بدت الصين إلى أسابيع قليلة مضت أكثر البلاد تضرّراً من الفيروس، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تبدو بعيدة ومنيعة، وساخرة كحال رئيسها من "الفيروس الصيني"، قبل أن تنقلب الأمور رأسا على عقب فتبدو الصين الأكثر قدرة على التعافي واسترجاع المواقع في حين أن أمريكا لم تر نهاية النفق بعد.
قبل ظهور فيروس كورونا، دخل البَلَدان حرباً تجارية، بقيت مسكوتاً عنها حتى 2018 حين بدأت التحرشات الأمريكية المباشرة، بعيد وصول ترامب للبيت الأبيض، وهي تحرّشات قابلها بلد المليار ونصف بكثير من الإعلان عن الذات في موقف غريب بعض الشيء عن تقاليد سياسات الصين حيث تحاشت دائما المواجهات الحادة مع القوى العظمى كما فعلت طوال الحرب الباردة رغم اختلافها مع طرفيها.
أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ بشكل صريح منذ عام تقريبا أن بلده في الطريق إلى أن يصبح القوة الأولى عالميا في غضون 2025، موعد قريب توجّس منه الأمريكان خيفة، حتى إن كثيرا من المحللين اعتبروا أن فيروس كورونا كان محاولة أمريكية يائسة لتأجيل هذا التاريخ، غير أن مؤشرات اليوم تؤكد العكس، وكأن الفيروس أعطى طوربينات جديدة للصين فتسارعت خطاها نحو مبتغاها.
مسيرة الصعود الصيني
الصعود الصيني ليس مصادفة، فقبل ثلاثة عقود، وخلال حكم دن زياوبينغ كان البلد غارقاً في مشاكله الديمغرافية والسياسية، وقد سخر كثيرون وقتها من تنظيرات خبراء اقتصاد أشاروا بأن الصين ستقفز بعد سقوط الاتحاد السوفييتي إلى ثاني اقتصاد عالمي متجاوزة حتى الجار الياباني الذي احتل هذا الموقع لعقود.
تقدّمت الصين بالفعل إلى ذلك الموقع قبل سنوات قليلة من نهاية الألفية الثانية دون أن يقابل ذلك احتفال بانتصار بل عملت الحكومات المتعاقبة على بذل الجهود بصمت لملاحقة الاقتصاد الأمريكي، وها أن عشرين سنة تمر لتدخل الصين في وضعية أقرب إلى تعادل القوى خصوصاً على مستوى الاقتصاد غير المالي، أي الاقتصادي "البضائعي" الملموس وهو جوهر الاقتصاد في الحقيقة.
وإذا كان هذا التسلق الصيني في سلّم الاقتصاد متيناً ولا يمكن لأحد أن يشكّك فيه، فقد وجد الغرب في ملفات أخرى ما يعيق تحوّل الرأسمال الاقتصادي إلى رأسمال سياسي، وهنا كانت تُرفع بانتظام ورقات حقوق الإنسان والسيطرة على شبكة الأنترنت وقمع الأقليات وغير ذلك.
هذا التشويه وصل في زمن كورونا (الأول) إلى أعلى درجاته، فحتى النجاح في وقف انتشار الوباء أرجعه المحللون في الغرب إلى قمع الدولة دون غيره من الأسباب، وهي عديدة من قدرات طبية ولوجستية وتكنولوجية وموارد بشرية وغيرها.
التخويف الرائج ـ في أوروبا بالخصوص ـ هو أن القبول بمصافحة المارد الصيني يعني القبول بتعميم نموذجه القمعي، ومن هنا بدأت بكائيات كثيرة على خطورة التمدد الصيني على التراث التحرّري والتنويري الأوروبي.
هذا التشويه مقصود، فخصوم الصين يحتاجون إلى حواجز ذهنية لمقاومة طموحات رئيسها غير المخفية في التمدّد، وهو الذي نجح إلى حد كبير منذ توليه الحكم في 2013 في بناء علاقات شراكة قوية في أفريقيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية، ومدّ "طرق الحرير الجديدة" ليربط أسواقه ببلدان وسط آسيا، وربما يصل بها إلى قلب القارة الأوروبية، وهو المشروع الذي يعدّ الأضخم خلال هذا القرن ويقارن بحفر قناة السويس.
التخويف الرائج ـ في أوروبا بالخصوص ـ هو أن القبول بمصافحة المارد الصيني يعني القبول بتعميم نموذجه القمعي، ومن هنا بدأت بكائيات كثيرة على خطورة التمدد الصيني على التراث التحرّري والتنويري الأوروبي.
