جولة جديدة من المباحثات بشأن أزمة سد النهضة في الخرطوم
من جديد وإلى الخرطوم طار وفد
المفاوضات المصري في أزمة سد النهضة ليلتقي وفد إثيوبيا في ضيافة الحكومة السودانية المؤقتة، في جولة جديدة تشهدها الأزمة الممتدة منذ سنوات. ووفق بيان وزارة الري في النظام المصري، فإن الاجتماع ضم بين أعضائه الوفود الفنية والقانونية المشاركة في مفاوضات منفصلة خلال الفترة السابقة، كما حضر الاجتماع مراقبون من الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، راعية المفاوضات. فبعد وصول الأطراف الثلاثة في أزمة السد إلى طريق مسدود، طرحت الولايات الأمريكية نفسها كراعٍ يمكن أن يكون لديه الحل، وهي القاعدة التي على أساسها عقدت جولة المفاوضات في الخرطوم هذا الأسبوع.
من الشجب إلى التمسك تطور كبير في الموقف المصري
بعد أن شجب النظام في مصر الموقف الإثيوبي المتعنت في جولات المفاوضات السابقة وخداع إثيوبيا لأطراف التفاوض بالبدء في ملء خزان السد رغم تعهداتها السابقة بعدم التحرك في المشروع قبل المشاورات الفنية وإتمام ما يمكن الاتفاق عليه بهذا الخصوص، حتى لا يضر السد بدول التفاوض الأخرى. بررت إثيوبيا الصور التي رصدت زيادة في مخزون المياه خلف خزان السد بأنها ناتجة عن الأمطار الموسمية، وهو ما ينافي الحقيقة إذ ظهر أثر ملء الخزان على نقص واضح في منسوب مياه
النيل في كل من السودان ومصر.
ولأن دينامية النظام المصري في مواجهة الآثار المترتبة على السد بدت واضحة خلال مراحل التفاوض، سارعت وزارة الري إلى الانتقال التكتيكي في المفاوضات الأخيرة؛ من شجب الإجراءات الإثيوبية المناهضة لأي حل بوضع أطراف التفاوض أمام الأمر الواقع إلى مرحلة أكثر صرامة بتمسكها بمواقفها، مؤكدة على أهمية تنفيذ مقررات اجتماعات هيئة مكتب الاتحاد الأفريقي بالتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث ويؤمن مصالحها المائية.
موقف المفاوض المصري أجبر الدول الثلاث على الجلوس يوم الاثنين (أي غداة اليوم التالي للاجتماع الأول بحضور الخبراء الفنيين والقانونيين في دول التفاوض)، لبحث سبل التفاوض خلال الفترة القادمة ومناقشة كافة الأطروحات من الدول الثلاث، على أن يلحقه اجتماع سياسي بين الوفود الممثلة لرفع نتائج كل هذه الجلسات للوزراء في اليوم الذي يليه، وهو ما لم تنشر مخرجاته حتى كتابة هذه السطور.
استراتيجية النظام المصري في التمسك بسياسة الفرص الضائعة
طرح الوفد المصري بعقد جلسات للوفود الفنية وإحالة مخرجات هذه الجلسات لاجتماع الوزراء، لا يخرج عن استراتيجية النظام في التمسك بسياسة الفرص الضائعة. فالحكومة الإثيوبية تلعب على عامل الوقت والذي استطاعت من خلاله تنفيذ ما يقارب الـ77 في المئة من مشروع سد النهضة، بما في ذلك ملء جزئي لخزان السد خلال فترة الفيضان.
كما أن اشتعال المواقف بين الأقاليم الإثيوبية والحكومة المركزية يضعف موقف المركز، فحراك بني شنقول، وإعلان أقليم تيقراي المتاخم للحدود السودانية خروجه على الحكومة المركزية وعدم اعترافه بها، وقطع برلمان أديس أبابا علاقته ببرلمان إقليم التيقراي، كلها تنذر بمواجهة وشيكة بين الأقاليم والأعراق المتمردة وأديس أبابا، وفي ظل عدم استفادة النظام في مصر من هذه الحالة الرخوة التي تعيشها الحكومة في إثيوبيا، تجعله منكشفا أمام شعبه. فالوقت الضائع والفرص المهدرة من قبل النظام في مصر كانت كفيلة بوقف المشروع أو على الأقل تحجيمه، بحيث لا يضر المشروع بحصة مصر التاريخية من مياه النيل، والذي من شأنه أن ينتج آثاراً كارثية على حياة 100 مليون مواطن مصري يعيشون على مياهه، وكانت آخر هذه الفرص ذلك الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكي للنظام في مصر بضرب المشروع وإنهاء الأزمة.
