ظلت الدولة الإسلامية حتى القرن الخامس الهجري تقريبا محصنة ضد محاولات الغزو الاجتياحي الخارجي. صحيح أن المناوشات المتبادلة لم تنقطع بين الدولة الإسلامية بمجسداتها المختلفة وبين الدولة البيزنطية التي لم تكن فقدت قاعدتها الكبرى في الأناضول؛ إلا أن الغزو الاجتياحي في صورتيه الفرنجي "الصليبي" والمغولي لم يقع حتى بداية القرن الخامس الهجري - الثاني عشر الميلادي واستمرت هذه الغزوات أو الحملات على مدى قرنين من الزمان.
ثقافة سلطوية قديمة
على مستوى التاريخ الاجتماعي، وهذا الذي يهمنا في هذا السياق، ترسخ في الوعي المجتمعي للشعوب المسلمة أن هناك خليفة أو سلطانا أو أميرا مهمته أن (يحمي الحوزة) وأن (يصون البيضة) كما كانت تعابير القدماء. أي أن يحمي الملة والأمة. وأن ما على أبناء المجتمع إلا أن يثقوا ويطمئنوا ويسمعوا ويطيعوا..
لقد غابت عن المشهد حقيقة أن كل فرد في الدولة هو جندي في معاركها، كالذي عرفناه وشهدناه أيام تأسيس الدولة الأولى وفتح الفتوحات. هذه العقيدة التي ترسخت في وعي الشعوب وكانت إيجابية، نوعا ما، في عهد القوة والمنعة أصبحت مدمرة وقاصمة للظهر أيام المحن والشدائد وما تزال الأمة تعاني من آثارها المدمرة حتى اليوم.
الإسلام بعقيدته الملهمة وشريعته المعلمة ورجاله المضحين كان دائما وراء حركات التحرر وثورات الشعوب المسلمة، مما يجعله هذه الأيام على رأس قائمة المستهدفين.
مع الدرس الرهيب الذي تلقته الأمة في الأندلس، والذي تمثل بانهيار الممالك بل المجتمعات بانهيار حراسها الرسميين؛ إلا أن أحدا لم يستوعب الدرس أو لم يرد أن يتحمل مسؤولية استيعابه.
ولعل أبرز هذه الدروس وأجلاها هو الصمود الشعبي الرائع يوم حاول الصليبيون الفرنسيون احتلال المنصورة في منتصف القرن الثالث عشر بعد أشهر قليلة من الاحتلال المهين لدمياط. صحيح كان لبيبرس البندقداري فضل في الترتيب وفي رسم الخطة ولكن علينا أن نشهد أن كل أهالي المنصورة كانوا جزء من المعركة.. وعلينا أن نذكر بالإشادة كل عمليات المقاومة التي استتبعت ذلك النصر المبين..
ثم لنتلمس ذلك ثانية في المواقف الشعبية البطولية يوم غزا نابليون بونابرت مصر. تجربة ثرة ببعديها البعد المقاوم الرافض الذي بلغ ذروته على يد الطالب الأزهري القادم من حلب والمعروف بسليمان الحلبي والذي تجرأ على كليبر وكيل نابليون فقتله وانتهى بها المطاف إعداما على " الخازوق " الفرنسي.. جمجمة سليمان ونس الحلبي ما تزال معروضة في أحد متاحف باريس على أنها جمجمة مجرم!!!
والموقف المداهن المتماهي مع الاحتلال والذي لا نزال نرصد له ذيوله في ثنايا المجتمعات دفاعا عن الاستبداد والمستبدين. موقف يتلبس به أدعياء على جميع الخلفيات!!
ولا بد أن نرصد في إطار هذه التحركات أو الثورات الشعبية كل ثورات التصدي للمستعمر الفرنسي في القرن التاسع عشر وفي المقدمة ثورة الأمير عبد القادر الجزائري، وضد المستعمر الإيطالي ثورة عمر المختار وكذا الثورة المهدية ضد الإنكليز في السودان..