بلغ التشويه الغربي مداه في قلب أزمة الصين مع الفيروس، ولم يخففه سوى وصول الوباء إلى أوروبا ثم إلى أمريكا الشمالية، فكلما اشتدّت الأزمة بهؤلاء إلا واضطروا بشكل من الأشكال إلى المعونة الصينية، في ما عدا بعض الممارسات العنجهية من الرئيس ترامب والتي تشكّل اليوم نقطة يهاجمه منها خصومه السياسيون على مشارف الانتخابات الرئاسية نهاية هذا العام.
في الحقيقة، استفاق الغرب على أن طرد الصناعات وترك الصين تستقبلها قد تحوّل في الأخير إلى ورقة استراتيجية خطيرة في يد بيكين.
الغفلة العربية
هكذا مع انقشاع الجائحة بالتدريج، بدأ الحجم الحقيقي للعملاق الصيني يظهر. اعتبار الصين قطباً بات حقيقة جيوسياسية لم يعد ممكنا إنكارها. في المقابل، وللأسف لا نرى إلى اليوم موقفاً عربياً واضحا من الصين، إذ تبدو محجوبة في السياسات الخارجية العربية بدوائر أقرب (أوروبا ـ أمريكا ـ روسيا ـ قوى إقليمية كتركيا وإيران)، كما أنها غائبة في نقاشات النخب وتبدو فضاء مغلقا وملغزاً على الجميع.
ولعلّ من أسباب هذه الغفلة عن معرفة الصين، وعن معرفة العالم بشكل عام، هو الانشغال بالاقتتال الداخلي، سواء على المستوى الرمزي أو ضمن التسابق المحموم على مواقع السلطة، وما هي إلا سلطة مغمّسة في التبعية والإملاءات الخارجية.
الخطى الثابتة للصين في صعودها لا تعني اختفاء القوى الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بل يعني فقط معادلة جديدة ولن تكون منطقتنا العربية بمنأى عنها، فهل يمكن أن نتصوّر أن الصين التي تذهب رأساً إلى الوصول إلى عرش الاقتصادي العالمي لن تكون لها كلمة مسموعة في الحروب الدائرة في الشرق الأوسط، أو في سعر برميل النفط، وصولاً إلى المسارات السياسية لهذ البلد العربي أو ذاك؟
إذا تحقّقت مطامح الرئيس شي جين بينغ سريعاً، فإن تغيرات جيوسياسية آتية قريباً. ربما سنكون حيال معادلة تذّكرنا بوضعية حضارية عاشتها أمتنا في مرحلتها التأسيسية، فحين كان الإسلام مجرّد دعوة ثم دولة وليدة كان العرب محاطين بالروم والفرس وهم في حروب متواترة بينهم. كيف لقبائل متفرقة الكلمة أن يكون لها صوت مسموع بين إمبراطوريّتين راسختي الأقدام؟
الخطى الثابتة للصين في صعودها لا تعني اختفاء القوى الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بل يعني فقط معادلة جديدة ولن تكون منطقتنا العربية بمنأى عنها،
لكن، بعد عقود قليلة حدث أن ورثت الدولة الإسلامية أجزاء كبيرة من الأراضي الخاضعة لهاتين القوّتين، كان ذلك بسبب اللحمة الداخلية من جهة، قبل أن تتفتت ويتوقف التوسّع، ومن جهة أخرى كان العرب عارفين بما يدور داخل هاتين القوتين ومواطن الضعف والقوة فيها، بما أتاح حسن المناورة بينهما.
في الأفق، ترتسم اليوم حروب قادمة بين الصين وأمريكا، بعضها خفيّ وبعضها سيكون معلنا، وما علينا سوى أن نبدأ في قراءة الخرائط الجديدة، ولعلّ بعضها سيتشكّل انطلاقا من منطقتنا.
في كل الحالات، وما دمنا في غير موقع من مواقع القوة فإن السبيل إلى التقدّم خطواتٍ إلى الأمام هو هامش المناورة بين القوى المتنفّذة، فلعلّ لنا في صعود بيكين فرصة للخروج من إكراهات خارطة سايكس بيكو وما تعنيه من هيمنة غربية، شريطة ألا نتهافت نحو القبضة الصينية، بل أن نحسن القراءة الجيوسياسية هذه المرة، وإن غداً لناظره قريب.
*كاتب وناشط سياسي من تونس
"منظمة الصحة الصينية" تنُقذ رقبة بطل الهروب إلى الأمام!!
لُطْفاً بِنا.. يا أَيُّها الزُّعَماءُ المُولَعُونَ بالعِدَاء