كتاب عربي 21

المعضلة الكبرى للاقتصاد الليبي

1300x600

يعاني الاقتصاد الليبي من اختلالات بنيوية تشكل أكبر العقبات أمام تطوره منذ ثمانينيات القرن الماضي، وترجع الاختلالات إلى الانقلاب الذي حدث في المسار الاقتصادي بتبني النظام السابق النهج الاشتراكي والذي انتهى بتأميم معظم أنشطة القطاع الخاص ومصادرة الكثير من أملاكه، وإحلال الدولة محله في إدارة الأنشطة الاقتصادية بكافة أنواعها.

لم تنته التجربة بمجرد الفشل، بمعنى عدم تحقق عوائد اقتصادية من تطبيق نظرية الراحل العقيد القذافي الاقتصادية والتي من أبرز شعاراتها: شركاء لا أجراء، والبيت لساكنه، والأرض لمن يحرثها، والسيارة لمن يقودها، والربح ظاهرة استغلالية...الخ، بل راكمت التجربة جملة من العوائق ماتزال هي عنوان ضعف الاقتصاد الليبي.

 

اقرأ أيضا: اقتصاد ليبيا في 2018... تشوهات وضعف مردود الإصلاحات

 

لقد أصبح معظم القادرين على العمل في ليبيا موظفون ومنتجون حكوميون، وبنسبة تتعدى 70% ويعتمدون بشكل كامل على المرتب الشهري من الخزانة العامة، الأمر الذي ضاعف العبء على الميزانية الحكومية، وصار بند المرتبات الأكبر في القيمة من بين أوجه الانفاق العام الأخرى.

ملامح المعضلة بالأرقام

بعد تفجر ثورة فبراير كان رفع مرتبات العاملين في الدولة وسيلة التنافس بين النظام السابق قبل سقوطه وبين سلطة فبراير، فانتهى الأمر إلى زيادة مرتبات معظم العاملين في الدولة بنسبة تصل إلى 50%.

من ناحية أخرى، ولأن الخلل البنيوي القديم ما يزال قائما، فإن المجال الوحيد للتوظف هو القطاع العام، ولذلك ازداد عدد العالمين فيه ليصل إلى 1.8 مليون حسب بيانات ديوان المحاسبة بنهاية العام 2018م، مقابل 670 ألف في تونس التي يبلغ عدد سكانها ضعفي عدد سكان ليبيا، و900 ألف في المغرب وسكانها 5 مرات عدد سكان ليبيا.

تتبع الارتباط بين عدد السكان وعدد العاملين في القطاع الحكومي في الدول المتقدمة، يكشف أن نسبتهم لا تتجاوز 3%، وحتى في الدول شديدة التخلف والريعية، فإن النسبة لا تتعدى 10%، بينما تصل إلى نحو 30% في الحالة الليبية.

 

ينبغي أن يتم التركيز على القطاع الخاص ليكون أهم وسيلة لتسرب العمالة من القطاع العام واتجاه الباحثين عن العمل الذين يخرجهم قطاع التعليم إلى النشاط الاقتصادي الحر وليس الوظيفة الحكومية.


وبحسب التقرير الصادر عن المصرف المركزي منذ أسبوعين، فإن الانفاق على المرتبات للعام 2018م بلغ 23.6 مليار دينار ليبي وبنسبة 66% من الميزانية العامة، وإذا أضفت إليها بند الدعم الحكومي والإنفاق التسييري، وهي أوجه صرف ذات طبيعة استهلاكية، فإن النسبة تصل إلى 92% من النفقات العامة.

هذا الإنفاق الاستهلاكي الضخم لا يقابله معدل إنتاجية ملائم، وما كان لهكذا إنفاق أن يكون ذا مردود اقتصادي جيد، فأعداد كبيرة ممن يتقاضون مرتبات من خزينة الدولة لا يؤدون أعمالا، وجمهرة واسعة  انتاجيتهم الفعلية تقترب من الصفر ويعود ذلك إلى مشكلة ترهل القطاع العام والفشل في إدارة هذا الكم الهائل من العاملين.
 
ما أردت الوصول إليه، أنه وحتى مع تحسن مستوى إنتاج وتصدير النفط وتحسن المستوى العام للأسعار العالمية للخام الأسود، فإن الخلل الهيكلي السابق الإشارة إليه سيحول دون استغلال الموارد المالية بشكل يعالج الوضع الاقتصادي المتردي وسيقف حجر عثرة أمام تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

سبيل المعالجة

الطريق إلى معالجة هذا الاختلال الكبير يكون بإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني على أسس سليمة تحقق التوازن الإيجابي بين القطاعين العام والخاص في إدارة النشاط الاقتصادي بمفهومه الواسع، وهذا يتطلب رؤية وموقفا صلبا من صناع القرار يرافقه حملة توعية كبيرة لتهيئة المجتمع لهذه الجراحة العسيرة.

ينبغي أن يتم التركيز على القطاع الخاص ليكون أهم وسيلة لتسرب العمالة من القطاع العام واتجاه الباحثين عن العمل الذين يخرجهم قطاع التعليم إلى النشاط الاقتصادي الحر وليس الوظيفة الحكومية.

هذا هو الخيار الوحيد لمعالجة التركة الاقتصادية الكارثية، وهو خيار صعب في ظل ثقافة مجتمعية اتكالية ترى في المرتب الحكومي الضمانة للعيش وتأمين المستقبل، وفي ظل انحسار النشاط الاقتصادي الخاص الذي لا تتعدى أصوله 10% من الناتج القومي الإجمالي فيما تتعدى النسبة الـ 50% في دولة دمرتها الحرب وتفرض عليها الخلافات السياسية قيودا وهي لبنان.


التحدي المشار إليه ينبغي بكل السبل مواجهته وكسره من خلال الاقتطاع من الإنفاق الاستهلاكي وتوجيهه إلى إعادة التوازن بين القطاعين وحفز النشاط الخاص للانطلاق والتوسع وفق مسار يمنع الاحتكار ويقلل من سطوة عدد محدود من أصحاب رؤوس الأموال.

منع الاحتكار وغلبة رأس المال الكبير يكون من خلال توسيع مساهمة الأنشطة الاقتصادية المتوسطة والصغيرة عبر إطلاق برنامج تنموي مخطط له بعناية يفسح المجال أمام المشاريع الإنتاجية والخدمية بكافة أنواعها مع العناية أكثر بالبرامج التي تعتمد على التقنية استخداما ومخرجا، إذ أن التركيز عليها يمكن أن يزيد من مساهمة القطاع الخاص في الناتج القومي ويخفض العبء على خزانة الدولة فتكون أحد أهم روافد توسع الأول وتطوره.

الصين الدولة التي تبنت مقاربة اشتراكية متشددة منذ أربعينيات القرن الماضي نهضت اقتصاديا مع بداية الثمانينيات وكان أحد أهم أسباب نهوضها هو الدور الكبير للمشاريع المتوسطة والصغيرة والتي تسهم اليوم بما نسبته 70% من الناتج الإجمالي والبالغ 14 تريليون دولار أمريكي.

مصر الفقيرة في الموارد المالية والمداخيل من العملات الصعبة لم تشهد أزمة سيولة خانقة بعد تراجع مصادر الحصول على الدولار كما وقع في ليبيا، وذلك لأن لديها قرابة 3 ملايين مشروع متوسط وصغير تستوعب أكثر من نصف القادرين على العمل وتحقق مساهمة في الناتج الإجمالي تفوق الـ 30%.

 

اقرأ أيضا: الرئاسي الليبي يقرّ برنامج الإصلاح الاقتصادي ويفرض رسوما