إن مراجعتنا العملية المستقصية لكل ثورات المقاومة للتوغل الخارجي في حياتنا الثقافية والسياسة ستجعلنا نقف على حقيقة جوهرية هي أن الإسلام بعقيدته الملهمة وشريعته المعلمة ورجاله المضحين كان دائما وراء حركات التحرر وثورات الشعوب المسلمة، مما يجعله هذه الأيام على رأس قائمة المستهدفين.
وقبل أن ندخل إلى عالم 1919 وثورة المصريين المجيدة يجب أن نراجع كل ما طرحته حركات الإصلاح الديني والوطني في إطار دولة السلطنة العثمانية مطالبة بإصلاحها . في سورية وفي مصر وما كتبه رجال مثل الكواكبي وما نادى به جمال الدين الأفغاني وما بشر به محمد عبدة ورشيد رضا لنخلص إلى حقيقة أن ثورة 1919 إنما كانت ثورة في سياق . وحلقة في سلسلة ، وأنها كانت ملهمة بحسب موقع مصر كوزن حضاري وثقافي ولم تكن رائدة بمعنى أنها لم تكن الأولى في تاريخ الثورات العربية كما يحاول البعض أن يصور.
دروس وملهمات من ثورة 1919..
وبعد الفرنسي دخل الانكليزي مصر وكانت معركة أبي قير عنوانا لانتصار البريطانيين.. حاول القصر المحكوم من ورثة الضابط الألباني أن يتماهى بشكل ما مع القوة المهيمنة التي أصبحت أمرا واقعا.
الدولة البريطانية تعلن الحماية، عنوانا من عناوين الاستعمار، منذ 1882 وظلت كذلك طوال فترة الحرب العالمية ، تستبد بالمصريين وتسخر أرضهم ورجالهم واقتصادهم لمصالحها.
غياب البعد الاجتماعي الجماعي في معركة تحقيق الذات وحمايتها وصيانتها أورثت أمتنا مجموعة من الهزائم الكبرى منذ ما يقرب من ألف عام
أنموذج ثورة 1919 في مصر الذي نحتفل هذه الأيام بمرور مائة عام على انطلاقتها كان تجربة مضيئة وموحية وملهمة في تاريخ مصر والأمة.
كانت وسيلتها الرئيسية الانخراط في المظاهرات الشعبية. وأعمال المقاومة السلبية. وهي سمة مهمة، ومفيدة ومن الضروري أن نظل نؤكد عليها في إطارها السياسي الموضوعي..
المقاومة السلبية أو السلمية سبيل ناجح من سبل المقاومة والتغيير كما كانت في يد غاندي ضد المستعمر الإنكليزي في الهند، ولكنها ليست كذلك ضد مستعمر أو مستبد أسهل شيء عنده أن يغتال رافضيه أو مقاوميه.
وهي مقاومة ناجحة ضد نظام مثل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، يسجن مانديللا الخصم السياسي ويبقيه على اتصال مع العالم وليس مع نظام يقتل معتقليه بالتجويع والتذويب بالأسيد.. حين نذكر سلمية ثورة 1919 ، ونشيد بالتجربة السلمية يجب أن نمتلك كل معطيات الرؤية الموضوعية التي تضع أساليب الثورات في أطرها العلمية السياسية والاجتماعية.
خامسا ـ ثورة 1919 ثورة ملهمة:
وقد كانت ملهمة على صعيد مصر، حركت القاع المصري، كانت استمرارا لثورة عرابي، ثم عتبة على طريق انتزاع الاستقلال المصري. كان "حزب الوفد" المصري بحضوره التاريخي القوي، وكذا حزب الأحرار ومصطفى كامل بحضوره القوي ونكهته المميزة..
