأمريكي
أما اليوم السؤال الأكثر إلحاحا فهو عن مآلات الصراع الأمريكي ـ الإيراني على خلفية مفاعيل هذا العدو المشترك في البلدين. من الصعب، الآن، تقديم إجابة شافية على هذا السؤال من دون اكتمال المعطيات، حيث أن ما ظهر منها لم يرتق بعد إلى مستوى يمكن من خلاله استشراف مستقبل هذا الصراع، لأن كورونا لايزال في بداياته، لكن بالنظر إلى تبعاته الثقيلة الظاهرة إلى الآن، على جميع المستويات، وخصوصا الصعيد الاقتصادي، ففي حال استمرار الفيروس على الأقل شهرين لثلاثة أشهر أخرى، يتوقع أن تترك آثارا ملفتة ومفاعيل قوية على هذا الصراع، إذ أنه على الأغلب سيضع البلدين أمام حالة اقتصادية صعبة للغاية، لم تمر عليهما من قبل، ستكون لها ارتدادات صعبة على مختلف الأصعدة، داخليا وخارجيا، لكن هذه التداعيات بالنسبة للولايات المتحدة ستكون على مقياس عالمي، أي من شأنها أن تجبرها على إعادة النظر في أولوياتها، بما يقلص قدراتها في ساحات الاشتباك، سواء مع إيران أو روسيا أو الصين.
وداخليا من شأن تردي الأوضاع الاقتصادية، أن يطيح بفرص فوز دونالب ترامب لولاية ثانية، حيث من شأن كرونا أن يسحب منه ورقة الاقتصاد، التي ظل يشهرها في مواجهة معارضيه، مشيرا إلى أنه تقدم في عهده. فإن لم تتدارك الإدارة الأمريكية سريعا آثار كورونا، واستمر الفيروس في غزوه وتوسعه في الداخل الأمريكي، فعلى الأغلب ستكون إحدى نتائجه، إضعاف استراتيجية الضغط الأقصى ضد طهران وفي الوقت نفسه، العقوبات المفروضة عليها على المدى المتوسط.
لكن هذا التوقع ينبني على سناريو، هو أقل خطورة، يشير إلى مستوى متدن لتأثير كورونا على الولايات المتحدة، من دون أن يصل إلى مستوى قلب النظام الدولي والمعادلات التي تأسست عليه منذ سبعة قرون، ففي حال حدث ذلك، ستكون القصة مختلفة، وبحاجة إلى شرح جديد، لأن الوضع سيكون مختلفا جذريا، فحينئذ لن يبقى الغرب مركز ثقل القوة في العالم وسينتهي عهد القطبية الواحدة.