كتاب عربي 21

الزول كسول؟ يا للهول

1300x600

الزول في العامية السودانية هو "الشخص"، وتقابلها في عامية عرب شرق المتوسط "زلمة"، وصدرت في السنوات الأخيرة، عدة نكات تتعلق بكسل الزول، وقال بعض الباحثين العباقرة، إن شرق السودان فيه مدينة اسمها كسلا تخليدا ـ وإن شئت قل ـ تأكيدا لاعتزاز ـ وإن شئت قل ـ اعتراف السودانيين بكسلهم.

لا تضايقني تلك النكات، لأنني عجنت وخبزت جميع الشعوب العربية ولا أعرف من بينها شعبا يفوق السودانيين نشاطا وحركة، ولكن ضايقني كثيرا أن مطربا خليجيا روى في لقاء تلفزيوني بعض تلك النكات، وكأنها وقائع كان شاهدا عليها، أو نقلها عن صحيح البخاري، وسبب ضيقي مما قال، هو أنه من مطربي المفرشخات، أي الذي يغنون وهم جلوس متفرشخون، ومن حولهم العازفون أيضا متفرشخين.

 

خبزت جميع الشعوب العربية ولا أعرف من بينها شعبا يفوق السودانيين نشاطا وحركة

منذ التاسع عشر من شهر كانون أول/ ديسمبر الماضي، والعديد من مدن السودان تشهد مظاهرات حاشدة، كانت في بادئ الأمر تطالب بتحسين الأحوال المعيشية، وتوفير السلع الاستهلاكية و"النقود"، ثم صارت تطالب برحيل الحكومة ونظامها بالكامل.

 

إقرأ أيضا: بعد اندلاع الاحتجاجات.. ماذا تعرف عن السودان؟ (أسئلة تفاعلية)

عندما أقول إن السودانيين طالبوا حكومتهم بتوفير النقود، فإن ذلك لا يعني أنهم طالبوا بصدقات من الحكومة او زيادة الأجور، بل يعني أن واحدة من أعجب المشاكل التي تواجه كلا من الحكومة والشعب في السودان هي انعدام النقود: تذهب إلى البنك لسحب مبلغ معين فيقولون لك تعالَ بعد أسبوع، ولو كنت مسنودا فقد يعطونك نصف المبلغ الذي تريد، مما أدى إلى تفشي نوع من أحقر أنواع التعاملات الربوية، فلأن خزائن البنوك خاوية كفؤاد أم موسى فإن كثيرين يذهبون إلى الذين يقومون بتخزين النقود في بيوتهم ويشترون منهم النقد السائل مقابل شيكات بنظام ـ مثلا ـ أعطيك شيكا بسبعة آلاف فتعطيني مقابله نقدا بخمسة آلاف ونكون "خالصين"،  فمنذ نحو أربعة أشهر، والسودان يعاني من شح السيولة النقدية، ويبدو أن مطبعة العملة التي تملكها الحكومة تعاني من إعاقة، تستوجب نقل أعضاء مستوردة من الخارج إليها، بالعملة الصعبة، أو طباعة العملة السودانية في الخارج بالعملة الصعبة، ولكن حكومتنا "حالتها صعبة".

عندما خرجت المظاهرات الهادرة في شوارع المدن السودانية، وسقط شهداء- وفي رواية أخرى عملاء، تبارت بعض وسائل الإعلام للقول إن السودان يحاول متأخرا (ربما بسبب كسل أهله الوراثي) اللحاق بركب الربيع العربي، باعتبار أن هذا الربيع بدأ في تونس في أوائل عام 2011.

 

إقرأ أيضا: فايننشال تايمز: احتجاجات السودان برائحة ربيع العرب.. إلى أين؟

هذا الكلام يستفز السودانيين، لأنه يعكس جهل الإعلام بتاريخ السودان الحديث: السودان هو أول دولة في أفريقيا والشرقين الأوسط والأدنى، يسقط شعبه ديكتاتورية عسكرية بسلاح العصيان المدني (أكتوبر 1964)، بل لم يسبقه قط لاستخدام الإضراب السياسي العام كوسيلة للخلاص من نظام حكم، سوى الهند بقيادة المهاتما غاندي، ضد الحكم البريطاني، ومجددا استخدم السودانيون نفس السلاح لإسقاط ديكتاتورية المشير جعفر نميري في نيسان/ أبريل من عام 1985، والمتظاهرون اليوم يقومون بالتعبئة لاستخدام نفس السلاح ضد حكومة المشير عمر البشير، التي هي وليدة انقلاب عسكري حدث في حزيران/ يونيو من عام 1989.

وقبل كل ذلك، فالسودان هو البلد الوحيد في أفريقيا والشرق الأوسط الذي شهد ثورة شعبية (حركة تحرر وطني) مسلحة انتصرت على قوة استعمارية، ففي عام 1885 انتصرت قوات الزعيم محمد أحمد المهدي على الاستعمار التركي، وبقي السودان حرا لأربع عشرة سنة حتى جاء الغزاة البريطانيون واستعمروه في عام 1898.

 

السودان هو البلد الوحيد في أفريقيا والشرق الأوسط الذي شهد ثورة شعبية (حركة تحرر وطني) مسلحة انتصرت على قوة استعمارية

هل يعقل أن يكون شعب بهذه الدينامية والحيوية والقدرة على الفعل والانفعال كسولا بالجملة؟ ولكنني قد أجد بعض العذر لمن يقفون وراء تلك الفرية، فمن حق أي إنسان أن يتساءل: كيف لبلد حصته من نهر النيل هي الأكبر، وله من الأراضي البكر العذراء ما مساحته أكبر من مساحة فرنسا وألمانيا مجتمعتين، أن يشهد مجاعات وأزمات تموينية، ويعتمد على المنح والعطايا، ويحتاج بعض مواطنيه مواد الإغاثة؟

تساؤل في محله والإجابة عليه: الله يجازي اللي كان السبب؛ عندما خاضت مصر حرب حزيران (يونيو) من عام 1967 قامت الحكومة السودانية بتسيير قوافل من القطارات إلى مصر، محملة بالحبوب والزيوت واللحوم الحية إسهاما في المجهود الحربي، ثم جار الزمان على أهل السودان فاستوردوا في عهد الحكومة الحالية البيض من الهند و"النبق" من إيران..

والشاهد: لا ترموا السودانيين بجرائر حكامهم.

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع