أعلن وزير المالية بحكومة الوحدة الوطنية الليبية
مؤخرا عن
ميزانية موحدة لعموم البلاد، وبرغم عدم إفصاح الوزير عن تفاصيل الميزانية
أو مضامين الاتفاق، فإنه من المؤكد أنه يقصد الاتفاق مع مجلس النواب، وأن حكومة
الوحدة الوطنية هي المعنية بتنفيذ تلك الميزانية.
أولا ينبغي التأكيد على أن توحيد إدارة
المالية العامة للدولة وكيفية التعامل مع الإيرادات والنفقات العمومية مسألة حيوية
وينبغي دعمها، غير أن مفهوم توحيد الميزانية صار مشوها ويمثل حالة تكيف قسري مع
تعقيدات السياسة وتداعياتها، وبالتالي سيكون من المبكر التهليل بهذه الخطوة
والابتهاج بها.
الجانب الذي يعتقد أنه إيجابي في هذه
البادرة هو أن تتحدد الموارد المالية وأوجه الصرف وتصبح تحت سلطة واحدة ورقابة
موحدة، ذلك أن الانقسام الحكومي الراهن وتوابعه جعلت مسألة تحديد الإيرادات وضبط
النفقات في غاية التعقيد، فحتى آخر بيان صدر عن المصرف المركزي، الذي خرج من وضعية
الانقسام وصار موحدا، حول الإيرادات والنفقات للعام 2024م، فإنه لا تظهر فيه
بيانات حول الموارد المالية للحكومة في شرق البلاد ومصروفاتها، والتي قدرت بنحو 50
مليار دينار خلال نفس الفترة.
غير أنه لا ضمانة حقيقية أن يقع هذا التفاهم
الإيجابي في ظل الحالة السياسية المأزومة، ويصبح من غير الممكن تحقيق الأهداف
المرجوة من الاتفاق على ميزانية موحدة في ظل الوضع السياسي والأمني بل والاقتصادي
وحتى الثقافي المتشظي والذي بات يأخذ شكل بنيويا تسقط أمامه فرضية توحيد الإيرادات
والنفقات.
عودنا أطراف النزاع على التماهي مع الضغوط
ومسايرة اتجاه رياح الخارج التي باتت تؤثر بدرجة واضحة في مواقف وخيارات الساسة في
الداخل، ويبدو أن التطورات التي أعقبت التغيير في سوريا ومحاولة استغلال الوضع
الجديد من قبل القوى الغربية لمزيد من التضييق على روسيا وحضورها في
ليبيا من خلال
التقارب بين جبهتي الغرب والشرق في البلاد تجد صدى لها ضمن القوى المحلية
المتصارعة، وقد يكون الإعلان عن توحيد الميزانية العامة ثمرة لهذا الزخم خصوصا وأن
توحيد الميزانية هو مطلب رئيسي ضمن مطالب البعثة الأممية والأطراف الدولية المؤثرة
في الأزمة الليبية.
لا نجاح لميزانية موحدة في ظل استمرار الانقسام الحكومي، ولا أمل في الاتفاق على حكومة واحدة ما لم يتم التوافق على مسائل كلية كشكل الدولة ونظام الحكم وكيفية إدارة الموارد المالية ووضع السلاح والقوى المسلحة...الخ، وأزمة المبادرات المتكررة أنها تتخطى هذه القضايا الكبرى وتتجه إلى معالجة مجتزئة وقاصرة ربما تضاعف من حالة التأزيم ولا تعالجها.
هناك عوائق كبيرة أمام مبادرة توحيد
الميزانية، أولها ترضية الاطراف المتنازعة، فأن يسند مهمة إدارة الميزانية لحكومة
الوحدة الوطنية يعني انتكاسة كبيرة في موقف جبهة الشرق ممثلة في مجلس النواب
والحكومة المكلفة من قبله ومن خلفهم القيادة العسكرية، فهؤلاء نافحوا بقوة لسحب
البساط من حكومة الوحدة الوطنية، وكان اتجاههم اعتماد ميزانية تشرف عليها حكومة
الشرق، وهذا ما وقع العام 2024م.
إن التراجع في الموقف الحاد جدا من حكومة
ادبيبة لن يكون نتيجة مباشرة للضغوط الخارجية إن صح أنها العامل الرئيسي في الوصول
إلى هذا التفاهم، بل إن مكاسب تحققت لهذه الجبهة تجعلها تسير في هذا الاتجاه،
وهذا يعني أنها تحصلت على نصيب وافر من الإيرادات بشكل أو آخر، وليس مجرد الانفاق
من قبل حكومة ادبيبة على مشروعات وبرامج تديرها الحكومة والقوى النافذة في الشرق.
النفقات العامة الثابتة والمعلومة والتي
تمثلها المرتبات لن تكون محل جدل كبير مع التنبيه أنها ستتضخم أكثر وتشكل ضغطا على
النفقات الأخرى التي لا يمكن تقييدها كالدعم والانفاق على مشروعات التنمية وحتى
الإنفاق التسييري والنفقات العسكرية، والتي ستكون سببا لتفجر خلاف، وهنا يمكن
التحدي، ذلك ان النزاع القائم يفرض وضعية تدافع تستلزم تحكما في الموارد المالية
وإنفاقا متزايدا سيهدد التفاهمات حول الميزانية الموحدة، ومن ثم تعود حليمة
لعادتها القديمة.
والخلاصة أن أي تفاهمات لا تركز على الأسباب
الرئيسية للنزاع القائم ولا تعالجها بشكل شمولي ستكون عريضة للإخفاق، ولن تتعدى
كونها ترقيع لفجوات تتسع بسبب الصراع القائم الذي أخذ أبعادا معقدة وتغذيه عوامل
محلية وخارجية.
لا نجاح لميزانية موحدة في ظل استمرار
الانقسام الحكومي، ولا أمل في الاتفاق على حكومة واحدة ما لم يتم التوافق على
مسائل كلية كشكل الدولة ونظام الحكم وكيفية إدارة الموارد المالية ووضع السلاح
والقوى المسلحة...الخ، وأزمة المبادرات المتكررة أنها تتخطى هذه القضايا الكبرى
وتتجه إلى معالجة مجتزئة وقاصرة ربما تضاعف من حالة التأزيم ولا تعالجها.