تصريحات ترامب ورد آبي أحمد وصمت مريب في القاهرة
في تصريح له الشهر الماضي قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، معلقا على أزمة سد النهضة، إن الوضع خطير، وإنه قد ينتهي الأمر بالقاهرة أن تنسف ذلك السد، وحمّل إثيوبيا دوافع نسف السد إذا ما تم، مضيفا أنه توسط في اتفاق لحل القضية، لكن إثيوبيا انتهكت الاتفاق مما دفعه إلى قطع التمويل عنها.. هكذا كانت إشارات ترامب واضحة لحل أزمة السد على طبق من ذهب للنظام في مصر، الذي لم يحرك ساكنا ولو مستفيدا بتهديد محتمل يمثل ورقة ضغط على أديس أبابا، لكنك أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمـن تنادي.
في المقابل، سمعت أديس أبابا الرسالة جيدا وجاء الرد قويا من آبي أحمد وحكومته وشعبه بالكامل، ففي بيان له ردا على تصريحات ترامب قال آبي أحمد: "سد النهضة هو سد إثيوبيا، والإثيوبيون سيكملون هذا العمل لا محالة، ولا توجد قوة يمكنها أن تمنعنا من تحقيق أهدافنا التي خططنا لها، ولم يستعمرنا أحد من قبل، ولن يحكمنا أحد في المستقبل.. لا يمكن لأحد أن يمس إثيوبيا ويعيش بسلام، والإثيوبيون سينتصرون".
فبدلا من أن يستفيد النظام في مصر من الموقف، رد عليه آبي أحمد قبل أن يرد على ترامب، مع حالة استغراب وتعجب رهيبتين من إثيوبيا من موقف النظام المصري.
موقف الشعب الإثيوبي بعد تصريحات ترامب
التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي بشأن سد النهضة استفزت الشارع الإثيوبي الذي يرى في هذا المشروع طوق نجاة للدولة الفقيرة وعودة لريادة منطقة القرن الأفريقي ودفعة نحو ريادة القارة السمراء كلها. فبالتوازي مع رد آبي أحمد القوي، لم يهدأ الشارع الإثيوبي سواء إعلاميا أو على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، حتى تحولت تصريحات ترامب فرصة للحديث عن السيادة ومدى قدرة الشعب قبل الحكومة على إثبات استقلالية القرار، ودعا الكثيرون لتطوير القدرات الدفاعية لأديس أبابا لمواجهة أي تهديد محتمل، وعلى الخط بدأ الإثيوبيون يؤكدون على طرح خلافاتهم جانبا لمواجهة التحديات المحتملة القادمة من الشمال.
من جانبها عادت وسائل الإعلام الإثيوبية إلى التأكيد على أن مصر، التي تشكل خطرا على المشروع الأمل، لا تعاني من نقص في المياه كما تدعي، وأن النظام في مصر يصر على السيطرة على ما يقارب الــ86 في المئة من مياه النيل ليظل متحكما في القرار الإثيوبي وخانقا لمشاريع التنمية المأمولة، لتحصيل الريادة في القارة على غير ما تمليه الحقيقة ويقره الواقع.
هذا الخطاب الإعلامي الذي تتبناه وسائل الإعلام الإثيوبية تجسد في خطاب الشارع الإثيوبي، وهو خطاب تصعيدي تعبوي يؤثر على المدى البعيد والمتوسط، لكن بالنتيجة فإن هذا الخطاب يترجم ما تفكر فيه أديس أبابا.
أولويات القضايا المصيرية تراجعت باختطاف القرار المصري
هذا التقاعس غير المبرر من النظام في مصر عن القضايا المصيرية، والتي تمثل أزمة مياه النيل وما سيشكله سد النهضة من خطر عليها، ناتج عن اختطاف القرار المصري؛ ليس فقط من العسكر الذين سرقوا إرادة الشعب بانقلاب، بل ممن يدعمهم في الخليج، فالأمر تعدى سباق الزعامة بين مصر والسعودية مثلا الذي تنازل عنه طواعية الرئيس المخلوع مبارك، أو محاولة تحجيم مصر من قبل الإمارات لمصلحة الكيان المحتل في فلسطين، إلى حياة المواطن المصري ومستقبل أبنائه، فلم يعد مقبولا لدى الشارع المصري عمليات الإلهاء التي تجيدها أجهزة الأمن في النظام، أو افتعال معارك جانبية تبعد كثيرا عن المصالح الاستراتيجية للأمن القومي المصري، كالصراع في شرقي المتوسط وتضخيمه، في حين يتنازل النظام طواعية لليونان عن مساحات شاسعة من مياهنا الإقليمية نكاية في تركيا، أو التلويح بمواجهة مع تركيا في ليبيا مثلا، أو إرسال جنود إلى سوريا لمكايدة تركيا، كل ذلك بدافع من الإمارات والكيان الصهيوني، في حين أن مد يد العون لتركيا سيعود بالنفع على الشعبين، ويقوي موقف مصر في أزمتها مع إثيوبيا. لكن سياسات النظام تؤكد كل يوم أن الأجندة المعمول عليها كتبت وتنفذ بيد أعدائنا، ولا خلاص للشعب إلا بخلع هذا النظام.