ولكن وإذا أعدنا رصف سنوات التاريخ وتأملنا ما بين عامي 1919 بزخمها الأزهري الإسلامي، و1928 حيث انتهض الشاب حسن البنا ليؤسس لمصر جماعتها أو حزبها الركين.. أفلا نستطيع أن نزعم أن ثورة 1919 بكل أبعادها كانت أحد الملهمات القوية لاستعادة الوعي بالذات والتعبير عنها في صورة جماعة الإخوان المسلمين ؟! جماعة الإخوان المسلمين كما هي في حقيقتها وفي واقعها وليس كما يصورها الناقمون.
وكانت ثورة 1919 ملهمة على المستوى العربي:
وذكرنا في ثنايا هذا المقال كيف أن أحرار سوريا وجدوا في مصر التي كانت تتمتع بشيء من الاستقلال الذاتي الوعاء الذي يطرحون من خلاله أفكارهم. ويتبادلون عبر صحفهم ومنابرهم الأفكار مع إخوانهم المصريين .
إن العام 1919 سيسلمنا مباشرة إلى عام 1920، ذكرى "معركة ميسلون في سورية" تموز - يوليو / 1920 كانت هي الأخرى ثورة بمعنى ما، ثورة باستجابة شعبية محدودة لضيق وقت الإعلان.. أن يقرر وزير دفاع تخرج من المدرسة الحربية العثمانية أن يواجه عسكريا فيلقا فرنسيا بعد أن أقدم رئيس الحكومة على حل الجيش الوليد !!..
ثم كان على الشعب السوري الذي وقع نتيجة غدر الحلفاء في قبضة المستعمر الفرنسي أن ينتظر حتى عام 1925 ليفجر ثورته الكبرى التي كانت هي الأخرى منظمة ووطنية وشعبية . كانت الثورة السورية الكبرى 1925 – 1927 منظمة وذات قيادة موحدة ومنتشرة على كل الأرض السورية ، ولكنها مزجت حسب واقع الشعب السوري ، وحسب طبيعة المستعمر الفرنسي بين شكلين من المقاومة فاعتمدت المقاومة السلمية وقاد مسيرتها ما عرف بعد بالكتلة الوطنية . والمقاومة العسكرية وقاد مسيرتها قادة محليون منهم سلطان باشا الأطرش – الذي اعترف بها قائدا عاما للثورة – والذي قاد الحراك الثوري في جبل العرب في أقصى الجنوب . وثوار الغوطة وأحرارها وأبطالها ثم صالح العلي في جبال اللاذقية وإبراهيم هنانو في جبل الزاوية وحلب وسائر قطاع الشمال ..
إن الذي يجب أن نؤكد عليه أن غياب البعد الاجتماعي الجماعي في معركة تحقيق الذات وحمايتها وصيانتها أورثت أمتنا مجموعة من الهزائم الكبرى منذ ما يقرب من ألف عام . بعض الهزائم كان أمام مستبيح خارجي ، وبعضها كان أمام مستبد ظالم داخلي ..
إن أنموذج ثورة 1919 في مصر الذي نحتفل هذه الأيام بمرور مائة عام على انطلاقتها كان تجربة مضيئة وموحية وملهمة في تاريخ مصر والأمة. ولكن ثورة 1919 كانت حلقة في سياق، ومن الغبن للأمة ومعارك جهادها أن نعتبر هذه المعركة هي الأولى أو هي الأخيرة. ولكن من الحق والحقيقة أن تدرس التجربة في إطارها للاستفادة منها، وتوظيفها في مشروع تحرر الأمة من المستبدين، كما تحررت من قبل من المستعمرين.
مدير مركز الشرق العربي
ثورة 1919 بمصر والحركة الوطنية الجزائرية.. التأثير الصامت
الفلسطينيون استلهموا ثوراتهم المتلاحقة من ثورة 1919
لماذا استمرت ديمقراطية ثورة 1919 ونحرت ديمقراطية 2011؟