كتاب عربي 21

السيسي إذ ينكر وجود ضحاياه!

1300x600

في مقابلته مع قناة "سي بي إس" الأمريكية، أنكر عبد الفتاح السيسي وجود آلاف المعتقلين السياسيين في السجون المصرية، تماما كما زعم في الوقت نفسه أن اعتصام رابعة كان معزّزا بآلاف المسلحين. من ناحية الشكل، يبدو إنكار الأعداد الحقيقية للمعتقلين السياسيين أسهل من إنكار سلمية اعتصام رابعة، فحقيقة الاعتقال السياسي وحجمه وظروفه لا تظهر للعيان؛ كما هو الحال في اعتصام رابعة العدوية الذي كان مفتوحا للجميع، ويبثّ أنشطته للجميع، وقد فُضّ أمام الكاميرات دون أن يظهر أدنى أثر لآلاف قطع السلاح!

يمكن القول إنّ الكذب المفضوح عنوان مناسب لسيرة عبد الفتاح السيسي السياسية منذ صعوده، وهو على الأرجح يعلم أنّ لا أحد يصدقه في هذا العالم سوى المرضى ببعض أنواع الكراهية. وإذا كانت السياسية، لا سيما في العوالم المغطاة بالقهر، تنطوي على حقائق مخفية بالأكاذيب، فالأمر مع السيسي أكثر فجاجة وانفضاحا؛ بالقدر الكافي للتعريف بشخصيته واتجاهاتها النفسية. والحال هذه، يمكننا أن نتوقع الكثير مما لا يغطيه سوى الكذب، كما قلنا في مقالة سابقة عن الاحتمالات الممكنة في ما ورائيات علاقة السيسي بـ"إسرائيل".

 

 

إذا كانت السياسية، لا سيما في العوالم المغطاة بالقهر، تنطوي على حقائق مخفية بالأكاذيب، فالأمر مع السيسي أكثر فجاجة وانفضاحا

لكن من ناحية المضمون، لا الشكل، ينبغي أن يكون الكذب في أمر المعتقلين السياسيين أثقل على النفس. صحيح أن جرح رابعة لم يلتئم، ولكنّ الحدث نفسه انتهى موضعيّا، بينما الاعتقال السياسي أمر قائم ومفتوح ومستمر ومتواصل، كما أنّ الحقيقة في رابعة، ورغم أكاذيب السيسي، أخذت حقّها نسبيّا من الفضاء المفتوح والكاميرات المنصوبة، وشاهد العالم الحقيقة. بكلمة أخرى؛ ثمة مئات آلاف الشهود، وربما الملايين، في العالم على حقيقة اعتصام رابعة، بينما لا يجد المعتقلون السياسيون الآن من يشهد لهم، وعلى معاناتهم، التي يمكن أن نتخيل بعض فظاعاتها من نظام استباح الناس في الشوارع بالشكل الذي رأيناه، وهو نظام ينكر رأسه معاناة ضحاياه بكل هذه البساطة!

في قلب هذه الاعتبارات الأخلاقية، ثمة إمكانية عملية، ففي حين لا يمكن للسيسي إعادة كتابة الماضي ومنع استباحة المعتصمين في رابعة، فإنّه وفي ما يتعلق بالحقّ الشخصي المباشر، يمكنه معالجة أمر المعتقلين السياسيين، والحدّ الأدنى من هذه المعالجة، هو الاعتراف بهم، وبمعاناتهم. الحديث هنا عن الألم الذي يباشره الفرد المضطهد في حكم السيسي، لا عن المعنى السياسي، فسياسيّا يمكن التراجع عن أي خطيئة.

في ما نحن فيه من المعاناة الفردية التي يكابدها كل مضطهد، ولا سيما المعتقل السياسي، يمثل إنكار وجوده، أو إنكار معاناته، الحدّ الأقصى أو ذروة الاضطهاد. فإذا كان الاعتقال في ذاته يمثل جسد المعاناة الرئيس، وكان هذا الجسد تعبر عليه أصناف لا يمكن حصرها ولا تخيلها من المعاناة والعذاب، فإنّ ذروتها في إنكار وجوده، أو إنكار عذاباته؛ لأنّه وبينما كان هذا المعتقل قد اعتقل فعلا، وأكل جسده وشربت روحه من أصناف العذاب، لم يتبق له من مساحة لحقوقه المسلوبة، إلا تلك التي يُعترف فيها بوجوده وبعذاباته، حتى هذه المساحة يغلقها السيسي.

 

 

يمثل إنكار وجوده، أو إنكار معاناته، الحدّ الأقصى أو ذروة الاضطهاد. فإذا كان الاعتقال في ذاته يمثل جسد المعاناة الرئيس
لتقريب المعنى المقصود أقول: إنّ الإقرار بوجود المعقل السياسي وبما يعانيه؛ يشبه قطرة ماء متبقية لضالّ في الصحراء، إهدار قاطع طريق لهذه القطرة، تماما كإغلاق المساحة المتبقية من الأمل أو الحقّ للمعتقل السياسي. إنّها أدنى درجات تصحيح الخطأ، وهي في الوقت نفسه، حين إغلاقها، ذروة عذاباته؛ لأنّها ما تبقى من حقوقه الدالّة على جوهر كرامته الآدمية.

وإذا كان بعض قطاع الطرق لا يكتفون بسلب الناس متاعهم، وإنما يهدرون حياتهم، أو يهدرون ما تبقى لهم من مقومات الحياة ويلقونهم وليمة للصحراء. فالسيسي لم يكتف بسلب الناس حقهم في انقلابه، ولكنه الآن يسلب من ضحاياه ما تبقى لهم من حقّ، أو من أمل، ويسحق آدميتهم باعتبارهم لا شيء، هم والعدم سواء!

المشترك بين إنكاره لسلمية رابعة، وبين إنكاره لحقيقة الاعتقال السياسي لديه، هو إنكاره لضحاياه، في تجلٍّ فاضح لمركب ظاهره الطغيان والسادية وباطنه الجبن وعقد النقص، ولذلك لا يمكن أبدا أن نتوقع أي تصحيح سياسيّ، أو حقوقي، فلا الدافع الأخلاقي متوفر لدى السيسي، ولا الشخصية السويّة، ولا المشروع الوطني، فالرجل لا يملك مشروعا وطنيّا توسّل إليه بإقصاء خصومه، ولكن الأمر على النحو الموصوف سلبا وقطع طريق.