تحول عجيب يلحظه المتابع لسياسة العلاقات الخارجية للنظام المصري، وخير شاهد على هذا التحول غير المدروس، بل والعشوائي، كما كل شيء في مصر بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو، تلك العلاقة التي ساسها النظام المصري مع الشقيقة والجارة السودان.
تاريخ العلاقة بين مصر والسودان تاريخيا لا يمكن وصفها إلا بالمصيرية متعدية الاستراتيجية، كما يريد رأس النظام المصري الآن. فالدولتان تاريخيا جزء لا يتجزأ من بعضهما، وهما امتداد طبيعي وجغرافي وسياسي وسوسيولوجي لبعضهما. فمصير الشعبين لا يمكن فصله أو تجاوز جذوره الممتدة والراسخة، من أجل سياسات وضعية لنظام حتما زائل ومتغير.
العجب في سياسة النظام المصري يكمن في تحول عجيب من حالة السب العلني من إعلامه الموجه تجاه الرئيس السوداني عمر البشير والأخوة في السودان، ووصفهم بأوصاف لا يمكن أن تخرج إلا من دنيء لا أخلاق ولا شرف له.. أن يصف الأخ أخاه بتلك الأوصاف التي وصف بها الشعب السوداني لدليل قاطع على خواء هذا النظام وأبواقه من الأخلاق.
وإذ كانت هذه الشتائم رد فعل على موقف السودان من سد النهضة، والذي ويا للعجب لم يتغير، فإن من حق الدول أن تسعى لمصالحها، وواجب على الحكومات أن تهرول نحو ما تراه نافعا لشعوبها، لكن الأمر في علاقة النظام المصري بالشقيق السودان متعد للسب الإعلامي إلى مراحل الفعل الضار بأمن السودان. ومن ذلك تحريض النظام المصري ومساعدة حركات التمرد في غرب السودان وتدريبهم ومدهم بالسلاح، وتأليب الدولة المنفصلة في الجنوب على حكومة السودان ومدها بالسلاح لزرع فتيل أزمة على الحدود الجنوبية للسودان، وإرسال قوات ومدرعات على الحدود الإرترية لتهديد السودان، وهو ما جعل حكومة السودان تسحب سفيرها من القاهرة، وهو ما يجعل أيضا من تلك الزيارة التي قام بها رأس النظام المصري حالة من الكذب على الذات.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا زار السيسي السودان؟ ولماذا هذا الخطاب الودود المنفتح والطامح لخلق علاقات استراتيجية، بحسب تعبيره؟ ولماذا المطالبة بمد الجسور بين البلدين، كما طالب في مؤتمره الصحفي مع الرئيس السوداني؟
لقد شعر السيسي بالأزمة التي يعيشها بعد قرار السودان إغلاق الحدود أمام تدفق البضائع ومرور الأفراد، وهو ما أثر بشكل كبير على اقتصاد النظام المصري القائم على الهبات من الكفيل الخليجي والذي أغلقت موارده منذ أشهر. كما أن النظام المصري الذي يعلم علم اليقين أن إثيوبيا التي شارفت على الانتهاء من سدها الذي سيصدر الطاقة الكهربائية لجيرانها بأسعار تنافسية؛ سيقضم نصيب مصر من السوق السودانية، فقد سارع النظام لفتح مجال تصدير الطاقة الكهربائية للسودان من أجل إدراك ما يمكن تداركه في هذا السوق الذي سيغلق أبوابه قريبا أمام الطاقة المصرية.
وعلى الرغم من ذلك، فلا تزال القضايا السياسية العالقة تراوح مكانها، إذ لا يزال مثلث حلايب يشكل صداعا دائما لعلاقات البلدين ويمثل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، وهي القضية التي ظلت تمثل مقياسا لتوتر العلاقات على مدى سنوات طويلة. كما تظل قضية سد النهضة معلقة، إذ لم يستطع الجانبان تقليص الهوة بينهما رغم جولات المحادثات المستمرة، ولا يزال السودان هو الأقرب للموقف الإثيوبي منه إلى مصر.
كما أن أوراق الضغط التي كان النظام المصري يلعب بها مع السودان قد ضاعت من يده، فورقة إرتريا ضاعت بعد اتفاق السلام الذي أبرم الأسبوع الماضي بين إثيوبيا وإرتريا (برعاية سودانية)، وكذا ورقة دارفور. فالسودان يسعى بجدية لحلها ويخطو في ذلك خطوات جدية. حتى الملف الاقتصادي فهو في الحقيقة سلاح بيد الحكومة السودانية، وإن كان الظاهر منه مصلحة النظام المصري. فالبدائل الاقتصادية مفتوحة لدى السودان التي تسعى لشراكات دولية مع دول صديقة أهمها تركيا، للخروج إلى فضاءات اقتصادية رافعة وتعوضها عن الاستيراد.
الحقيقة التي يحاول النظام إخفاءها أن تجربة الرئيس السوداني وخبراته السياسية في إدارة الدولة تؤهله بشكل كبير للتغلب على ما بات معروفا عن النظام المصري من الانتهازية واستغلال الشركاء، كما أن البشير من النضج بمكان أن يعرف كيف يدير علاقة مع نظام لا يمكن أن يأمن جانبه، يحركه كفيله الخليجي صاحب الأطماع في موانئ السودان على البحر الأحمر.
رؤية حسن نافعة للتغيير.. بين موقف الجيش والإخوان
انقلاب 30 يونيو... المسرحية التي صدقها البسطاء